والأقوال فیه ثلاثة:
1 ـ حرمة المخالفة القطعیّة ووجوب الموافقة القطعیّة (أی حرمة الموافقة الاحتمالیّة مضافاً إلى حرمة المخالفة القطعیّة) وهذا هو المشهور بین الاُصولیین رضوان الله علیهم.
2 ـ التفصیل بین المخالفة القطعیّة والموافقة القطعیّة بأنّ الاُولى حرام وإنّ الثانیة مباحة، وذهب إلیه المحقّق القمّی(رحمه الله).
3 ـ جواز المخالفة مطلقاً سواء کانت قطعیّة أو احتمالیّة، وهو المحکی عن العلاّمة المجلسی(رحمه الله).
ومنشأ النزاع والاختلاف فی المقام هو أنّ العلم الإجمالی هل هو علّة تامّة لحرمة المخالفة ووجوب الموافقة: أو یکون علّة ناقصة لهما؟ وفیه مذاهب ثلاثة:
1 ـ کونه علّة تامّة بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعیّة والاحتمالیّة معاً وأنّ العقل یحکم مستقلا بها ولا یمکن ردعه من جانب الشارع المقدّس، وهو المنسوب إلى المحقّق الخراسانی(رحمه الله)فی المقام.
2 ـ کونه مقتضیاً فی کلا المقامین، فیمکن إیجاد المانع من ناحیة الشارع، وهو مقتضى القول المنسوب إلى العلاّمة المجلسی(رحمه الله) ومختار المحقّق الخراسانی(رحمه الله) فی مبحث القطع.
3 ـ التفصیل بین المخالفة القطعیّة والاحتمالیّة بأن یکون العلم الإجمالی علّة تامّة فی الاُولى ومقتضیاً فی الثانیة وهو مختار الشیخ الأعظم(رحمه الله).
والظاهر أنّ ما ذهب إلیه المحقّق الخراسانی(رحمه الله) فی المقام (مبحث الاشتغال) لیس عدولا عمّا أفاده فی مبحث القطع کما توهّمه بعض، حیث إنّه قال هناک: «إنّ التکلیف حیث لم ینکشف به تمام الانکشاف وکانت مرتبة الحکم الظاهری معه محفوظة جاز الإذن من الشارع بمخالفة احتمالا بل قطعاً ... نعم کان العلم الإجمالی کالتفصیلی فی مجرّد الاقتضاء لا فی العلّیة التامّة فیوجب تنجّز التکلیف أیضاً لو لم یمنع عنه مانع عقلا» وقال: «إنّ التکلیف المعلوم بینهما (المتباینین) ... إن کان فعلیّاً من جمیع الجهات بأن یکون واجداً لما هو العلّة التامّة للبعث أو الزجر الفعلی مع ما هو علیه من الإجمال والتردّد والاحتمال فلا محیص عن تنجّزه وصحّة العقوبة على مخالفته، وحینئذ لا محالة یکون ما دلّ بعمومه على الرفع أو الوضع أو السعة أو الإباحة ممّا یعمّ أطراف العلم مخصّصاً عقلا لأجل مناقضتها معه، وإن لم یکن فعلیّاً کذلک ـ ولو کان بحیث لو علم تفصیلا لوجب إمتثاله وصحّ العقاب على مخالفته ـ لم یکن هناک مانع عقلا ولا شرعاً عن شمول أدلّة البراءة الشرعیّة للأطراف» (انتهى).
ولا یخفى أنّ المقصود من کلامه الأوّل أنّه إذا علم بالتکلیف إجمالا فحیث إنّه لم ینکشف تمام الانکشاف کانت رتبة الحکم الظاهری محفوظة، للشکّ فی وجوب التکلیف فی کلّ واحد من الأطراف وبه یتحقّق موضوع النافی فیجری بلا مانع، بخلاف ما إذا علم به تفصیلا فلا یبقى مجال للإذن فی مخالفته لعدم بقاء موضوع للحکم الظاهری (وهو الشکّ فی الحکم الواقعی) لانکشافه تمام الانکشاف حسب الفرض، ولهذا یکون العلم التفصیلی علّة تامّة للتنجّز کما أنّ العلم الإجمالی یکون مقتضیاً له کما صرّح به فی تعلیقته على الرسائل(1)، بینما المقصود من کلامه الثانی (وهو ما أفاده فی مبحث الاشتغال) أنّه لو فرضنا إنّا کشفنا من دلیل خارجی کالإجماع إنّ تکلیفاً ما فعلی من جمیع الجهات(2) وفعلیته تامّة من ناحیة إرادة المولى وکراهته بحیث لا یتوقّف العقوبة على مخالفته إلاّ على مطلق وصوله إلى المکلّف بأی نحو کان من أنحاء الوصول فلا فرق حینئذ بین العلم التفصیلی والعلم الإجمالی فی تنجّز التکلیف وعدم وجوب الموضوع للاُصول المرخّصة، وأمّا إذا کشفنا من الخارج عدم کونه فعلیّاً من جمیع الجهات وأنّ فعلیته لا تکون تامّة إلاّ بالعلم التفصیلی فلیس للعلم الإجمالی حینئذ تأثیر فی التنجّز إلاّ بنحو الاقتضاء ویکون موضوع الأصل المرخّص موجوداً.
أقول: الإنصاف أنّه لا فرق بین العلم التفصیلی والعلم الإجمالی إذا تعلّقا بما هو فعلی من جمیع الجهات بل وکذلک فی الشبهة البدویة إذا کان المشکوک على فرض وجوده فعلیاً من جمیع الجهات کما فی الشبهات قبل الفحص وشبهها، فحینئذ یکون الاحتمال منجّزاً لأنّ المفروض إنّ التکلیف على فرض وجوده فعلی بتمام معنى الکلمة فلا مؤمّن من العقاب فلابدّ من إمتثاله بالاحتیاط.
ثمّ إنّ ما مرّ من التفصیل ناظر إلى مقام الثبوت ویکون على نهج القضیة الشرطیّة المعلّقة وأشبه بالضرورة بشرط المحمول فیکون توضیحاً للواضح على وجه.
والمهمّ هو تعیین الحکم فی مقام الإثبات وأنّ المستظهر من الأدلّة ما هو؟ فنقول: المستفاد من مجموع أدلّة الأحکام والإجماعات الحاصلة بین الفقهاء أنّ الحلّ القریب من الکلّ من التکالیف عدم کونها فعلیة من جمیع الجهات، ولذا نلاحظ استثنائها وتخصیصها بالعناوین الثانویة کالاضطرار والإکراه والتقیّة وغیرها، فما دام لم یعلم بالعلم التفصیلی أمکن إجراء الاُصول المرخّصة أو الأدلّة الخاصّة الواردة فیها أو فی مورد العلم التفصیلی تحت عنوان «العناوین الثانویة».
نعم یستثنى منها موارد الدماء وشبهها، فیمکن أن یقال بأنّها فعلیة من جمیع الجهات، أی إن کان المورد من قبیل الدماء وشبهها کان الحکم فعلیّاً من جمیع الجهات، فإذا علم إجمالا مثلا بوجود دم محقون مردّد بین شخصین: أحدهما: مؤمن متّق، والآخر: کافر یکون العلم الإجمالی منجّزاً للتکلیف.
بل وکذا الحال فی الشبهات البدویة منها، فإنّ الاحتیاط واجب فیها، ولذا لا تجری فیها أحکام العناوین الثانویة کالتقیّة ومثلها کما ورد فی الحدیث: «إنّما جعلت التقیّة لیحقن بها الدم فإذا بلغ الدم فلا تقیّة»(3)، بخلاف ما إذا کان المورد کالمایع النجس الدائر بین الإنائین فإنّه یمکن ورود الترخیص فیها إمّا بمقتضى أدلّة الاُصول (على القول به) أو بعنوان «العناوین الثانویّة».
لکن مسألة الدماء أیضاً لیست فعلیة من جمیع الجهات لانتقاضها بمسألة التترّس فی الجهاد کما لا یخفى، فإنّ المعروف حینئذ هو جواز القتل حتّى إذا کان الدم المحقون معلوماً تفصیلا.
ثمّ إنّه تصدّى فی تهذیب الاُصول لتوجیه التکرار الحاصل فی المقام فی کلمات القوم حیث إنّهم تارةً یبحثون عن العلم الإجمالی فی مبحث القطع واُخرى فی مبحث الاشتغال، فقال: «إذا علمنا حرمة شیء أو وجوبه لا بعلم وجدانی بل بشمول اطلاق الدلیل أو عمومه على المورد کما إذا قال: «لا تشرب الخمر» وشمل بالإطلاق على الخمر المردّد بین الإنائین فهل یمکن الترخیص بأدلّة الاُصول بتقیید اطلاق الدلیل أو لا؟ وهذا هو الذی ینبغی أن یبحث عنه فی المقام (مبحث الاشتغال) ومثله إذا علم إجمالا بقیام حجّة على هذا الموضوع أو ذاک، کما إذا علم بقیام أمارة معتبرة إمّا بوجوب صلاة الظهر أو الجمعة» وقال فی صدر کلامه: «إذا علم علماً وجدانیاً لا یحتمل الخلاف بالتکلیف الفعلی الذی لا یرضى المولى بترکه ... وهذا هو الذی یصلح أن یبحث عنه فی باب القطع»(4) فحاصل کلامه أنّ المراد من العلم الإجمالی المبحوث عنه فی باب القطع هو العلم الحاصل بالوجدان والمراد منه فی مبحث الاشتغال هو ما حصل بإطلاق دلیل أو قیام حجّة.
ویرد علیه أوّلا: أنّه خلاف تعابیرهم والأمثلة التی ذکروها فی المقام کالتمثیل بالعلم الإجمالی بالخمر الدائر بین الإنائین حیث إنّه یشمل ما إذا علم به بالوجدان، ولیس المراد منه خصوص ما إذا قامت البیّنة على خمریة أحد الإنائین قطعاً، وکذلک التمثیل بالصلاة المردّدة بین الجمعة والظهر حیث إنّها معلوم وجوبها فی یوم الجمعة بضرورة من الدین وإجماع المسلمین.
ثانیاً: إنّ الملاک تمام الملاک فی ما نحن فیه کون التکلیف فعلیّاً من جمیع الجهات وعدم کونه کذلک، من دون فرق بین العلم الوجدانی والأمارات المعتبرة، فإن لم یکن فعلیّاً من جمیع الجهات یمکن جریان الاُصول المرخّصة وإلاّ یکون المورد مجرى قاعدة الاشتغال.
ثالثاً: إنّ الترخیص الصادر من الشارع لیس منحصراً فی موارد أدلّة الاُصول العملیّة، بل إنّها إحدى الطرق المرخّصة لما سیأتی من ترخیصه فی الشبهات غیر المحصورة لملاکات اُخر، والحقّ کما ذکرنا فی محلّه أنّ مسألة القطع قائمة بتأثیر العلم الإجمالی من حیث الاقتضاء، ومباحث العلم الإجمالی هنا ناظرة إلى عدم وجود الموانع لهذا المقتضى.
ثمّ إنّ البحث هیهنا یقع فی جهتین: حرمة المخالفة القطعیّة، وحرمة المخالفة الاحتمالیّة.
أمّا الجهة الاُولى: فقال الشیخ الأعظم الأنصاری(رحمه الله): «لنا على ذلک وجود المقتضی للحرمة وعدم المانع عنها، إمّا ثبوت المقتضی فلعموم دلیل تحریم ذلک العنوان المشتبه فإنّ قول الشارع «إجتنب عن الخمر» یشمل الخمر الموجود المعلوم المشتبه بین الإنائین أو أزید ولا وجه لتخصیصه بالخمر المعلوم تفصیلا مع أنّه لو إختصّ الدلیل بالمعلوم تفصیلا خرج الفرد المعلوم إجمالا عن کونه حراماً واقعیاً وکان حلالا واقعیاً ولا أظنّ أحداً یلتزم بذلک، وأمّا عدم المانع فلأنّ العقل لا یمنع من التکلیف عموماً أو خصوصاً بالاجتناب عن عنوان الحرام المشتبه فی أمرین أو اُمور والعقاب على مخالفة هذا التکلیف، وأمّا الشرع فلم یرد فیه ما یصلح للمنع عدا ما ورد من قولهم(علیهم السلام) «کلّ شیء حلال حتّى تعرف أنّه حرام بعینه» و «کلّ شیء فیه حلال وحرام فهو لک حلال حتّى تعرف الحرام منه بعینه» وغیر ذلک. ولکن هذه الأخبار وأمثالها لا یصلح للمنع لأنّها کما تدلّ على حلّیة کلّ واحد من المشتبهین کذلک تدلّ على حرمة ذلک المعلوم إجمالا لأنّه أیضاً شیء علم حرمته»، انتهى.
فحاصل استدلال الشیخ الأعظم(رحمه الله) لحرمة المخالفة القطعیّة أنّ المقتضی (وهو إطلاقات أدلّة الأحکام وعموماتها) موجود، والمانع (وهو البراءة العقلیّة والنقلیّة) مفقود، وقد تبعه سائر الأعلام فمشوا فی استدلالاتهم على ما یقرب استدلال الشیخ(رحمه الله) ومنهم المحقّق النائینی(رحمه الله)، غایة الأمر أنّه قسّم الاُصول على ثلاثة أقسام: أصالة الحلّیة، والاُصول التنزیلیّة، والاُصول غیر التنزیلیة، وأنکر جریان جمیعها للزوم التناقض بین حکم العقل بلزوم الاجتناب عن جمیع الأطراف (مقدّمة للإجتناب عن الحرام المنجّز الموجود فی البین) وبین الترخیص فی جمیع الأطراف(5).
وکذلک المحقّق العراقی(رحمه الله) فقال: «لا إشکال فی أنّه لا قصور فی منجّزیة العلم الإجمالی لما تعلّق به من التکلیف وإنّه بنظر العقل بالإضافة إلى ما تعلّق به کالعلم التفصیلی فی حکمه بوجوب الإمتثال، إذ لا فرق بینهما إلاّ من حیث إجمال المتعلّق وتفصیله وهو غیر فارق فی المقام بعد کون مناط التحمیل بنظر العقل إحراز طبیعة أمر المولى بلا دخل خصوصیّة فیه ... بل التحقیق إنّ حکمه بالاشتغال ووجوب الإمتثال یکون على نحو التنجیز بحیث یأبى عن الردع عنه بالترخیص على خلاف معلومه فی تمام الأطراف کإبائه عنه فی العلم التفصیلی لکون ذلک بنظره ترخیصاً من المولى فی معصیته وترک طاعته ومثله لا یصدّقه وجدان العقل بعد تصدیقه خلافه»(6).
وقال شیخنا العلاّمة الحائری(رحمه الله): «لنا إنّ المقتضی للامتثال وهو العلم بخطاب المولى موجود بالفرض والشکّ فی تعیین المکلّف به لیس بمانع عند العقل وهل تجوز المخالفة القطعیّة للتکلیف المقطوع مع تمکّن المکلّف من الامتثال بمجرّد الشکّ فی التعیین حاشاه من ذلک فإنّ الملاک المتحقّق فی مخالفة العلم التفصیلی موجود هنا بعینه»(7).
أقول: لنا فی قبال هذا الوجه أو هذه الوجوه نقض وحلّ:
أمّا النقض: فهو بالشبهات غیر المحصورة، اللّهمّ إلاّ أن یقال بعدم لزوم المخالفة القطعیّة فیها لعدم إمکان إرتکاب المکلّف جمیع الأطراف عادةً ولو تدریجاً.
وکذلک النقض بالشبهات البدویة لأنّه وإن کان الموجود فیها احتمال الإصابة إلى الواقع لکن لا إشکال فی استلزامه احتمال التناقض، واحتمال اجتماع النقیضین محال کالعلم به، وهذا هو الشبهة المعروفة لابن قبّة التی تصدّى الأعلام للجواب عنها باسقاط أحد الحکمین عن الفعلیة وإرجاعه إلى مرحلة الإنشاء، وبهذا ذهبوا إلى أنّ العلم الإجمالی فی الشبهة غیر المحصورة والشبهات البدویة یکون مقتضیاً للتنجّز، ونحن نقول: کما یمکن اسقاط أحد الحکمین فی هذین الموردین عن الفعلیّة والقول باقتضاء العلم الإجمالی للتنجّز، کذلک یمکن فی المقام أیضاً اسقاط الحکم الواقعی المعلوم بالإجمال عن الفعلیّة وبذلک یرتفع إشکال التناقض، (وقد عرفت أنّ التناقض کما لا یجوز قطعاً لا یجوز احتمالا).
وعلى هذا فلا یمکن إثبات حرمة المخالفة القطعیّة من ناحیة لزوم التناقض کما صرّح به فی کلمات المحقّق النائینی(رحمه الله) والقول بأنّ العلم الإجمالی علّة تامّة للتنجّز کما هو ظاهر بعض کلمات الأعلام الأربعة المزبورة أو صریحها، بل للعلم الإجمالی لیس أکثر من الاقتضاء، فعلینا الفحص عن وجود المانع فی الأدلّة النقلیة، فإن ظفرنا على روایة مرخّصة تمنع عن نفوذ المقتضی فهو، وإلاّ تنجّز العلم الإجمالی لوجود المقتضی وفقدان المانع.
فنقول: هیهنا روایات عدیدة یمکن أن یستدلّ بها على الترخیص فی أطراف العلم الإجمالی:
أحدها: ما رواه عبدالله بن سلیمان قال: سألت أبا جعفر(علیه السلام) عن الجبن فقال لی: «... ساُخبرک عن الجبن وغیره، کلّ ما کان فیه حلال وحرام فهو لک حلال حتّى تعرف الحرام بعینه فتدعه»(8).
فهى تدلّ على الترخیص فی أطراف العلم الإجمالی بناءً على أنّ الظاهر من قوله «بعینه» العلم التفصیلی والمعرفة التفصیلیّة، کما لا إشکال فیها من ناحیة السند إلى عبدالله بن سنان، وأمّا عبدالله بن سلیمان فهو مردّد بین خمسة أفراد: الصیرفی والعامری والعبسی والنخعی وعبدالله بن سلیمان من دون لقب، وکلّهم مجاهیل لکن یمکن تصحیح الروایة من ناحیة السند من باب أنّ نفس المضمون الوارد فیها نقل عن عبدالله بن سنان(9) من دون وساطة عبدالله بن سلیمان وقد نقلها بهذا النحو الصدوق وابن إدریس فی السرائر والشیخ الطوسی(رحمه الله)، فی التهذیب.
ثانیها: ما رواه عبدالله بن سلیمان أیضاً عن أبی عبدالله(علیه السلام) فی الجبن قال: «کلّ شیء لک حلال حتّى یجیئک شاهدان یشهدان فیه میتة»(10).
بناءً على ظهور کلمة «فیه» فی العلم التفصیلی.
ثالثها: ما رواه أبو الجارود قال: سألت أبا جعفر(علیه السلام) عن الجبن فقلت له: أخبرنی من رأى إنّه یجعل فیه المیتة، فقال: «أمن أجل مکان واحد یجعل فیه المیتة حرّم فی جمیع الأرضین؟ إذا علمت أنّه میتة فلا تأکله وإن لم تعلم فاشتر وبع وکل، والله إنّی لأعترض السوق فأشتری بها اللحم والسمن والجبن، والله ما أظنّ کلّهم یسمّون هذه البربر وهذه السودان»(11).
والإنصاف أنّ الضمیر فی کلمة «إنّه میتة» أیضاً ظاهر فی العلم التفصیلی.
رابعها: ما رواه معاویة بن عمّار عن رجل عن أصحابنا قال: «کنت عند أبی جعفر(علیه السلام)فسأله رجل عن الجبن فقال أبو جعفر(علیه السلام): «إنّه طعام یعجبنی وساُخبرک عن الجبن وغیره، کلّ شیء فیه الحلال والحرام فهو لک حلال حتّى تعرف الحرام فتدعه بعینه»(12).
وهى أظهر من الروایات السابقة فی العلم التفصیلی فإنّ قوله «بعینه» قید للضمیر فی «تدعه» فلا یمکن حمله على تأکید العلم کما قد یقال فی الروایة الاُولى.
خامسها: ما رواه الحلبی قال: سمعت أبا عبدالله(علیه السلام) یقول: «إذا اختلط الذکی بالمیّت باعه ممّن یستحلّ المیتة وأکل ثمنه»(13). ودلالته ظاهرة من جهة إجازة بیع کلیهما.
سادسهما: ما رواه الحلبی أیضاً عن أبی عبدالله(علیه السلام): إنّه سئل عن رجل کان له غنم وبقر فکان یدرک الذکی منها فیعزله ویعزل المیتة ثمّ إنّ المیتة والذکی اختلطا کیف یصنع به؟ قال: «یبیعه ممّن یستحلّ المیتة ویأکل ثمنه فإنّه لا بأس به»(14).
سابعها: ما رواه علی بن جعفر عن أخیه موسى بن جعفر(علیه السلام) قال: سألته عن الدقیق یقع فیه خرؤ الفأر هل یصلح أکله إذا عجن مع الدقیق؟ قال: «إذا لم تعرفه فلا بأس وإن عرفته فلتطرحه»(15).
هذه روایات یمکن أن یستدلّ بها على الترخیص فی أطراف العلم الإجمالی وعدم حرمة المخالفة القطعیّة.
لکن الإنصاف إمکان المناقشة فی الجمیع من ناحیة الدلالة.
أمّا روایات الجبن فلا یبعد القول بأنها خارجة عن المقام لأنّ موردها الشبهة غیر المحصورة أو الشبهة البدویة وفرض الشبهة المحصورة خارجة عنها کما لا یخفى.
وأمّا روایات اختلاط المیتة بالمذکّى فمدلولها (وهو جواز بیع المیتة المعلومة بالإجمال ممّن یستحلّها) بناءً على عدم کونه معرضاً عنه للأصحاب وإمکان الإفتاء على طبقه کما أفتى به بعض الأعاظم ـ أخصّ من المدّعى، وهى الترخیص فی الشبهات المحصورة مطلقاً، فلا یمکن التعدّی عن موردها إلى سائر الموارد لاحتمال الخصوصیّة، فلا یصحّ قیاس غیرها علیها بل یمکن أن یقال: هى على خلاف المطلوب أدلّ لأنّ تقیید الجواز بمن یستحلّ دلیل على عدم الجواز فی غیره.
نعم، إنّه ینافی مقالة القائلین کون العلم الإجمالی علّة تامّة وإنّ الترخیص یستلزم التناقض فإنّ الکفّار مکلّفون بالفروع کما أنّهم مکلّفون بالاُصول.
وأمّا الروایة الأخیرة (وهى روایة خرؤ الفأر) فهى مخدوشة سنداً ودلالة: أمّا السند فلمکان قرب الإسناد، وأمّا الدلالة فلاحتمال خصوصیة فی موردها وهى استهلاک الخرؤ فی الدقیق، مضافاً إلى أنّ الروایة معرض عنها ظاهراً.
هذا مضافاً إلى تعارض هذه الروایات مع ما سیأتی فی المقام الثانی من الروایات الدالّة على حرمة المخالفة الاحتمالیّة فضلا عن المخالفة القطعیّة.
هذا کلّه فی المقام الأوّل.
أمّا الجهة الثانیة: وهى حرمة المخالفة الاحتمالیّة (وجوب الموافقة القطعیّة) فالحقّ فیها أیضاً ثبوت الحرمة، أی وجوب الاجتناب عن جمیع أطراف الشبهة بنفس القاعدة العقلیّة التی مرّ ذکرها فی المقام الأوّل وهى کون المقتضی موجوداً والمانع مفقوداً، أمّا وجود المقتضی فلشمول أدلّة تحریم المحرّمات للمعلوم إجمالا، وأمّا عدم المانع فلأنّ الموضوع فی أدلّة البراءة من حدیث الرفع وغیره الشکّ وعدم العلم، وهو مفقود فی ما نحن فیه لأنّ العلم أعمّ من العلم التفصیلی والعلم الإجمالی، وکذلک قاعدة قبح العقاب بلا بیان لأنّ موضوعها وهو عدم البیان مفقود هنا أیضاً لأنّ العلم الإجمالی بیان کالعلم التفصیلی، وإن أبیت إلاّ عن شمول أدلّة البراءة والحلّیة لکلّ واحد منها فلا أقلّ من تساقطهما بالتعارض.
هذا هو مقتضى القاعدة الأوّلیة.
أمّا الروایات الخاصّة الواردة فی المسألة فهى على طوائف:
الطائفة الاُولى: ما تدلّ على وجوب الاحتیاط فی موارد العلم الإجمالی بشکل کلّی من غیر تقیید بموضوع خاصّ.
منها: ما مرّ عند ذکر أدلّة الأخباری ممّا ورد فی ذیل حدیث التثلیث المعروف: «فإنّ الوقوف عند الشبهات خیر من الإقتحام فی الهلکات»(16).
ومنها قوله(صلى الله علیه وآله): «دع ما یریبک إلى ما لا یریبک»(17).
ومنها: قوله «ما اجتمع الحرام والحلال إلاّ غلب الحرام الحلال»(18).
ومنها: قوله: «اترکوا ما لا بأس به حذراً عمّا به البأس»(19) ولا إشکال فی أنّ موردها أو القدر المتیقّن منها أطراف العلم الإجمالی.
الطائفة الثانیة ما وردت فی موارد خاصّة:
منها: ما مرّ سابقاً روایات(20) القرعة فی الغنم الموطوءة، حیث إنّ الأمر بالقرعة مع عدم حرمة المخالفة الاحتمالیّة ممّا لا وجه له.
إن قلت: فلماذا أجاز الشارع إرتکاب الجمیع بعد إخراج ما أصابته القرعة؟
قلنا: الجواب عنه واضح، فإنّ القرعة بمنزلة الأمارة کما یستفاد من أدلّتها فإذا إمتاز الحرام فی البین بالأمارة جاز إرتکاب الباقی.
منها: ما مرّ آنفاً من روایات اختلاط المیتة بالمذکّى، لتقیید جواز البیع فیها بمن یستحلّ کما ذکرنا.
لکن یرد على هذه الطائفة إنّها خارجة عن محلّ النزاع لأنّ محلّ النزاع صورة عدم جریان الاُصول الناهیة فی أطراف العلم الإجمالی وإلاّ لا إشکال فی حرمة المخالفة الاحتمالیّة حتّى عند القائلین بالجواز لمکان الأصل، ولا إشکال فی جریان استصحاب عدم التذکیة فی مورد اختلاط المیتة بالمذکّى فی جمیع الأطراف، وکذلک فی الغنم الموطوءة بناءً على حجّیة الاستصحاب التعلیقی (حیث إنّ استصحاب عدم التذکیة معلّق على وقوع الذبح خارجاً)، لعدم لزوم المخالفة القطعیّة العلمیّة حینئذ لأنّ غایة ما یترتّب على جریان الاستصحاب إنّما هو ترک جمیع الأطراف وهو مخالفة قطعیّة ولا إشکال فی عدم مانعیتها عن جریان الاُصول.
الطائفة الثالثة: ما وردت فی باب النجاسات وتدلّ على لزوم الاجتناب عن أطراف النجاسة المعلومة بالإجمال:
منها: ما رواه محمّد بن مسلم عن أحدهم(علیهما السلام) ... وقال: «فی المنی یصیب الثوب، قال:
«إن عرفت مکانه فاغسله وإن خفى علیک فاغسله کلّه»(21).
ومنها: ما رواه عنبسة بن مصعب قال: سألت أباعبدالله(علیه السلام) عن المنی یصیب الثوب فلا یدری أین مکانه قال: «یغسله کلّه»(22).
ومنها: ما رواه زرارة قال: قلت أصاب ثوبی دم رعاف أو غیره أو شیء من منی (إلى أن قلت): فإنّی قد عمت أنّه قد أصابه ولم أدر أین هو فأغسله؟ قال: «تغسل من ثوبک الناحیة التی ترى إنّه قد أصابها حتّى تکون على یقین من طهارتک»(23).
لکن یرد على هذه الطائفة أیضاً أنّ وجوب غسل الثوب إنّما هو لأجل الصّلاة، ومن المعلوم أنّ تمام الثوب موضوع واحد بالنسبة إلیها، له حالة سابقة متیقّنة وهى النجاسة، ومعها لا تجوز الصّلاة فیه إلاّ أن یعلم بطهارته.
الطائفة الرابعة: روایات إهراق الإنائین المعلومة نجاسة أحدهما:
منها: ما رواه سماعة عن أبی عبدالله(علیه السلام) فی رجل معه إناءان، وقع فی أحدهما قذر، ولا یرى أیّهما هو، ولیس یقدر على ماء غیرهما، قال: «یهریقهما ویتیمّم»(24).
ومثله حدیث عمّار الساباطی عن أبی عبدالله(علیه السلام) ولا إشکال فی دلالة هذه الطائفة على المقصود لعدم جریان الاُصول الناهیة فی موردها.
فظهر من جمیع ما ذکر أنّ مقتضى القاعدة والروایات العامّة وکذلک مقتضى بعض الروایات الخاصّة حرمة المخالفة القطعیّة والاحتمالیّة معاً، نعم إنّ موردها الشبهات التحریمیّة، ولکن یستفاد منها حرمة المخالفة فی الشبهات الوجوبیّة أیضاً بالغاء الخصوصیّة.