وهو ما رواه عبدالله بن سنان بسند معتبر عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال: «کلّ شیء فیه حلال وحرام فهو لک حلال أبداً حتّى تعرف الحرام منه بعینه فتدعه»(1).
ونظیره ما رواه مسعدة بن صدقة عن أبی عبدالله(علیه السلام) قال سمعته یقول: «کلّ شیء هو لک حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعینه فتدعه من نفسک، وذلک مثل الثوب یکون علیک قد اشتریته وهو سرقة، والمملوک عندک لعلّه حرّ قد باع نفسه، أو خدع فبیع قهراً أو امرأة تحتک وهى اُختک أو رضیعتک والأشیاء کلّها على هذا حتّى یستبین لک غیر ذلک، أو تقوم به البیّنة»(2)وکذلک ما رواه عبدالله بن سنان قال: سألت أبا جعفر (علیه السلام) عن الجبن فقال لی: «لقد سألتنی عن طعام یعجبنی ثمّ أعطى الغلام درهماً فقال یاغلام ابتغ لنا جبناً، ثمّ دعا بالغداء فتغدّینا معه فأتى بالجبن فأکل وأکلنا فلمّا فرغنا من الغداء قلت: ما تقول فی الجبن؟ قال: أو لم ترنی آکله؟
قلت: بلى ولکنّی أُحبّ أن أسمعه منک فقال: ساُخبرک عن الجبن وغیره، کلّ ما کان فیه حلال وحرام فهو لک حلال حتّى تعرف الحرام بعینه فتدعه»(3).
والبحث فی هذه الروایات تارةً یقع فی السند واُخرى فی الدلالة:
أمّا السند فلا إشکال فی اعتبار روایة عبدالله بن سنان کما أشرنا إلیه آنفاً، وأمّا روایة عبدالله بن سلیمان فالمراد من عبدالله بن سلیمان هو عبدالله بن سلیمان النخعی بقرینة نقله عن عبدالله بن سنان، وهو مجهول فی کتب الرجال، وأمّا روایة مسعدة بن صدقة فهى أیضاً ضعیفة من ناحیة السند لأنّ مسعدة مجهول، فإن وجدت فیها خصوصیة لم توجد فی الأولیین لا تکون حجّة، والعجب من المحقّق الخراسانی(رحمه الله) حیث استند إلى هذه الروایة لما فیها من بعض الخصوصیات من دون اعتنائه بسندها کما هو دأبه فی کتابه الکفایة.
فالمعتبر من هذه الروایات الثلاثة إنّما هو الروایة الاُولى، وهى روایة عبدالله بن سنان.
أمّا الدلالة: فلا إشکال فی أنّ روایة عبدالله بن سنان ظاهرة فی خصوص الشبهات الموضوعیّة لمکان فقرة «فیه حلال وحرام» حیث إنّها تتصوّر فی الموضوعات کالمایع الذی بعض افراده خمر وبعضها الآخر غیر خمر فاشتبه الخمر فیه بغیر الخمر، لا فی الأحکام، فلا معنى لأن یقال مثلا: «فی شرب التتن حلال وحرام» بل لابدّ فیها حینئذ من تقدیر کلمة الاحتمال، أی فیه احتمال الحرمة واحتمال الحلّیة، وهو تکلّف وخلاف للظاهر.
وبعبارة اُخرى: المقصود من کلمة «الشیء» فی قوله(علیه السلام): «کلّ شیء فیه حلال وحرام» هو الشیء الخارجی والموضوع الخارجی المشکوک، أی متعلّق الشیء إنّما هو الموضوع الخارجی لا الحکم، بینما متعلّق الشکّ فی مثل شرب التتن إنّما هو حکم الشرب لا نفس الشرب الخارجی.
وأمّا روایة مسعدة فالتعبیر الوارد فیها «کلّ شیء هو لک حلال حتّى تعرف أنّه حرام بعینه» فلیس فیها التعبیر بـ «فیه حلال وحرام» حتّى تکون من هذه الجهة ظاهرة فی الشبهات الموضوعیّة، نعم کلمة «بعینه» الواردة فی ذیلها ظاهرة فی الشبهة الموضوعیّة لأنّها بمعنى التشخّص والتعیّن الخارجی، لکن یمکن التوجیه بأنّها تأکید لقوله(علیه السلام): «تعرف» أی حتّى تعلم علماً قطعیّاً، وسیأتی بیان الخصوصیة الموجودة فی «تعرف» بدل «تعلم» فی هذه الروایة.
وبهذا تکون الروایة تامّة من حیث الدلالة، ولکنّها ضعیفة من ناحیة السند کما مرّ، مضافاً إلى أنّ الظاهر سوق الروایات الثلاثة على مساق واحد، أی بیان الحلّیة فی الشبهة الموضوعیّة، وذلک لوجود قرائن عدیدة فیها:
منها: الأمثلة الواردة فی روایة مسعدة فإنّ جمیعها من الشبهة الموضوعیّة کما هو واضح.
ومنها: کون مورد بعضها وهى روایة عبدالله بن سنان الجبن المشکوک حلّیته من ناحیة الأنفحة التی تعقد اللبن جبناً حیث إنّ وجه تردید الراوی وتأمّله فی أکل الجبن فی هذه الروایة هو احتمال وجود المیتة فیه لأنّ الأنفحة التی تعقد اللبن جبناً ربّما کانت تؤخذ فی ذلک العصر من المیتة.
منها: التعبیر بـ «تعرف» بدل «تعلم» فإنّه یستعمل غالباً فی الشبهات الموضوعیّة لأنّ التعریف بمعنى تشخیص المصداق وتعیینه، بخلاف «تعلم» التی تستعمل فی کلا الموردین.
ومنها: کلمة «بعینه» الواردة فی روایة عبدالله بن سلیمان أیضاً فإنّها أیضاً ظاهرة فی الشبهة الموضوعیّة کما مرّ.
ومنها: کلمة «منه» الواردة فی روایة عبدالله بن سنان فهى على وزان کلمة «بعینه» کما لا یخفى.
ولو تنزّلنا عن هذه القرائن فإنّ المهمّ فی المقام أنّ ما یکون من هذه الروایات تامّة دلالة ـ لیست صالحة من ناحیة السند، وما تکون تامّة من حیث السند لا تکون صالحة من ناحیة الدلالة.