وأمّا المقام الرابع: (أی الاستدلال بقاعدة المیسور لوجوب غیر المتعذّر من الأجزاء والشرائط فی جمیع أبواب الفقه) فلابدّ أوّلا من ملاحظة أدلّة هذه القاعدة، ثمّ مقدار دلالتها، فنقول: یمکن إثباتها من طرق الروایات وبناء العقلاء:
أمّا الروایات فالعمدة فیها ثلاث روایات یشار إلیها غالباً فی کلمات المتأخّرین:
الروایة الاُولى: نبویّة، وهى قوله(صلى الله علیه وآله): «إذا أمرتکم بشیء فأتوا منه ما استطعتم»، نقلت من طریق الخاصّة مرسلة فی المستدرک، ج2، کتاب الحجّ عن عوالی اللئالی وفی البحار کتاب الصّلاة باب صلاة العراة(1) والموجود فی هذا الطریق «فأتوا به ما استطعتم» بدل «فأتوا منه ما استطعتم».
ونقلت من طریق العامّة فی سنن البیهقی(2) عن أحمد بن حنبل فی سننه عن یزید بن هارون عن أبی هریرة قال: خطبنا رسول الله(صلى الله علیه وآله) قال: «أیّها الناس قد فرض الله علیکم الحجّ فحجّوا»، فقال رجل (وفی روایة: قال عکاشة) أکلّ عام یارسول الله؟ فسکت(صلى الله علیه وآله) حتّى قالها ثلاثاً فقال رسول الله(صلى الله علیه وآله): «لو قلت نعم لوجب ولما استطعتم، ثمّ قال(صلى الله علیه وآله): ذرونی ما ترکتکم، فإنّما هلک من کان قبلکم بکثرة سؤالهم واختلافهم على أنبیائهم فإذا أمرتکم بشیء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهیتکم عن شیء فدعوه».
ونقلت فی سنن النسائی(3) أیضاً، ولکن الموجود فیه «فأتوا به» بدل «فأتوا منه».
ولا شبهة فی أنّ الروایة من طریق الخاصّة من المراسیل، ومن طرق العامّة وإن کانت مسندة ولکن فی طریقها من لا یخفى حالهم، مضافاً إلى أنّها غیر موجودة فی کتب قدماء الأصحاب، وإنّما رواها المتأخّرون نقلا عن عوالی اللئالی، وقد تصدّى للقدح علیه من لیس من عادته القدح فی کتب الأخبار کصاحب الحدائق(رحمه الله).
الروایة الثانیة: هى المرسلة المحکیّة عن کتاب الغوالی أیضاً عن أمیر المؤمنین(علیه السلام) إنّه قال: «ما لا یدرک کلّه لا یترک کلّه»(4).
الروایة الثالثة: هى المرسلة المنقولة عن کتاب الغوالی أیضاً عن أمیر المؤمنین(علیه السلام) أنّه قال: «المیسور لا یسقط بالمعسور»(5).
وهاتان العلویتان أیضاً لا یخفى الإشکال فیهما من ناحیة السند من جهة الارسال.
نعم لا یبعد أن یقال بإنجبار ضعفها (أی ضعف کلّ واحدة من الثلاثة) بعمل المشهور، ولکن إستشکل فیه فی مصباح الاُصول صغرى وکبرى:
أمّا الصغرى فبعدم ثبوت استناد الأصحاب علیها فی مقام العمل، وأنّ مجرّد موافقة فتوى الأصحاب لخبر ضعیف لا یوجب الإنجبار ما لم یثبت استنادهم علیه.
وأمّا الکبرى فبأنّه لو سلّمنا صغرى الاستناد إلاّ أنّه لا یوجب الجبر بعد کون الخبر فی نفسه ضعیفاً غیر داخل فی موضوع الحجّیة (لأنّه من قبیل ضمّ اللاّحجّة إلى اللاّحجّة، أی ضمّ العدم إلى العدم کما مرّ فی محلّه)(6).
ویرد علیه ما مرّ أیضاً فی محلّه من أنّ المیزان فی اعتبار السند الوثوق بالروایة لا الوثوق بالراوی، واستناد المشهور إلى روایة یوجب الوثوق بها، وتمام الکلام فی محلّه، هذا بالنسبة إلى الکبرى.
وأمّا الصغرى فیردّها أنّه إذا أفتى المشهور بشیء ولم تکن فیما بین أیدیهم إلاّ روایة أو روایات معیّنة فإنّ ظاهر الحال استنادهم إلیها فی إثبات الحکم بعد ما علمنا بأنّ عادة قدماء الأصحاب رضوان الله تعالى علیهم کانت على ذکر الفتاوی وحذف الأدلّة.
هذا کلّه بالنسبة إلى السند.
أمّا الدلالة فالمحتملات فی الروایة الاُولى أربعة بناءً على کون النسخة «فأتوا منه»:
الأوّل: أن تکون کلمة «من» تبعیضیة بحسب الأجزاء، ویکون المعنى «إذا أمرتکم بشیء فأتوا من أجزائه ما استطعتم» وهذا هو المطلوب فی المقام.
الثانی: أن تکون کلمة «من» تبعیضیة ولکن بحسب الأفراد، والمعنى حینئذ «فأتوا من افراده ما استطعتم» وهذا خارج عن البحث فی ما نحن فیه ولا ینفعنا فی المقصود، لأنّ الکلام فی المیسور من الأجزاء لا الأفراد.
ویشهد لهذا الاحتمال روایة عکاشة(7) حیث إنّ سؤاله فیها بقوله: «أکلّ عام یارسول الله» إنّما یکون عن وجوب الحجّ فی کلّ سنة فسؤاله عن الأفراد لا الاجزاء.
الثالث: أن تکون کلمة «من» للتعدیة بمعنى الباء فیکون قوله (صلى الله علیه وآله) «فأتوا به» نظیر قولک «أتى به» أو «یأتون به» والمعنى حینئذ «فأتوا بالعمل ما استطعتم» والمقصود منه تکرار العمل بقدر الاستطاعة وتکون الروایة ناظرة حینئذ إلى الأفراد أیضاً.
الرابع: ما ذکره فی مصباح الاُصول من أن تکون کلمة «من» بیانیة وکلمة «ما» موصولة فیکون حاصل المعنى: إنّه إذا أمرتکم بطبیعة فأتوا ما استطعتم من أفراده(8).
هذه هى الاحتمالات المتصوّرة فی الروایة، ولا یخفى أنّ الاحتمال الأخیر ممّا لا وجه له ولا معنى محصّل له، لأنّه لا معنى لأن یکون الضمیر (فی کلمة «منه») بیاناً لکلمة «ما الموصولة» فإنّ الضمیر لا یکون بیاناً بل یحتاج إلى البیان.
وأمّا الاحتمالات الثلاثة الاُخر فالمفید بالمقصود (کما مرّ) إنّما هو الاحتمال الثانی، ولکنّه لا یناسب مورد الروایة کما قلنا.
نعم یمکن أن یقال: إنّ کلمة «شیء» فی الروایة مطلق یشمل کلّ ما یکون ذات أجزاء سواء کانت مستقلّة کما فی صیام رمضان أو غیر مستقلّة کما فی أجزاء الصّلاة.
وإن شئت قلت: یتصوّر الجزء فی الطبیعة ذات الأفراد کما یتصوّر فی المرکّب ذات الأجزاء، حیث إنّ الفرد بعض من الطبیعة وفی الحقیقة جزء منها، وحینئذ مقتضى هذا الاطلاق وجوب الإتیان بالباقی فی کلا الموردین، ولا تضرّنا خصوصیّة المورد لأنّ المورد لا یخصّص.
هذا بالنظر إلى کلمة «من»، وأمّا بالنسبة إلى کلمة «ما» فحیث إنّه یتحمّل أن تکون موصولة ومفعولا لقوله: «فأتوا»، أی فأتوا منه شیئاً استطعتم، ویحتمل أن تکون مصدریّة زمانیّة، والمعنى حینئذ: فأتوا به ما دمتم قادرین أو ما دمتم على الاستطاعة، فلا یمکن الاستدلال بالروایة على المطلوب لإجمالها حینئذ.
والوجه فی ذلک أنّه یتعیّن الاحتمال الثانی بناءً على نسخة النسائی والبحار، أی نسخة «فأتوا به» (فیکون حاصل المعنى حینئذ خذوا به ما دمتم على الاستطاعة) لأنّ مفعول «فأتوا به» إنّما هو کلمة «به» ولا یمکن أن تکون کلمة «ما» مفعولا آخر له حتّى تکون موصولة، کما یتعیّن الاحتمال الأوّل بناءً على النسخة الاُخرى أی نسخة «فأتوا منه» لأنّ «ما» حینئذ یکون مفعولا لقوله «فأتوا» ولا یمکن أن تکون مصدریّة زمانیّة کما لا یخفى، وحیث إنّ نسخ الحدیث مختلفة فیصیر مجملا لا یمکن الاستدلال به.
هذا مضافاً إلى أنّ التمسّک بهذا الحدیث لإثبات مطلوبیّة الباقی یستبطن الدور المحال، لأنّ کون الأجزاء الباقیة مقدورة ومستطاعة للمکلّف شرعاً متوقّف على کونها واجدة للملاک، وهذا فی المرکّبات الشرعیّة لا یحرز إلاّ بتعلّق الأمر بالباقی وإحراز تعدّد المطلوب من قبل، ولا أمر فی البین إلاّ نفس الأمر الوارد فی هذا الحدیث، فکون الباقی مقدوراً متوقّف على تعلّق أمر به، وتعلّق الأمر به أیضاً متوقّف على کونه مقدوراً من قبل، وهذا دور محال، ولا مناصّ عنه إلاّ بإحراز تعدّد المطلوب من قبل، وحینئذ یکون الحدیث مؤکّداً لحکم العقل، ولیس فیه تعبّد شرعی.
ثمّ إنّه لا إشکال فی شمول هذا الحدیث للتکالیف المستحبّة والواجبة معاً، فیکون الأمر الوارد فیه وهو قوله(صلى الله علیه وآله): «فأتوا» مستعملا فی الجامع بین الوجوب والاستحباب، ففی مورد الوجوب یکون المأمور به الإتیان بقدر الاستطاعة وجوباً، وفی مورد الاستحباب یکون المأمور به الإتیان بقدر الاستطاعة إستحباباً، ولا ضیر فی کون مورد الحدیث من المستحبّات لأنّ ذیله من قبیل الکبرى الکلّیة التی لا تخصّصها خصوصیة المورد، واستعمال الأمر فی الجامع لا ینافی المطلوب لأنّ ظاهر الحدیث إنّ حکم المیسور فی کلّ من الواجب والمستحبّ حکم أصله.
هذا کلّه بالنسبة إلى دلالة الروایة الاُولى.
وأمّا الروایة الثانیة وهى قوله(صلى الله علیه وآله): «المیسور لا یسقط بالمعسور» فتقریب الاستدلال بها واضح، لکن یرد علیه:
أوّلا: بمثل ما اُورد على الحدیث الأوّل من أنّ کلمة «المیسور» مردّد بین المیسور من الأفراد والمیسور من الأجزاء، فلا یمکن الاستدلال به، لکونه خارجاً عن محلّ الکلام على أحد الاحتمالین.
لکن یمکن الجواب عن هذا بما مرّ نظیره فی الحدیث الأوّل، وهو اطلاق کلمة «المیسور»
المحلّى بلام الجنس، مضافاً إلى أنّ إشکال خصوصیّة المورد (أفراد الحجّ) لا موضوع له فی هذا الحدیث.
وثانیاً: بأنّ المجموع من الاجزاء واجبة بوجوب استقلالی، والباقی من الأجزاء واجب بوجوب ضمنی، ولیس الواجب بالوجوب الضمنی میسوراً للواجب بالوجوب الاستقلالی، فیتعیّن أن یکون هذا الحدیث مختصّاً بالمیسور من الأفراد ولا یشمل المیسور من الأجزاء.
والجواب عنه: إنّ هذا نوع مغالطة، لأنّ المیسور والمعسور لیسا من أوصاف الوجوب حتّى یتصوّر فیهما الضمنیّة والاستقلالیّة بل إنّهما من أوصاف الواجب، ولا إشکال فی أنّ تسعة الأجزاء میسورة للعشرة عرفاً.
وثالثاً: بأنّه لا إشکال فی اطلاق الحدیث وشموله للمستحبّات، فلم یستعمل النفی أو النهی الوارد فیه (وهو قوله(صلى الله علیه وآله): «لا یسقط») إلاّ فی الجامع بین الوجوب والاستحباب، وحیث إنّه لا مرجّح لأحدهما على الآخر فلا یستفاد من الحدیث إلاّ رجحان الإتیان بما هو المیسور لا وجوبه.
والجواب عنه: أنّ قوله(صلى الله علیه وآله): «لا یسقط» وإن استعمل فی القدر الجامع إلاّ أنّه لا یقتضی مجرّد رجحان الإتیان بالمیسور فی جمیع الموارد بل ظاهره أن تکون مطلوبیّة الإتیان فی کلّ مورد بحسبه ففی مورد الوجوب بنحو الوجوب، وفی مورد الاستحباب بنحو الاستحباب، أی لا یسقط المیسور من الواجب وجوباً ولا یسقط المیسور من المستحبّ استحباباً کما مرّ آنفاً.
ورابعاً: بأنّ التمسّک بهذا الحدیث لوجوب المیسور من الأجزاء یستبطن الدور المحال کما مرّ نظیره فی الحدیث الأوّل.
أقول: هذا الإشکال وارد على الاستدلال بهذا الحدیث کما کان وارداً على سابقه، ولا مناصّ عنه إلاّ بإحراز تعدّد المطلوب فی المرکّبات الشرعیّة من قبل، وحینئذ یکون مؤکّداً لحکم العقل، فلیس فی الحدیث تعبّد شرعی حینئذ کما مرّ.
وخامساً: بما ذکره فی مصباح الاُصول من «أنّ السقوط فرع الثبوت وعلیه فالروایة مختصّة بتعذّر بعض أفراد الطبیعة باعتبار أنّ غیر المتعذّر منها کان وجوبه ثابتاً قبل طروّ التعذّر، فیصدق إنّه لا یسقط بتعذّر غیره، بخلاف بعض أجزاء المرکّب، فإنّه کان واجباً بوجوب ضمنی قد سقط بتعذّر المرکّب من حیث المجموع فلو ثبت وجوبه بعد ذلک فهو وجوب استقلالی وهو حادث، فلا معنى للإخبار عن عدم سقوطه بتعذّر غیره، وکذلک الحال فی المرتبة النازلة فإنّ وجوبها لو ثبت بعد تعذّر المرتبة العالیة لکان وجوباً حادثاً جدیداً لا یصحّ التعبیر عنه بعدم السقوط، فإرادة معنى عام من الروایة شامل لموارد تعذّر بعض الأفراد، وموارد تعذّر بعض الأجزاء وموارد تعذّر المرتبة العالیة تحتاج إلى عنایة لا یصار إلیها إلاّ بالقرینة»(9).
أقول: لیس هذا إلاّ دقّة عقلیّة فی مسألة عرفیّة لا یعتنی بها أهل العرف، حیث إنّ المرتبة النازلة تعدّ عند العرف میسورة من المرتبة العالیة، وتکون تسعة أجزاء مثلا تابعة وبقیة لعشرة أجزاء فی نظره، لا أمراً حادثاً بعدها حتّى یکون وجوبها أیضاً وجوباً حادثاً جدیداً فلا یصحّ التعبیر عنه بعدم السقوط.
فتلخّص من جمیع ما ذکرناه أنّ الوارد من هذه الوجوه هو الوجه الرابع، وعلیه لا یتمّ الاستدلال بهذا الحدیث فی المقام.
أمّا الروایة الثالثة: وهى قوله (علیه السلام): «ما لا یدرک کلّه لا یترک کلّه» فیرد على الاستدلال بها فی ما نحن فیه إثنان من الإشکالات الخمسة الواردة على الروایة السابقة:
أحدهما: إجمال کلمة «کلّ» ودورانه بین المجموع بحسب الأفراد والمجموع بحسب الأجزاء.
والجواب عنه هو الجواب، وهو اطلاق ما الموصولة الواردة فی الحدیث، مضافاً إلى أنّ ظهور کلمة «کلّه» فی الأجزاء أشدّ من ظهوره فی الأفراد کما لا یخفى.
الثانی: إجمال قوله(علیه السلام): «لا یترک» ودورانه بین إرادة الوجوب بالخصوص وإردة الأعمّ من الوجوب والندب، فلا یمکن الاستدلال بها لأنّه بناءً على الاحتمال الثانی لا یستفاد منها وجوب الإتیان بالباقی.
والجواب عنه أیضاً هو الجواب، وهو أنّ ظاهر الحدیث کون حکم ما لا یترک فی کلّ من الواجب والمستحبّ حکم أصله.
نعم، یرد علیها ما أُورد على الروایتین السابقتین، وهو لزوم إحراز تعدّد المطلوب من قبل، ومعه تکون الروایة مؤکّدة لحکم العقل، ولیس فیها تعبّد شرعی.
وإن شئت قلت: أنّ قاعدة المیسور قاعدة عقلائیّة یعمل به العقلاء فی ما إذا علم تعدّد المطلوب (أی مطلوبیّة الباقی مضافاً إلى مطلوبیة المجموع) من قبل فتکون جمیع الروایات ناظرة إلیها، ولیس فیها تعبّد شرعی.
هذا کلّه فی مدلول أحادیث الباب.
وأمّا بناء العقلاء فقد مرّ بیانه فی تفسیر الأحادیث، وحاصله أنّه إذا کان هناک مطلوب له درجات مختلفة یستقلّ بعضها عن بعض، أو کان هناک مطلوبات مختلفة تترتّب مجموعها على مجموع أجزاء المرکّب وبعضها على بعض، فلا یشکّ أحد فی وجوب الأجزاء التی یترتّب علیها بعض مراتب المطلوب أو بعض المطلوبات المختلفة، ولا یزال العقلاء من أهل العرف یعبّرون فی هذه الموارد بتعبیرات قریبة ممّا ورد فی روایات القاعدة، حتّى صار عملهم فی بعضها من قبیل ضرب المثل بینهم، ممّا لا یخفى على المتتبّع.
بقی هنا اُمور:
الأمر الأوّل: قال فی مصباح الاُصول: «لم یعلم من الأصحاب العمل بقاعدة المیسور إلاّ فی الصّلاة، وفیها دلیل خاصّ دلّ على عدم جواز ترکها بحال فلم یعلم استنادهم إلى الروایة المذکورة»(10).
ولکنّه لیس بتامّ لتعرّضهم لها فی سائر الأبواب أیضاً، فقد تعرّض لها صاحب الجواهر فی باب الوضوء فی أحکام الجبیرة (کما وردت أیضاً فی الحدیث الوارد فی باب الجبیرة، وهو ما رواه عبدالأعلى مولى آل سام قال: قلت لأبی عبدالله(علیه السلام): عثرت فانقطع ظفری فجعلت على اصبعی مرارة فکیف أصنع بالوضوء؟ قال: «یعرف هذا وأشباهه من کتاب الله عزّوجلّ، قال الله تعالى: ما جعل علیکم فی الدین من حرج، امسح علیه»(11)، فإنّ مقتضى قاعدة نفی الحرج وجوب المسح على البشرة وأمّا وجوب المسح على المرارة فلیس إلاّ بقاعدة المیسور کما لا یخفى) ولم یستشکل فیها بعدم عمل الأصحاب لها فی غیر باب الصّلاة، بل إستشکل فیها بأمر آخر یأتی ذکره فی الأمر الثانی، والمتتبّع فی کلامه وکلام غیره یجد موارد کثیرة فی غیر أبواب الصّلاة استندوا فیها إلى هذه القاعدة، وإلیک شطر منها:
1 ـ فی الجواهر فی أحکام الجبائر فی ذیل کلام المحقّق (من کان على بعض أعضاء طهارته جبائر فإن أمکنه نزعها أو تکرار الماء علیها حتّى یصل البشرة وجب): «... نعم یمکن أن یقال: یجتزی به (أی بتکرار الماء إذا حصل منه إصابة من غیر تحقّق للجریان الذی بدونه لا یتحقّق الغسل) ویقدّم على المسح على الجبیرة عند تعذّر النزع والغسل، لکونه أقرب إلى المأمور به، أو لأنّ مباشرة الماء للجسد واجبة للأمر بالصبّ ونحوه، والغسل واجب آخر، وتعذّر الثانی لا یسقط الأوّل، إذ لا یترک المیسور بالمعسور، وما لا یدرک کلّه لا یترک کلّه»(12).
2 ـ وفیه فی أحکام الجبائر أیضاً عند نقل کلمات الاُستاذ الأکبر فی شرح المفاتیح: «ثمّ أیّده بقوله(علیه السلام): لا یسقط المیسور بالمعسور»(13).
3 ـ وفیه أیضاً فی باب غسل المیّت فی ذیل کلام المحقّق(رحمه الله) (إذا وجد بعض المیّت فإن کان فیه الصدر أو الصدر وحده غسل وکفن وصلّى علیه ودفن): «فیدلّ على تلک الأحکام الاستصحاب ... وقاعدة عدم سقوط المیسور بالمعسور وما لا یدرک کلّه لا یترک کلّه»(14).
4 ـ وفیه فی باب غسل المیّت أیضاً: «وهل یلحق بالصدر بعضه کما هو قضیّة بعض الأدلّة السابقة من الاستصحاب وعدم سقوط المیسور بالمعسور ...»(15).
5 ـ وفیه فی نفس الباب فی مسألة الصّلاة على القطعة ذات العظم: «وکیف کان فیؤیّد ما ذهب إلیه الاسکافی بعد الاستصحاب وقاعدة المیسور ...»(16).
6 ـ وفیه فی نفس الباب وفی نفس المسألة أیضاً: «فإن لم یکن له عظم إقتصر على لفّه فی خرقة ودفنه، وقد یؤیّده ما سمعت من القاعدة السابقة (قاعدة المیسور) لعدم معارضة الإجماع بها هنا»(17).
7 ـ وفیه فی نفس الباب فی مسألة عدم جواز الاقتصار على أقلّ من الغسلات المذکورة إلاّ عند الضرورة: «... وکأنّه لقاعدة المیسور والاستصحاب على بعض الوجوه»(18).
8 ـ وفیه فی ذیل کلام المحقّق(رحمه الله) فی کتاب الحجّ (إذا نذر الحجّ ماشیاً وجب أن یقوم فی مواضع العبور): «لخبر السکونی ... ولأنّ المشی یتضمّن القیام والحرکة، ولا یسقط المیسور منهما بالمعسور»(19).
9 ـ وفی کتاب الطهارة لشیخنا الأعظم الأنصاری(رحمه الله) فی أحکام الجبائر حاکیاً عن الذکرى: «لو التصق بالجرح خرقة أو قطنة أو نحوهما وأمکن النزع وإیصال الماء حال الطهارة وجب کما فی الجبیرة، وإلاّ مسح علیه، ولو استفاد بالنزع غسل البعض الصحیح، فالأقرب الوجوب لأنّ المیسور لا یسقط بالمعسور»(20).
10 ـ وفی موضع آخر منه فی نفس الباب: «ولو ألصق الحاجب عبثاً أو التصق به اتّفاقاً وتعذّر نزعه فصرّح فی الذکرى بإلحاقه بالجبیرة، وهو حسن بناءً على أنّ حکم الجبیرة المتعذّر نزعها مطابق للقاعدة المستفادة من قولهم المیسور لا یسقط بالمعسور ...»(21).
لکن الشیخ(رحمه الله) إستشکل بعد ذلک فی ثبوت القاعدة فی مثل المقام لاُمور تختصّ به (بالمقام).
11 ـ وفیه أیضاً: «ثمّ إنّک لتعرف ممّا ذکرنا من حکم الجروح والقروح الکائنة فی محلّ الغسل حکم الکائن منها فی محلّ المسح فیمسح على الجبیرة مراعیاً لکیفیة المسح على البشرة، وفی وجوب تکرار الماء حتّى یمسّ البشرة وجه استظهره جامع المقاصد تمسّکاً بقاعدة المیسور لا یسقط بالمعسور»(22).
12 ـ وقال فی باب غسل المیّت عند فقد الماء للغسلات الثلاثة: «... فیه إنّ المستفاد من أدلّة عدم سقوط المیسور بالمعسور وجوب إیجاد الجزء المقدور على النحو الذی وجب إیجاده حال إنضمام غیر المقدور إلیه»(23).
13 ـ وقال فی ذلک الباب عند فقد السدر والکافور فی توجیه وجوب الغسل بماء القراح ثلاثاً: «... فالأولى التمسّک بأدلّة عدم سقوط المیسور بالمعسور حیث إنّها جاریة فی المقام عرفاً»(24).
ویتحصّل من جمیع ذلک وأشباهه أنّ الاستناد إلى القاعدة فی غیر أبواب الصّلاة من ناحیة أساطین الفنّ مثل صاحب الجواهر وشیخنا الأنصاری والمحقّق الثانی والشهید رضوان الله علیهم لیس بعزیز.
الأمر الثانی: فیما أورده صاحب الجواهر(رحمه الله) على القاعدة، وهو: «إنّ الاستدلال بقاعدة المیسور موقوف على الانجبار بفهم الأصحاب، وإلاّ لو أخذ بظاهره فی سائر التکالیف لأثبت فقهاً جدیداً لا یقول به أحد من أصحابنا»(25).
ولعلّ مقصوده من سائر التکالیف مثل الصیام، فإنّه لا یجوز فیه التبعیض لا من ناحیة الزمان بحیث یکتفى ببعض الیوم إذا لم یقدر على الصوم فی تمامه، ولا من ناحیة المفطرات بحیث لو قدر على ترک عشرة منها مثلا ولکن لم یقدر على ترک اثنین منها وجب علیه أن یترکها (نعم قد یقال فی جواز الشرب عند شدّة العطش بلزوم الاکتفاء بقدر ما یمسک به الرمق، ولکنّه أیضاً غیر مسلّم)، ومثل الصّلاة إذا لا یقدر المکلّف إلاّ على بعض رکعاتها فلا یجوز له الاکتفاء به، ومثل الغسل إذا لم یجد الماء لتمام الغسل فلا یجوز أن یکتفی بغسل بعض الأعضاء، استناداً إلى هذه القاعدة، وهکذا الوضوء فیما إذا لم یجد الماء إلاّ لغسل بعض الأعضاء، وباب الحجّ إذا لم یقدر على بعض الوقوفات أو بعض الطواف، إلى غیر ذلک من أشباهها، فلو إکتفینا بجمیع ذلک للزم منها فقه جدید لا یلزم به أحد.
إن قلت: ما الوجه فی کون المعیار فی العمل بهذه القاعدة هو عمل الأصحاب مع أنّها عامّة؟
قلنا: الوجه فی ذلک أنّ الأخذ بظاهر القاعدة وبعمومها یستلزم تخصیص الأکثر وهو مستهجن، فیستکشف منه أنّه کان للقاعدة معنى آخر لوجود قرائن خاصّة محفوفة بها لم تصل إلینا، وحینئذ لابدّ من الاکتفاء بتطبیقات أصحابنا الأقدمین رضوان الله علیهم، وعلیه یکون مصیر قاعدة المیسور مصیر قاعدة لا ضرر فی قلّة فائدتها وسقوط عمومها عن الحجّیة إلاّ فیما عمل به الأصحاب (للزوم هذا المحذور بعینه فیها أیضاً بناءً على العمل بعمومها، وذلک لخروج مثل باب الحجّ والزکاة والجهاد وأبواب الحدود وغیرها من الواجبات المشتملة على الضرر).
أقول: الإنصاف أنّه من المستبعد جدّاً وجود قرائن خاصّة محفوفة بخبر المیسور (وکذلک خبر لا ضرر) لم تصل إلینا، والذی أوجب اختیار مثل صاحب الجواهر(رحمه الله) هذه الفرضیّة أنّه لم یتمکّنوا من حلّ مشکلة التخصیص بالأکثر، ولکن الصحیح عدم لزوم هذه المشکلة لا فی باب قاعدة لا ضرر ولا فی المقام.
أمّا فی الأوّل فلعدم کون ما یتوهّم شموله على الضرر ضرریاً فإنّ مثل الزکاة والجهاد ممّا یتوقّف علیه حفظ نظام المجتمع، ومصلحة العامّة من الأمن والأمان، وإیجاد الطرق وتهیئة رجال الأمن والجنود، والحجّ عزّ للإسلام یوجب شوکة المسلمین، وهکذا غیرها من الواجبات التی مصالحها ومنافعها أکثر من المصارف المالیة والجهود البدنیة، فیحکم العقل قطعاً بعد کسر وإنکسار بعدم کونها ضرریّة، ولذا قد نشاهد نظائرها بین العقلاء من أهل العرف، کأخذ الضرائب والمکوس لحفظ نظام المجتمع.
وأمّا قاعدة المیسور فلما مرّ من أنّها لا تدلّ على أکثر ممّا هو ثابت بین العقلاء، وناظرة إلى إمضاء القاعدة الموجودة عندهم فیما ثبت فیه تعدّد المطلوب والملاک، فإنّهم یتمسّکون بها فیما إذا ثبت من الخارج أنّ العمل الفلانی اشتمل على ملاکات مختلفة بین ناقص وتامّ، بعد تعذّر شیء منها، والأمثلة المذکورة فی توضیح کلام صاحب الجواهر ممّا لم یثبت فیه تعدّد المطلوب فلیست مشمولة للقاعدة حتّى یلزم من إخراجها تخصیص الأکثر.
والشاهد على هذا ما ورد فی کلام أمیر المؤمنین(علیه السلام) فی نهج البلاغة: «ولو أقام لأخذنا میسوره»(26) حیث إنّ الخطبة وردت فیمن ابتاع سبی بنی ناجیة من عامل أمیر المؤمنین(علیه السلام)وأعتقهم، فلمّا طالبه بالمال خان به وهرب إلى الشام، فیکون المورد من الاُمور المالیة التی لا إشکال فی کون الملاک فیها متعدّداً.
الأمر الثالث: قد یقال: إنّ جریان قاعدة المیسور یتوقّف على أن یصدق میسور الطبیعة على الباقی عرفاً، ویستدلّ له بأنّه المستفاد من قوله (ع): «المیسور لا یسقط بالمعسور» بدعوى «أنّه یحتمل فی بادی النظر وجوهاً أربعة: الأوّل: أنّ میسور الطبیعة لا یسقط بمعسورها. الثانی: أنّ الاجزاء المیسورة من الطبیعة لا یسقط بالمعسور من اجزائها. الثالث: أنّ الطبیعة المیسورة لا یسقط بالمعسور من أجزائها. الرابع: عکس الثالث، فعلى الأوّل والثالث یدلّ على المقصود وأنّه لابدّ أن یکون المأتی به صادقاً علیه الطبیعة بوجه من الوجوه، ولا یبعد أظهریّة الاحتمال الأوّل، ویمکن أن یقال: المتیقّن من الحدیث هو میسور الطبیعة المأمور بها»(27).
أقول: إنّ وحدة السیاق تقتضی کون المراد من المعسور نفس ما اُرید من المیسور، فیسقط حینئذ الاحتمال الثالث والرابع، ویدور الأمر بین الاحتمالین الأوّلین، والأقرب منهما هو الأوّل کما مرّ، وهو یقتضی صدق عنوان میسور الطبیعة عرفاً على الباقی، ولکن لا یبقى موضوع لهذه الدعوى مع ما مرّ من أنّ الملاک إحراز تعدّد المطلوب، وإنّ بناء العقلاء على الإتیان بالمیسور فیما إذا أحرز تعدّد المطلوب، سواء صدق على الباقی أنّه میسور الطبیعة أم أنّه بعضها.
إلى هنا تمّ الکلام فی قاعدة المیسور.
بقی هنا شیء:
وهو ما ذکره المحقّق الخراسانی(رحمه الله) فی ذیل البحث عن الأقل والأکثر الارتباطیین من أنّه إذا دار الأمر بین جزئیّة شیء أو شرطیّته، وبین مانعیته أو قاطعیته لکان من قبیل المتباینین ولا یکاد یکون من الدوران بین المحذورین، فیکون الواجب الاحتیاط (خلافاً لما ربّما یظهر من الشیخ الأنصاری(رحمه الله) من کونه من الدوران بین المحذورین، وأنّ الأقوى فیه هو التخییر).
أقول: الفرق بین المانع والقاطع أنّ الأوّل یمنع عن تأثیر المقتضی فیقابل الشرط الذی یکمّل اقتضاء المقتضی، ویوجب إتمام تأثیره، وأمّا الثانی فهو ما یتخلّل بین الأجزاء ویقطع المقتضی، فهو یمنع عن وجود المقتضی، بینما الأوّل یمنع عن تأثیره بعد وجوده.
وکیف کان، الحقّ مع المحقّق الخراسانی(رحمه الله)، أی یکون المقام من قبیل دوران الأمر بین المتباینین، لأنّ دوران الأمر بین المحذورین یتصوّر بالنسبة إلى العمل الواحد، وفی ما نحن فیه یمکن إتیان العمل مرّتین، أی تکرار العبادة بقصد الرجاء، وفعلها تارةً مع ذلک الشیء المشکوک، واُخرى بدونه.
إلى هنا تمّ البحث عن المقام الثانی من المقامات الثلاثة لمبحث الاشتغال (وهو دوران الأمر بین الأقل والأکثر الارتباطیین.