الوجه الثانی: أنّ الأصل فی الأشیاء فی غیر الضروریات الحظر، فإن ورد من الشرع دلیل على جوازه فهو، وإلاّ فیبقى على ممنوعیته.
توضیح ذلک: أنّ مسألة الحظر أو الإباحة فی الأشیاء مسألة تلاحظ بلحاظ ما قبل الشرع المقدّس أو مع قطع النظر عنه خلافاً لأصالة البراءة والاحتیاط اللتین تلاحظان بلحاظ بعد الشرع، وحینئذ نقول: إذا راجعنا إلى العقل وأحکامه بالنسبة إلى قبل الشرع نجد أنّ الأفعال على ثلاثة أقسام فبعضها من المستقلاّت العقلیّة یرجع حکمها إلى الحسن والقبح العقلیین، وبعضها الآخر یکون من الضروریات کالتنفّس وسدّ الرمق، وقسم ثالث لا یکون من القسم الأوّل ولا من الثانی من قبیل شمّ الریاحین وأکل الفواکه وغیرهما من الرفاهیات ما لم تصبح أمراً ضروریاً، ففی هذا القسم هل یحکم العقل بالإباحة أو یحکم بالحظر. فیه أربعة أقوال:
1 ـ القول بالإباحة وهو المشهور بین القدماء.
2 ـ الحظر.
3 ـ عدم الحکم، أی یحکم العقل بخلوّها عن الحکم مطلقاً، وقد نقل هذا عن الحاجبی.
4 ـ التوقّف عن الحکم، قال به الأشعری.
ثمّ إنّ الفرق بین أصالة الحظر وأصالة الاحتیاط، أو الفرق بین أصالة الإباحة والبراءة یتلخّص فی اُمور:
الأوّل: ما أشرنا إلیه آنفاً من أنّ الحظر أو الإباحة تلحظ بما قبل الشرع أو مع قطع النظر عن الشرع والاحتیاط أو البراءة تلحظ بالنسبة إلى ما بعد الشرع.
الثانی: أنّ الحکم فی الأوّل واقعی، فمفاد أصالة الحظر أو الإباحة أنّ الشیء الفلانی ممنوع أو مباح واقعاً، بینما الحکم فی الثانی ظاهری، فیترتّب العقاب على ترک الاحتیاط مثلا فی صورة الإصابة إلى الواقع لا مطلقاً.
الثالث: أنّ التحریم أو الترخیص بناءً على أصالة الحظر أو الإباحة تحریم أو ترخیص مالکی یحکم به الشارع بما أنّه مالک، بینما التحریم أو الترخیص بناءً على أصالة الاحتیاط أو الإباحة تحریم أو ترخیص مولوی یحکم به الشارع بما أنّه مقنّن ومشرّع وبما أنّه مولى.
إذا عرفت ذلک فاعلم أنّ عمدة ما استدلّ به القائلون بالحظر مالکیة الباری تعالى وأنّ العالم کلّه ملک له والتصرّف فی ملک الغیر بدون إذنه قبیح عقلا لا سیّما فی المالک الحقیقی، ونتیجته أنّ الأصل فی الأشیاء الحظر إلاّ ما أذن الله تعالى به.
ولا یخفى أنّ هذا مبنى على ثبوت الحسن والقبح العقلیین والقول بالمستقلاّت العقلیّة.
وقد اُورد على هذا الوجه من ناحیة الکبرى والصغرى معاً.
أمّا الکبرى: وهى کون التصرّف فی الأشیاء تصرّفاً فی ملک الغیر بدون إذنه.
فیرد علیها أوّلا: أنّ الإذن حاصل فی المقام بدلیل الحکم فإنّ الحکمة تقتضی أن یکون خلق الأشیاء للانتفاع والتمتّع بها فلا معنى مثلا لخلق الریاحین والفواکه مع المنع عن أیّ تصرّف فیها للإنسان الذی هو جوهر العالم السفلی.
ثانیاً: أنّ اعتبار الإذن یتصوّر فیما إذا صدق التصرّف عرفاً فلا معنى لاعتباره فی استماع الخطابة من الخطیب أو شمّ الریاحین مثلا، لعدم صدق التصرّف علیه عند العرف، کذلک فی المقام، فربّما لا یصدق التصرّف العرفی فیه حتّى یقال بأنّه تصرّف فی ملک الغیر ولا یجوز بدون إذنه کما فی النظر إلى الأجنبیة، وهذا نظیر ما یقال: إنّه یجوز الإستضاءة بنار الغیر ونوره والإستظلال بجداره لعدم کونها تصرّفاً عرفاً، وحینئذ یصبح الدلیل أخصّ من المدّعى.
وثالثاً: أنّه یمکن أن یستدلّ ببعض الآیات على وجود الإذن من الله بالنسبة إلى تصرّفات عبیده کقوله تعالى: (خَلَقَ لَکُمْ مَا فِی الاَْرْضِ جَمِیعاً) وقوله تعالى: (وَالاَْرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ).
ورابعاً: الاستدلال بأدلّة البراءة الشرعیّة حیث تدلّ بالالتزام على وجود الإباحة المالکیّة وإن کان مدلولها المطابقی الإباحة الظاهریّة المولویّة.
وأمّا الصغرى: وهى کون العالم ملکاً اعتباریاً لله تعالى.
فأورد علیها فی تهذیب الاُصول بما حاصله: أنّ المفید بحال الأخباری فی المقام إنّما هو المالکیة القانونیة الاعتباریّة، ولا وجه لاعتبار ملکیّة اعتباریّة لله عزّوجلّ، فإنّ اعتبارها لابدّ وأن یکون لأغراض حتّى تقوم بها المعیشة الاجتماعیّة، وهو سبحانه أعزّ وأعلى منه، وأمّا المالکیّة التکوینیّة بمعنى أنّ الموجودات والکائنات قائمة بإرادته، مخلوقة بمشیّته، واقعة تحت قبضته تکویناً فلا یمکن للعبد أن یتصرّف فی شیء إلاّ بإذنه التکوینی وإرادته فهى غیر مربوطة بالمقام(1).
أقول: أنّ المالکیّة التکوینیّة لیست فی عرض المالکیّة القانونیّة بل إنّها أمر فوقها وحینئذ تتصوّر المالکیّة الاعتباریّة بالنسبة إلى الباری تعالى بطریق أولى، أی المالکیة التکوینیة تتضمّن المالکیّة القانونیّة وتکون منشأً لها کما یشهد به استدلال القائلین بالمالکیّة الشخصیّة للإنسان فی محصول عمله فی مقابل منکریها بأنّ الإنسان مالک تکویناً لنفسه وأعضائه وقواه، فیکون مالکاً لعلمه، وبالنتیجة یکون مالکاً لأمواله، حیث إنّه تجسّد للعمل وتبلور له.
أضف إلى ذلک أنّه یمکن الاستدلال لمالکیّته التشریعیّة مع قطع النظر عن مالکیته التکوینیّة بآیة الخمس إذ إنّ مالکیته بالنسبة إلى الخمس فی قوله تعالى (للهِِ خُمُسَهُ)تشریعیة بلا ریب لأنّها جعلت فی عرض مالکیة الأصناف الخمسة الاُخرى، فمقتضى وحدة السیاق أن تکون مالکیته تعالى من سنخ مالکیة سائر الأصناف.
مضافاً إلى أنّه لو کان المراد المالکیّة التکوینیّة فلا معنى لأن یکون خصوص سهم من الخمس ملکاً تکوینیاً له حیث إنّ العالم کلّه ملک له تعالى وکذا الکلام بالنسبة إلى الإنفال وشبهها.
وإن شئت قلت: إذا کان التصرّف فی الملک الاعتباری غیر جائز عقلا فعدم جواز التصرّف فی الملک التکوینی بطریق أولى.
ثمّ إنّه قد یستدلّ على القول بالإباحة فی مقابل الحظر بقاعدة قبح العقاب بلا بیان لکن الحقّ أنّه فی غیر محلّه لأنّ هذه القاعدة تتصوّر بعد أن قام الشارع للبیان ولم یبیّن، بینما المفروض فی المقام إنّما هو ما قبل البیان، مضافاً إلى أنّه یمکن أن یکون حکم العقل بعدم جواز التصرّف فی ملک الغیر بنفسه بیاناً.
وهنا کلام للمحقّق الأصفهانی(رحمه الله) لإثبات أنّ الأصل هو الإباحة لا الحظر، حیث یقول:
«إنّ المنع تارةً ینشأ عن مفسدة فی الفعل تبعث الشارع بما هو مراع لمصالح عباده وحفظهم عن الوقوع فی المفاسد على الزجر والردع عمّا فیه المفسدة، وهذا هو المنع الشرعی، لصدوره من الشارع بما هو شارع، وفی قبالة الإباحة الشرعیّة الناشئة عن لا اقتضائیّة الموضوع وخلوّه عن المفسدة والمصلحة، فإنّ سنّة الله ورحمته مقتضیة للترخیص فی مثله لئلاّ یکون العبد فی ضیق منه. واُخرى لا ینشأ عن مفسدة إمّا لفرض خلوّه عنها، أو لفرض عدم تأثیرها فعلا فی الزجر کما فی ما قبل تشریع الشرائع والأحکام فی بدو الإسلام بل من حیث إنّه مالک للعبد وناصیته بیده یمنعه عن کلّ فعل إلى أن یقع موقع حکم من الأحکام حتّى یکون صدوره ووروده عن رأی مولاه، فهذا منع مالکی لا شرعی، وفی قباله الإباحة المالکیّة وهو الترخیص من قبل المالک لئلاّ یکون فی ضیق منه إلى أن یقع الفعل موقع حکم من الأحکام، فنقول: حیث إنّ الشارع کلّ تکالیفه منبعث عن المصالح والمفاسد لانحصار أغراضه المولویّة فیها فلیس له إلاّ زجر تشریعی أو ترخیص کذلک، فمنعه وترخیصه لا ینبعثان إلاّ عمّا ذکر، ولا محالة إذا فرض خلوّ الفعل عن الحکم بقول مطلق، أعنی الحکم الذی قام بصدد تبلیغه وإن کان لا یخلو موضوع من الموضوعات من حکم واقعی وحیاً أو إلهاماً فلیس الفعل منافیاً لغرض المولى بما هو شارع فلیس فعله خروجاً عن زیّ الرقّیة، ومنه یتبیّن أنّ الأصل فیه هو الإباحة لا الحظر، فإنّ عدم الإذن المفروض فی الموضوع لا یؤثّر عقلا فی المنع العقلی إلاّ باعتبار کون الفعل معه خروجاً عن زی الرقّیة، وحیث إنّه فرض فیه عدم المنع شرعاً فلا یکون خروجاً عن زیّ الرقّیة إذ فعل ما لا ینافی غرض المولى بوجه من الوجوه بل کان وجوده وعدمه على حدّ سواء لا یکون خروجاً عن زی الرقّیة»(2).
فملخّص کلامه أنّه بما أنّ کلّ تکالیف الشارع صادرة عن المصالح والمفاسد فإذا فرض خلوّ الواقع عن الحکم کما فی ما قبل الشرع فلا یکون فعل العبد حینئذ خروجاً عن زی الرقّیة فیکون الأصل فی هذه الحالة الإباحة، فیکون لازم کلامه أنّ مالکیّة الله تعالى مندکّة فی مولویته، أی کلّ ما هو وظیفة للعباد یکون من طریق مولویته لا مالکیته لأنّ أغراضه منحصرة فی المصالح والمفاسد التشریعیّة، وحیث إنّ المفروض عدم وصول حکم من ناحیةمولویته إلى العبد فی ما قبل الشرع فلا یکون فعل العبد خروجاً عن زیّ العبودیّة فیکون الأصل هو الإباحة.
أقول: هذا الکلام أیضاً غیر تامّ لأنّ المولویّة والمالکیّة وصفان مختلفان، فالعبد الذی یخرج إلى السفر بدون إذن المولى تارةً یرکب مثلا على مرکب المولى ویخرج إلى السفر، واُخرى یرکب على مرکب غیره، ففی کلتا الحالتین خرج عن زی عبودیّة المولى، لکنّه فی الحالة الاُولى فعل معصیة اُخرى، وهو الخروج عن مالکیّة المولى ونقض مالکیته أیضاً.
وبعبارة اُخرى: أنّ للمولى مالکیّة على العبد ولازمها حرمة الخروج إلى السفر بدون إذنه، ومالکیّة على الفرس ولازمها حرمة الرکوب على فرسه بدون إذنه، فکذلک فی ما نحن فیه، فکما أنّ العبد مملوک لله تعالى کذلک الریاحین والفواکه أیضاً مملوکة له ویکون التصرّف فیها تصرّفاً فی ملک الغیر بدون إذن، فلکلّ واحد من هذین حکمه ولا یندکّ أحدهما فی الآخر. وبعبارة اُخرى: أنّ الله تعالى مالک للعباد وتنشأ من هذه المالکیّة وظائف الرقّیة والعبودیّة، فهو مولى وهذا عبد، ومالک لما سوى العباد تنشأ منه حرمة التصرّف فیها بغیر إذنه ولا ربط لأحدهما بالآخر.
الوجه الثالث: ـ من الوجوه العقلیّة ـ حکم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل، وقد تقدّم تفصیل الکلام فیه.
والجواب عنه: بأنّه لو کان المراد من الضرر الضرر الاُخروی فلا صغرى لهذه القاعدة لورود قاعدة قبح العقاب بلا بیان علیها، وإن کان المراد الضرر الدنیوی ففی کثیر الموارد لا یکون الضرر الدنیوی ملاک الحکم، فاحتمال الضرر لا یکون موجباً للزوم دفعه، هذا أوّلا.
وثانیاً: أنّ هذه القاعدة إرشاد من ناحیة العقل کأوامر الطبیب فلا ینشأ منها حکم مولوی.