فقد وردت فیه آیات عدیدة فی موارد خاصّة کباب الطلاق والإرث والرضاع والشهادة والوصیّة نهى فیها عن الضرر بحیث یمکن اصطیاد القاعدة من مجموعها، وبعد ضمّ بعضها إلى بعض، ولا أقل من کونها مؤیّدة لما یأتی من الأدلّة.
منها: قوله تعالى فی باب الرضاع: (لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ)(1).
وقد ذکر له تفسیران:
أحدهما: أن تکون صیغة «لا تضارّ» مبنیة على الفاعل، وتکون الباء زائدة و «ولدها» مفعولا بدون الواسطة، فإنّ المضارّة تتعدّى بنفسها، والمعنى حینئذ هو النهی عن اضرار الاُمّ بولدها بترک ارضاعه غیظاً على أبیه لبعض الجهات، وتمسّکاً بعموم ما یدلّ على عدم وجوب الارضاع علیها، وعن اضرار الأب بولده بأن یأخذ للولد امرأة مرضعة ویمنع اُمّه عن ارضاعه (فیتضرّر منه الولد) تمسّکاً بعمومات ولایته على ابنه، وعلى هذا تکون الآیة حاکمة على عموم عدم وجوب الارضاع وعموم الولایة.
ثانیهما: أن تکون «لا تضارّ» مبنیة على المفعول والباء للسببیّة، والمعنى لا تضارّ الوالدة بسبب الولد بأن یترک مجامعتها خوفاً من الحمل، ولا یضارّ الوالد بامتناع الاُمّ عن الجماع خوفاً من الحمل، وبناءً على هذا المعنى تکون الآیة بالإضافة إلى فقرتها الاُولى مقدّمة على العموم ما یدلّ على جواز ترک الجماع مدّة أربعة أشهر، وأمّا بالنسبة إلى الفقرة الثانیة فلا حکومة لها على عموم دلیل، لأنّه لا عموم یدلّ على جواز امتناعها وعدم تمکینها، بل الدلیل على العکس فیدلّ على وجوب التمکین وحرمة الامتناع، فتکون الآیة حینئذ مؤیّدة لذاک الدلیل لا حاکمة علیه.
ومنها: قوله تعالى فی باب الطلاق: (وَلاَ تُمْسِکُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا)(2). حیث ینهى عن الرجوع إلى المطلّقات الرجعیّة وتکراره لا لرغبة فیهنّ بل لطلب الاضرار بهنّ تمسّکاً بعموم ما یدلّ على جواز الرجوع فی الرجعیّات فی مدّة العدّة، فتکون الآیة حاکمة على هذا العموم.
ومنها: قوله تعالى فی باب الطلاق أیضاً: (أَسْکِنُوهُنَّ مِنْ حَیْثُ سَکَنتُمْ مِنْ وُجْدِکُمْ وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَیِّقُوا عَلَیْهِنَّ)(3) حیث ینهى عن الإضرار والتضییق على المطلّقات فی السکنى والنفقة فی أیّام عدّتهنّ، ویکون مفیداً لنا فی المقام إذا کان المراد من التضییق الاکتفاء بالمقدار الأقلّ من الواجب بقصد الاضرار بها تمسّکاً بعموم ما یدلّ على جواز هذا الاکتفاء، فتحکم الآیة حینئذ على ذلک العموم وتقیّده بغیر صورة الاضرار.
وأمّا إذا کان المراد منه اعطاء الأقلّ من مقدار الواجب فتکون الآیة أجنبیّة عمّا نحن فیه لأنّ الاعطاء هذا بنفسه حرام، ولا حاجة فی إثبات حرمته إلى التمسّک بعنوان الاضرار.
ومنها: قوله تعالى فی باب الشهادة: (وَلاَ یُضَارَّ کَاتِبٌ وَلاَ شَهِیدٌ)(4) بناءً على کون «لا یضارّ» مبنیّاً على المفعول، حیث إنّه حینئذ ینهى عن الاضرار بالکتّاب والشهداء بالرجوع إلیهم للکتابة أو الشهادة فی أیّ وقت وساعة، تمسّکاً بعموم ما یدلّ على وجوبهما علیهم (وهو ما ورد فی صدر الآیة من قوله تعالى: (وَلْیَکْتُبْ بَیْنَکُمْ کَاتِبٌ بِالْعَدْلِ) وقوله تعالى: (وَلاَ یَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا)فیکون ذیل الآیة حینئذ حاکماً على عموم صدرها، وأمّا بناءً على البناء على الفاعل فهى أجنبیّة عمّا نحن فیه، لأنّ المعنى حینئذ النهی عن اضرار کاتب الدَین والشاهد علیه بکتابة ما لم یمل والشهادة بما لم یستشهد علیه، أی بکتابة غیر صحیحة وشهادة غیر صادقة، وهو حرام من غیر حاجة إلى عنوان الاضرار.
ومنها: قوله تعالى فی باب الوصیّة: (مِنْ بَعْدِ وَصِیَّة یُوصَى بِهَا أَوْ دَیْن غَیْرَ مُضَارّ)(5)الذی ینهی عن الاضرار بالورّاث بالاقرار بدَین لیس علیه، دفعاً للمیراث عنهم، وتمسّکاً بعموم «الناس مسلّطون على أموالهم» فتحکم الآیة على هذا العموم ویکون مفیداً لنا فی المقصود.
هذه هى الآیات الخاصّة التی وردت فی موارد مختلفة وتدلّ على حرمة الاضرار فی خصوص تلک الموارد وبنحو الموجبة الجزئیّة، ولا یبعد ـ کما مرّ ـ أن یصطاد منها عرفاً قاعدة لا ضرر بنحو کلّی وموجبة کلّیة بإلغاء الخصوصیّة عن مواردها، فإنّ العرف إذا ضمّ بعضها إلى بعض ونظر إلى مجموعها یمکن أن یستخرج منها قاعدة کلّیة تحت عنوان «لا ضرر»، وإن أبیت عن هذا فلا أقلّ من کونها مؤیّدة لسائر الأدلّة.