فحاصل کلام المحقّق الخراسانی(رحمه الله) فیه: أنّه لا یعتبر فی حسن الاحتیاط شیء أصلا بل هو حسن على کلّ حال، إلاّ إذا کان موجباً لاختلال النظام، ولا تفاوت فیه بین المعاملات والعبادات مطلقاً ولو کان موجباً للتکرار فیها.
إن قلت: التکرار عبث لا یترتّب علیه غرض عقلائی ولعب بأمر المولى، وهو ینافی قصد الامتثال المعتبر فی العبادة.
قلنا: أمّا العبثیة فلا تصلح لأن تکون مانعة عن حسن الاحتیاط المستلزم لتکرار العبادة لکونها أخصّ من المدّعى، لإمکان نشوء التکرار عن غرض عقلائی، کما إذا کان فی تحصیل العلم التفصیلی بالامتثال مشقّة وکلفة أو بذل مال وذلّ سؤال.
وأمّا کونه لعباً بأمر المولى ومنافیاً مع قصد الامتثال، ففیه: إنّ مناط القربة المعتبرة فی العبادة هو إتیان الفعل بداعی أمر المولى بحیث لا یکون له داع سواه، فلو أتى بهذا الداعی فقد أدّى وظیفته وإن لم یکن التکرار ناشئاً من غرض عقلائی وکان لاعباً فی کیفیة الإمتثال، لأنّ المنافی إنّما هو اللعب فی أصل الامتثال لا فی کیفیته (انتهى).
أقول: أوّلا: إنّ محلّ البحث فی المقام إنّما هو الاحتیاط الواجب لا المستحبّ، ومجرّد الحسن لا یکون دلیلا على وجوبه.
ثانیاً: إنّ إشکال التکرار لیس منحصراً فی اللغویّة، بل من الإشکالات دعوى الإجماع على حرمة التکرار، خصوصاً بعد ملاحظة عدم کونه مأنوساً فی الشرع المقدّس باستثناء موارد شاذّة، مثل إذا اشتبهت القبلة بین الجهات الأربع، والمعروف فیها تکرار الصّلاة إلى الجهات الأربع، وإن کان المختار فیها أیضاً عدم وجوب التکرار.
ومن الإشکالات عدم تحقّق قصد الوجه وقصد التمیّز، وإن کان المختار عدم وجوبهما أیضاً.
وثالثاً: لا فرق بین اللعب فی الکیفیة واللعب فی أصل العمل لاتّحادهما خارجاً کما لا یخفى، والاتّحاد یوجب سرایة القبح من أحدهما إلى الآخر.
ورابعاً: أنّه لا دلیل على حسن الاحتیاط مطلقاً حتّى فیما إذا قامت أمارة على الترخیص(کما مرّ)، بل لعلّ الدلیل على الخلاف، حیث إنّ دیدن الأئمّة وسیرة أصحابهم على العمل بالأمارات الترخیصیّة وترک الاحتیاط فیها ولو لم یلزم منه اختلال النظام، فکانو(علیهم السلام)یستجیبون دعوة المؤمنین مع وجود احتمال الشبهة فی بیوتهم وأموالهم وطعامهم، ویدخلون فی أسواقهم ویشترون ویأخذون ما فی أیدیهم مع وجود الشبهة فیها أیضاً.
إن قلت: فما هو مورد الأخبار الدالّة على حسن الاحتیاط؟
قلنا: لابدّ من حملها على غیر موارد قیام الأمارات الترخیصیّة، أو علیها ولکن فیما إذا حصلت التهمة والظنّ القوی بالحرمة.
وبالجملة: تحقیق البحث فی المقام یستدعی لزوم ملاحظة موارد وجوب الاحتیاط ثمّ البحث عن شرائط الاحتیاط فی کلّ واحد منها، وقد ظهر ممّا مرّ سابقاً أنّها ثلاثة:
أحدها: الشبهات الحکمیّة قبل الفحص.
الثانی: أطراف العلم الإجمالی.
الثالث: موارد الیقین بالاشتغال الذی یقتضی البراءة الیقینیّة.
أمّا المورد الأوّل: فلا إشکال فی وجوب الاحتیاط فیه من دون شرط، وسیأتی البحث عنه فی بیان شرائط جریان أصالة البراءة.
وأمّا المورد الثانی: فهو مشروط بشرائط مرّ ذکرها: منها: أن تکون الشبهة محصورة، ومنها: کون تمام الأطراف محلا للابتلاء، ومنها: عدم کون واحد من الأطراف مضطرّاً إلیه.
وأمّا المورد الثالث: فلا إشکال أیضاً فی وجوب الاحتیاط فیه بلا شرط. إلاّ إذا أوجب طروّ عنوان ثانوی من قبیل العسر والحرج.
ثمّ إنّه هل یجوز العمل بالاحتیاط وترک الاجتهاد والتقلید؟
وهذا تارةً یبحث عنه فی مباحث العلم الإجمالی (أی الاحتیاط فی أطراف العلم الإجمالی) واُخرى فی ما نحن فیه (أی مطلق الاحتیاط).
والأقوال فیه ثلاثة:
1 ـ ما ذهب إلیه المشهور، وهو عدم الجواز مع إمکان الاجتهاد أو التقلید.
2 ـ ما ذهب إلیه المتأخّرون، وهو الجواز مطلقاً.
3 ـ التفصیل بین ما یستلزم التکرار فلا یجوز الاحتیاط فیه من دون الاجتهاد أو التقلید، وبین ما لا یستلزم التکرار فیجوز.
واستدلّ القائلون بالجواز مطلقاً باُمور:
منها: قوله تعالى فی آیة النفر أو آیة السؤال الذی ظاهره وجوب تحصیل العلم أو وجوب السؤال.
وفیه: أنّ وجوب تحصیل العلم أو وجوب السؤال طریقی لا دلیل على کونه نفسیّاً إلاّ فی باب اُصول الدین، حیث لابدّ فیه من تحصیل العلم التفصیلی ولا یمکن فیه الجمع بین الأدیان المختلفة، لأنّ الموضوع فیه هو العقد القلبی والاعتقاد، وهو لا یحصل إلاّ بالعلم التفصیلی.
ومنها: وجوب نیّة الوجه.
وفیه: ما مرّ سابقاً من أنّه لا دلیل علیه، مضافاً إلى حصولها فی المقام لأنّ قصد الوجه غیر الجزم بالوجه.
ومنها: الإجماع الذی مرّ بیانه فی مباحث القطع فی سؤال السیّد الرضی عن أخیه السیّد المرتضى(صلى الله علیه وسلم) فی مسألة القصر والإتمام بقوله: «الإجماع قائم على أنّ من صلّى صلاة لا یعلم أحکامها فصلاته باطلة» وأجاب السیّد المرتضى(رحمه الله) بأمر آخر غیر المناقشة فی تحقّق الإجماع، وظاهره تلقّیه بالقبول.
وفیه: أوّلا: أنّ الإجماع هنا محتمل المدرک، ولعلّ مدرکه نفس الآیتین (آیة النفر وآیة السؤال) وأشباههما.
وثانیاً: لعلّ مورد السؤال والجواب وبالنتیجة معقد الإجماع ما إذا أوجب الجهل فساد العمل لأنّ الصّلاة الرباعیة غیر الصّلاة الثنائیة، ومحلّ البحث فی المقام ما إذا لم یأت بالمأمور به رأساً.
ومنها: الدلیل العقلی ببیانین:
أحدهما: أنّه لابدّ فی کیفیة الإطاعة والعمل من تبعیة حکم العقل، والعقل لا یرى عمل المحتاط القادر على الاجتهاد أو التقلید إطاعة.
ثانیهما: إنّ للإطاعة مراتب أربعة: الإطاعة العملیّة التفصیلیّة، الإطاعة الظنّیة التفصیلیّةعن طریق الاجتهاد أو التقلید، والإطاعة العلمیّة الإجمالیّة، والإطاعة الظنّیة الإجمالیّة، والعقل حاکم على لزوم رعایة هذه المراتب، فمع إمکان المرتبة العالیة من الإطاعة لا یجوز التنزّل إلى المرتبة الدانیة، وغیر خفیّ أنّ العمل بالاحتیاط مع القدرة على الاجتهاد أو التقلید تنزّل من الإطاعة التفصیلیّة إلى الإطاعة الإجمالیّة.
أقول: الإنصاف أنّ هذا ادّعاء محض، ودعوى بلا دلیل، لأنّ المقصود من الإطاعة هو إتیان المأمور به جامعاً للشرائط، وهو حاصل بالاحتیاط ولو بتکرار العمل أیضاً، ولما عرفت من عدم اعتبار قصد الوجه والجزم فی النیّة، وعدم المنافاة بینه وبین قصد القربة.
نعم لا یخفى أنّ العمل بالاحتیاط لیس شیئاً مقدوراً لکلّ أحد بل لابدّ فیه من تشخیص مواضعه وکیفیّة أدائه، فیجب أن یکون المحتاط إمّا من أهل العلم والإطّلاع، أو یسأل منهم، فالطریق الوحید لغالب الناس هو العمل بالتقلید على فرض عدم الاجتهاد.
هذا کلّه فی المقام الأوّل (أی شرائط العمل بأصالة الاحتیاط).