ثمّ إنّ بعض أعاظم العصر قدّس الله سرّه استدلّ لعدم حجّیة الاستصحاب فی الشبهات الحکمیّة بما حاصله: إنّ الاستصحاب فی الأحکام الکلّیة معارض بمثله دائماً.
وإلیک ملخّص ما أفاده فی توضیح ذلک فی کلام طویل له فی المقام:
إنّ للأحکام مرحلتین: مرحلة الإنشاء والجعل، ومرحلة الفعلیة والمجعول، مثلا الشارع ینشأ وجوب الحجّ على المستطیع مع عدم وجود مکلّف أو مستطیع، فهنا إنشاء الحکم على موضوعه وإن کانت الشرائط غیر موجودة والموانع غیر مفقودة، فإذا وجد الموضوع واجتمعت الشرائط وفقدت الموانع صار فعلیّاً.
والاستصحابات الحکمیّة معارضة دائماً بالاستصحاب العدمی فی مرحلة الجعل والإنشاء، فالمرأة إذا طهرت من الدم ولم تغتسل جرى فی حقّها استصحاب بقاء حرمة الوطی، ولکنّه معارض بعدم جعل الحرمة من أوّل الأمر فیما زاد على زمان الدم، فیتعارض الاستصحابان ویسقطان من الجانبین.
ثمّ أشکل على نفسه باُمور:
1 ـ إنّ استصحاب عدم جعل الحرمة (مثلا) معارض باستصحاب عدم جعل الحلّیة.
فأجاب عنه أوّلا: بأنّه لا مجال لإستصحاب عدم جعل الحلّیة لأنّ الرخصة کانت متحقّقة فی صدر الإسلام لتشریع الأحکام تدریجاً.
وثانیاً: بأنّ التعارض فرع لزوم المخالفة العملیّة القطعیّة، وهنا لیس کذلک کما لا یخفى.
وثالثاً: بأنّه لو تنزّلنا عن جمیع ذلک فنقول: یقع التعارض بین هذه الاستصحابات الثلاث لأنّها فی مرتبة واحدة.
2 ـ إنّ استصحاب عدم جعل الحرمة حاکمة على استصحاب بقاء الحرمة السابقة لأنّ الأوّل سببی والآخر مسبّبی.
وأجاب عنه: بأنّه یعتبر فی حکومة الأصل السببی على الأصل المسبّبی أن یکون التسبّب بینهما شرعیّاً، وهنا لیس کذلک، وبعبارة اُخرى: الملاک کون المشکوک فی أحدهما أثراً مجعولا شرعیّاً للآخر، مع أنّ سببیّة الجعل للمجعول عقلی، ولیست من الأحکام الشرعیّة.
3 ـ إنّ استصحاب عدم الجعل مثبت فی المقام لأنّ الحلّیة من اللوازم العقلیّة لعدم جعل الحرمة.
وأجاب عنه: بأنّ الأصل المثبت إنّما هو فی اُمور لم یکن أمر وضعه ورفعه بید الشارع، أمّا لو کان وضعه ورفعه کذلک فالأصل المثبت لا إشکال فیه، لأنّه إذا رفعه الشارع واقعاً ترتّب علیه جمیع آثاره العقلیّة والشرعیّة (انتهى ما إستفدناه من أبحاثه ومحاضراته قدّس الله سرّه الشریف).
4 ـ ما ورد فی بعض تقریراته عن اُستاذه المحقّق النائینی(رحمه الله) وهو: «إنّ استصحاب عدم الجعل غیر جار فی نفسه لعدم ترتّب الأثر العملی علیه لأنّ الجعل عبارة عن إنشاء الحکم والإنشائیة لا تترتّب علیها الآثار الشرعیّة، بل ولا الآثار العقلیّة من وجوب الإطاعة وحرمة المعصیة مع العلم بها، فصحّ عن التعبّد بها بالاستصحاب فإنّه إذا علمنا بأنّ الشارع جعل وجوب الزکاة على مالک النصاب لا یترتّب على هذا الجعل أثر ما لم تتحقّق ملکیة فی الخارج، وعلیه فلا یترتّب الأثر العملی على استصحاب عدم الجعل فلا مجال لجریانه»(1).
أقول: والجواب عنه ظاهر (والعجب کیف خفى هذا على مثل هذا المحقّق النحریر قدّس الله سرّه) لأنّ ترتّب آثار الحکم کالبعث والزجر والطاعة والمعصیة یتوقّف على کلّ من الجعل والمجعول، أی کلّ واحد من مقام الإنشاء ومقام الفعلیة، وبعبارة اُخرى: یتوقّف على الجعل وتحقّق الموضوع معاً، فیکفی فی عدمها إنتفاء أحدهما، فلو استصحبنا عدم أحدهما وهو الجعل مثلا (کما هو المفروض فی المقام) کفى فی إثبات عدم وجوب الطاعة، وکما أنّ استصحاب بقاء الجعل یجری (ولو قبل تحقّق الموضوع) لإثبات فعلیة التکلیف عند وجود الموضوع، کذلک استصحاب عدم الجعل یجری (ولو قبل تحقّق الموضوع) لإثبات عدم فعلیته عند وجود الموضوع.
هذا بالنسبة إلى ما نقله عن اُستاذه المحقّق النائینی(رحمه الله)، وفی کلامه أیضاً مواقع للنظر:
1 ـ (بالنسبة إلى ما ذکره من أنّ تعارض استصحاب عدم جعل الحرمة مع استصحاب عدم جعل الحلّیة لا یوجب سقوطهما عن الحجّیة لعدم لزوم المخالفة القطعیّة العملیّة) أنّه قد تلزم المخالفة القطعیّة العملیّة، وهو فی مثل استصحاب عدم جعل نجاسة الماء المتغیّر الذی زال عنه التغیّر بنفسه إذا کان الماء منحصراً فیه ولا یکون له ماء آخر، فإنّ استصحاب عدم جعل النجاسة فیه معارض مع استصحاب عدم جعل الطهارة، ویلزم من جریانهما المخالفة القطعیّة العملیّة، لأنّه لو کان طاهراً یجب التوضّی به، ولو کان نجساً یحرم شربه، فیلزم من إجراء الأصلین جواز الشرب وعدم وجوب التوضّی منه.
2 ـ (بالنسبة إلى قوله أنّ الطهارة عبارة عن عدم النجاسة فتکون أمراً عدمیّاً لا یقبل الجعل حتّى یمکن استصحاب عدمه) یرد علیه ما مرّ من أنّ الطهارة والنجاسة أمران وجودیّان، ولکلّ منهما أحکام وآثار شرعیة، ولذلک یجب طهارة ماء الوضوء والماء الذی یرید المکلّف أن یتطهّر به عن الخبث، وإلاّ لا یکون مطهّراً عن الحدث والخبث.
3 ـ (بالنسبة إلى قوله: إنّ فی صورة التعارض یسقط جمیع الاستصحابات الثلاثة) أنّ الاستصحاب الحکمی مقدّم على استصحاب عدم الجعل (عکس ما قد یقال من أنّ استصحاب عدم الجعل مقدّم لکونه سببیّاً) لأنّ الاستصحاب الحکمی بنفسه یکون جعلا لحکم ظاهری، ولذلک یقال: إنّ استصحاب الحکم من قبیل جعل مماثل، فإنّ معنى استصحاب نجاسة الماء الذی زال عنه التغیّر أنّ الشارع جعل له نجاسة ظاهریّة فی هذا الحال، ومع وجود هذا الحکم الظاهری لا یبقى شکّ فی جعل الطهارة، فلا مجال لاستصحاب عدمه.
4 ـ (هذا وما بعده من الإشکال الآتی هو العمدة فی المقام) أنّ الاستصحاب الحکمی (استصحاب المجعول) لا یکون معارضاً لاستصحاب عدم الجعل فی جمیع الموارد والأمثلة، بل کثیراً ما یکون موافقاً له، کاستصحاب طهارة المذی الخارج بعد الوضوء الذی لا یعارضه استصحاب عدم جعل ناقضیة المذی (فإنّ استصحاب عدم الجعل فیه عبارة عن استصحاب عدم الناقضیة کما لا یخفى) بل یعضده، وهکذا استصحاب بقاء الملکیة فی عقد المعاطاة بعد قول المالک الأوّل «فسخت» فإنّه لیس معارضاً لاستصحاب عدم جعل الفسخ رافعاً، وأمّا الملکیّة الحاصلة بالبیع فهى مستمرّة بالإجماع لولا الفسخ، فلا یمکن أن یقال: نحن نشکّ فی جعل الملکیة حتّى فی ما بعد الفسخ، لأنّه عبارة اُخرى عن جعل الفسخ نافذاً، والأصل عدم جعله نافذاً، فهو موافق لاستصحاب بقاء الملکیة، وکذلک بالنسبة إلى کلّ مورد یکون الشکّ فیه فی النقض أو الرفع أو الفسخ.
فلابدّ لمن قام دلیله على عدم جریان الاستصحاب فی الشبهات الحکمیّة وتعارضه مع استصحاب عدم الجعل أن یفصّل ثانیاً بین مواردها فیکون تفصیلا فی تفصیل.
5 ـ إنّ الأساس فی الاستصحاب کما مرّ کراراً إنّما هو بناء العقلاء وسیرتهم، وهى قائمة فی خصوص الموارد التی تکون الغلبة فیها على البقاء، مثل الصحّة والمرض الذی تکون الغلبة فیه على السلامة، وفی الأملاک والمساکن التی تکون الغلبة فیها بقائها على حالها، وأمّا فیما إذا کانت الغلبة على العکس، کما إذا وقعت زلزلة فی بلد من البلاد وخربت أکثر بیوته، ففی مثل هذا المورد لا یعتمد العقلاء على استصحاب بقاء دار زید مثلا، أو إذا شاع مرض مثلا وأهلک غالب سکّان البلد فلا شکّ فی أنّهم لا یعتمدون أیضاً على استصحاب حیاة زید مثلا، ومن هذا القبیل ما نحن فیه، حیث إنّ ظهور الإسلام والشریعة المقدّسة أوجب تزلزلا وتغییراً أساسیّاً بجعل أحکام جدیدة فی کثیر من الموضوعات بحیث صارت الغلبة على وجود الجعل والمجعول، وفی مثله لا تأتی تلک السیرة مع ذلک الملاک، فلا یجری استصحاب عدم الجعل فیه.
فتلخّص من جمیع ذلک أنّ أصل مدّعاه(قدس سره) (الموافق لما ذکره النراقی) أی التفصیل بین الشبهات الموضوعیّة والحکمیّة صحیح وإن لم یتمّ دلیله.