لو أقیمت علاقة بین أم و طفلها التی فی بطنها و استطاعا التحدث معاً، فسوف لن تکون هناک أم قادرة على التعبیر عن المنظر الجمیل الساحر والخلاّب لحظة شروق الشمس أو غروبها على ساحل بحیرة رائعة تتناثر حولها الحشائش و الأشجار بأغصانها التی تداعب أمواج البحیرة.

إنّها لاتسطیع تصویر حالة النسیم المنعش الممزوج بالرائحة العطرة للزهور و التی تحمل رسالة الحب، کما لا تستطیع شرح ألم فراق صدیق حمیم یتلظى بنار حبیبه، و لیس لها تمثیل سهره اللیالی و تطلعه إلى السماء و الکواکب والنجوم، و أنى للجنین إدراک هذه المفاهیم و لم یتعامل سوى مع قبضة من اللحم و الدم؟

إنّ شرح نعم الجنّة و الآلام المفجعة لعذاب النار بالنسبة لنا نحن الذین نعیش فی جنین هذه الدنیا بالضبط کم مرّ معنا فی إدراک الجنین.

حقاً ـ کما قلنا - فإنّ کلماتنا المحدودة فی هذه الحیاة لأعجز من أن تصور الحقائق الخارجة عن دائرة الحیاة الدنیا، و علیه فلابدّ من ألفاظ أخرى و مشاعر و أحاسیس و إدراکات أخرى لکی یمکن التحدث عنها أو سماعها، و ما أروع ما قاله القرآن الکریم بشأن تلک الحیاة:(فَلاَ تَعْلَمُ نَفْس مَا اُخْفِىَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ اَعْیُن)(1)و ورد فی الحدیث: «فِیهَا مَا لَا عَیْنُ رَاَتْ وَ لَااُذُنُ سَمِعَتْ وَ لَاخَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَر»(2). و لعلنا نتعرف على أهمیّة الأمر إذا ما تأملنا المفهوم الواسع لکلمة النفی «لا أحد»، هذا من جانب.

و من جانب آخر فإنّ الصفات و الخصائص التی ذکرها القرآن الکریم لنعم الجنّة لا یمکن مقارنتها قط بما فی هذه الدنیا:

1ـ(اُکُلُهَا دَائِمُ وَ ظِلُّهَا)(3).

2ـ لا تتعفن میاهها أبداً و فیها أنهار من لبن لا یتغیر طعمه (و کأنّه بصورة دائمة فی محیط و فضاء مکشوف دون أن یفقد شکله الطبیعی) کما فیها أنهار من الخمرة التی تشتمل على اللذة دون السکر و العفونة: (فِیهَا اَنْهَارٌ مِنْ مَاء غَیْرِ آسِن وَ اَنْهَارٌ مِنْ لَبَن لَمْ یَتَغَیَّرْ طَعْمُهُ وَ اَنْهَارٌ مِنْ خَمْر لَّذَّة لِلْشَارِبِینَ)(4).

3ـ(وَ دَانِیَة عَلَیْهِمْ ظِلَالُها وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلیلا)(5).

4ـ (یُسْقُونَ مِنْ رَحیق مَخْتُوم * خِتَامُهُ مِسْک)(6).

5ـ لیس هنالک من حدّ لنعمها من حیث النوع أو الجنس، بل فیها کل ما تشتهیه النفس: (وَ فِیهَا مَا تَشْتَهیِهِ الأَنْفُسُ وَ تَلَذُّ الْاَعْیُنُ)(7).

6ـ لیس فیها أی من معانی البغض و الحقد و الحسد و الصفات الذمیمة، وهی مفعمة بالحب و الطهر و الاُخوة: (وَ نَزْعْنَا مَا فی صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ اِخْواناً)(8).

7ـ محیط یفیض أمن وأمان، فلا وجود فیها للحرب و سفک الدماء، بل ولا النزاع و الجدال و کلها صلح و سلام: (لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنُدَ رَبِّهِمْ)(9).

8ـ لیست هناک من لذة تفوق لذة مناجاة الله و الاستغراق فی جمال الحق وجلاله سبحانه و الشعور بالسرور لرضى الله: (دَعْوِیهِمْ فِیهَا سُبْحَانَکَ اللَّهُمَّ وَتَحِیَّتُهُمْ فِیهَا سَلاَمٌ وَ آخِرٌ دَعْویهُمْ اَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رِبِّ الْعَالَمِینَ)(10).

9ـ تنبعث نار جهنم من نفس الناس و هم وقودها و حطبها: (وَ اَمَّا الْقَاسِطُونَ فَکَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً)(11)، (وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الحِجَارَةُ)(12).

10ـ تختلف هذه النار و سائر النیران فهی تحرق من الداخل و تسری إلى الخارج و أول إقتداحها فی قلب الإنسان: (نَّارُ اللهِ الْمُوقَدَة * الَّتی تَطَّلِعَ عَلَى الْأفْئِدَةِ)(13).

***

و نخلص إلى نتیجة ممّا سبق فی أنّ العالم الذی یعقب الموت هو عالم أوسع بمراتب من هذا العالم و بمفاهیم جدیدة تماماً و حیّة و نعم جمة إلى جانب العذاب الأشد الذی لا نتصور سوى شبحه.

1. سورة السجدة، الآیة 17.
2. من لایحضره الفقیه للشیخ الصدوق، ج 1 ص 295، الحدیث 905.
3. سورة الرعد، الآیة 35.
4. سورة محمد، الآیة 15.
5. سورة الدهر، الآیة 14.
6. سورة المطففین، الآیة 25 ـ 26.
7. سورة الزخرف، الآیة 71.
8. سورة الحجر، الآیة 47.
9. سورة الأنعام، الآیة 127.
10. سورة یونس، الآیة 10.
11. سورة الجن، الایة 15.
12. سورة البقرة، الآیة 24.
13. سورة الهمزة، الآیة 6 ـ 7.