لا إشکال فی أنّه إذا ضممنا نتیجة الأمر الأوّل (وهى کون «لا» نافیة) إلى نتیجة الأمر الثانی (وهى کون الفاعل هو الناس) صار معنى الحدیث هکذا: لیس فی الخارج (أو فی الإسلام بناءً على بعض الطرق) اضرار المکلّفین بعضهم ببعض، أی لا یمضیه الله تبارک وتعالى ولا یجیزه، فیکون نهیاً بلسان فی النفی، أی النفی کنایة عن النهی وعن عدم الإمضاء، وهذا ممّا نعرفه بالرجوع إلى إرتکازاتنا العرفیّة العقلائیّة وممّا نعهده بین التراکیب المتداولة فی اللغة العربیّة وفی غیرها من الألسنة، نظیر ما مرّ آنفاً من قول الرجل لخادمه: «لیس فی بیتی الکذب والخیانة» کنایةً عن أنّ مثل هذه الاُمور ممّا لا ینبغی له ارتکابه فی بیته أبداً، ونظیر ما تداول فی یومنا هذا من قولک: «لیس فی مکتبنا أو فی قاموسنا کذا وکذا».
والنتیجة حینئذ شمول هذه القاعدة أوّلا للأحکام التکلیفیّة والوضعیّة معاً، وثانیاً حکومتها على سائر الأدلّة کما هو کذلک فی بعض الأقوال الاُخر، وإن کان الفرق بینه وبینها عدم شمول هذا القول للأحکام الضرریة فی العبادات کالوضوء الضرری والحجّ الضرری والصوم الضرری وفی التوصّلیات کتطهیر المسجد إذا کان التطهیر منشأً للضرر، بالجملة عدم شموله لتمام الموارد التی لیس الضرر فیها من ناحیة أحکام الشرع، وبهذا یظهر أنّه یمکن أن یعدّ هذا قولا سادساً فی معنى القاعدة.
إن قلت: فکیف أفتى الفقهاء بعدم صحّة العبادات الضرریّة مثل الصوم والوضوء الضرریّین؟
قلنا: إنّ قدماء الأصحاب بل وکثیر من متأخّریهم إستندوا فیها بقاعدة لا حرج، ولم یستندوا إلى قاعدة لا ضرر، مع استدلالهم بها فی أبواب المعاملات مثل خیار الغبن وغیره ممّا یرجع إلى اضرار الناس بعضهم ببعض، فهذا هو شیخ الطائفة فی کتاب الطهارة من الخلاف(1)، والمحقّق(رحمه الله) فی المعتبر(2) والعلاّمة(رحمه الله)فی التذکرة وصاحب المدارک فی المدارک کلّهم استندوا فی مسألة الوضوء الضرری بقوله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَج) ولم نر استنادهم إلى قاعدة لا ضرر فی هذه المسألة وفی غیرها من أبواب العبادات الضرریّة وغیرها من التکالیف التی تکون من حقوق الله، ولا ترجع إلى معاملة الناس بعضهم ببعض، وکذلک غیرهم من الفقهاء الأعلام رضوان الله علیهم فیما حضرنا من کلماتهم، (وأظن أنّ الاستناد بهذه القاعدة فی هذه الأبواب نشأ بین المتأخّرین أو متأخّری المتأخّرین من الأصحاب) وهذا بنفسه من المؤیّدات على مقالتنا، وذلک لصرافة أذهانهم واستقامة أنظارهم فی فهم المفاهیم العرفیّة من الکتاب والسنّة.
هذا ولو تنزّلنا وحکمنا بإجمال القاعدة من هذه الجهة فلابدّ أیضاً من الأخذ بالقدر المتیقّن وهو جریانها فی أبواب المعاملات وفیما ترجع إلى اضرار الناس بعضهم ببعض فقط، فتبقى الإطلاقات الواردة فی غیرها سلیمة عن المعارض والحاکم.
هذا کلّه هو بیان المختار فی معنى الحدیث.