قد ذکر الفاضل التونی(رحمه الله) لجریان أصالة البراءة شرطین آخرین:
أحدهما: أن لا یلزم من العمل بالبراءة إثبات حکم آخر، وإلاّ لا تجری، کما فی أطراف العلم الإجمالی فإنّ جریان الأصل فی بعضها یثبت وجوب الإجتناب عن الآخر.
ثانیهما: أن لا یلزم من جریانها ضرر على الغیر، کما إذا فتح إنسان قفص طائر فطار، أو حبس شاة فمات ولدها، أو أمسک رجلا فهربت دابته على المالک فلا یصحّ اجراؤها فیها لإثبات عدم الضمان.
أقول: أمّا الشرط الأوّل: فله ثلاث صور: تارةً یکون ما یترتّب على البراءة من الآثار الشرعیّة کجریان أصالة الحلّیة فی الحیوان المتولّد من مأکول اللحم ومحرمه، فیترتّب علیه إباحة جلده ووبره إذا کان المراد من حلّیة أجزاء ما یؤکل لحمه الأعمّ من الحلّیة الواقعیة الظاهریة، ففی هذه الصورة لا إشکال فی جریان البراءة.
واُخرى: یکون الأثر من الآثار العقلیّة کما فی مثال العلم الإجمالی، فإنّ وجوب الاجتناب عن الطرف الآخر لازم عقلی لجریان البراءة فی الطرف الأوّل، فلا إشکال أیضاً فی عدم ترتّب ذاک الأثر علیه لکونه من الأصل المثبت، ولکن هذا غیر مانع عن جریانها فی مورده.
وثالثة: یکون الأثر من الآثار الشرعیّة المترتّبة على عدم الحکم الواقعی، کما إذا فرضنا أنّ إباحة الجلد والوبر فی مثال الحیوان المشکوک الحلّیة هى من آثار عدم الحرمة فی الواقع، ففی هذه الصورة أیضاً لا تجری أصالة الإباحة لأنّها تثبت الإباحة الظاهریة لا الواقعیة.
فظهر أنّ کلام الفاضل التونی(رحمه الله) بالنسبة إلى هذا الشرط تام إذا کان مراده منه الصورتین الأخیرتین، نعم إنّه لا یختصّ بأصالة البراءة، بل هو جار فی سائر الاُصول العملیّة حتّى الاستصحاب، فإنّها لا تجری فی ما إذا کانت مثبتة، وفیما إذا کان الأثر الشرعی مترتّباً على الحکم الواقعی.
أمّا الشرط الثانی: فهو أیضاً لا اختصاص له بأصالة البراءة فکلّ أصل عملی لا یجری إذا أوجب الضرر، هذا مضافاً إلى أنّه لا یختصّ بقاعدة لا ضرر بل یعمّ سائر الأدلّة الاجتهادیّة فإنّها مقدّمة على الاُصول العملیّة.
وإن شئت قلت: لا ینبغی عدّ هذا الشرط من شرائط جریان الاُصول، إذ مع وجود الأدلّة الاجتهادیّة ینتفی موضوع الاُصول العملیّة وهو الشکّ، ولا مجال حینئذ للرجوع إلى الأصل.
وأمّا الأمثلة المذکورة فی کلام الفاضل التونی(رحمه الله) فهى أجنبیة عمّا نحن فیه، لأنّ المرجع فیها قاعدة الإتلاف والضمان، لإطلاق قوله(علیه السلام): «من أتلف مال الغیر فهو له ضامن» فیشمل الإتلاف المباشری والتسبیبی، لصدق الإتلاف علیهما عرفاً، وما نحن فیه من قبیل الثانی.