إنّ القراءات غیر السلیمة لمسألة الثواب و العقاب فی عالم ما بعد الموت جعلها تنطوی على هالة من الإبهام و الغموض، فهنالک عدّة علامات استفهام ونقاط مبهمة بشأن الثواب و العقاب فی القیامة و العالم الآخر، والتی عادة ماتستند إلى التفسیرات الخاطئة للثواب و العقاب.
فمثلا یتساءل البعض:
ما تأثیر ذنوبنا على الله لیؤاخذنا بها و یعاقبنا علیها؟ إنّنا نذنب لکنّه هو الکبیر و القادر و العالم فلماذا یعاقبنا؟ إذن ما الفرق بیننا و بینه؟
فهو الذی یصفح و یعفو.
و بغض النظر عمّا سبق فإن أقصى ما یعمر أعتى الظلمة و أعظم الأثمة لا یزید على مئة سنة، فما معنى هذا العذاب لملایین السنین و الخلود فیه؟ إنّ فلسفة العقاب لا تتجاوز أحد ثلاث: الاستناد إلى روح الثأر أو من أجل اعتبار الآخرین أو تربیة الخاطئین. و لایصح أی من هذه المواضیع الثلاثة بشأن العقاب فی العالم الآخر، فأمّا الثأر و الإنتقام فالله منزّه عنه، لأنّ الإنتقام (و خلانا لما یتصور) لا یفید القدرة، بل هو علامة على ضعف الإنسان و عجزه الروحی، و الانتقام مسکّن للأرواح المجروحة، أو الأصح عامل من
أجل تخدیر الأرواح المریضة و العاجزة، وعلیه فالعقاب الإلهی لاینطوی على أی عنصر إنتقام.
کما لا ینطوی على «عنصر تربوی» بالنسبة لمرتکب الذنب أو الآخرین، فمرکز التربیة هو هذا العالم و لیس هنالک من فرصة فی العالم الآخر، و علیه فإنّ العقوبات فی العالم الآخر لیست مثل القوانین الجزائیة و لعقوبات فی عالم الدنیا، فمثل هذه العقوبات تختزن الجانب التربوی، بینما لا معنى له فی الحیاة الآخرة.
یمکن الردّ على التساؤلات السابقة من خلال الإلتفات إلى حقیقة و هی أنّ العقاب الاُخروی و الجزاء فی القیامة لیس إلاَ آثار و نتائج الذنوب والمعاصی فی روح الإنسان و جسمه و کذلک تجسمها.
توضیح ذلک: هنالک عدّة آیات قرآنیة و روایات إسلامیة ذات عبارات رائعة بشأن رابطة هذا العالم بعالم الآخرة یمکنها کشف الإغماض المذکور، مثلا ورد فی الآیة 20 من سورة الشورى: (مَنْ کَانَ یُرِیدُ حَرْثَ الاَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فی حَرْثِهِ). فالتعبیر بالحرث یفید أنّ الثواب و العقاب فی ذلک العالم لیس سوى نتائج أعمال الإنسان.
و ورد فی الآیة 15 من سورة الجن: (اَمَّا الْقَاسِطُونَ فَکَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبَاً).
و نخلص من ذلک إلى أنّ النار لیست سوى الصورة الأخرى لأعمال الأفراد، وجاء فی الآیة 39 من سورة الصافات: (وَ مَا تُجْزُوْنَ إِلاَ مَا کُنْتُم تَعْمَلُونَ).
و یفهم من ذلک أنّ الثواب أیضا هو ذات الأعمال و الذی یستفاد من
هذه العبارات أنّ الذی سیلازمنا فی العالم الآخر هو الأعمال الحسنة و السیئة والتی صدرت منّا فی هذا العالم و هی التی ستبلغ بنا التکامل أو التسافل. فستخرج هذه الأعمال آنذاک من خفایاها و تظهرلنا بشکل جدید، فإمّا أن تنیر أعماقنا و تشعرنا بالحیویة و النشاط و إمّا أن تحرقنا، على کل حال فهی معنا ولا تفارقنا، فهی أبدیة بإذن الله کسائر الأشیاء فی ذلک العالم لایتطرق إلیها الفناء و الزوال، و هکذا فمسألة الثواب و العقاب لیست مثل أجرة العمال و معاقبة العبید، و لیس لها بعد الإنتقام، کما لیس فیها عبرة للمذنبین أو غیرهم، بل هی نوع آخر یمکن التعبیر عنه بـ «أثر العمل».
و الطریف فی الأمر أنّه ورد فی الروایة المعروفة «الدنیا مزرعة الاخرة». وبالإلتفات إلى مفهوم المزرعة یتضح أنّ ما نحصده هناک هو المحصول لبذور الأعمل الحسنة و السیئة التی غرسناها هنا، فلو نثرنا عدّة بذور من الأشواک ورأینا أنفسنا بعد سنوات أمام میدان واسع ملیئى بالشوک و لابدّ لنا من عبوره، فهل نکون قد حصلنا على شیء غیر الذی زرعناه؟ و بالعکس لو نثرنا بذور الزهور فی مزارعنا و واجهتنا بعد مدّة حدیقة غنّاء ملیئة بالزهور و الأوراد ذات الروائح العطرة التی تبعث النشاط و السرور فی قلب الإنسان، فهل تکون سوى نتیجة عملنا؟ فلا فی الحالة الأولى هناک ظلمنا و لا فی الحالة الثانیة ما تلقیناه عبثاً دون حساب، و لم نحصل فی الصورتین سوى على نتیجة عملنا (علیک بالدقّة). و الآن نسأل: إذا کانت تلک الأشواک و هذه الزهور خالدة أبدیة، تجعلنا نعیش الألم أو اللذة دائماً، فهل هناک من مقصر؟ أم أنّ ذلک ینافی العدل؟ أم لنا الحق فی الشکوى؟ إذا فهمنا الثواب و العقاب على أساس ما تقدم فسوف تزول کل علامات الإستفهام (علیک
بالدقّة أیضاً).
و سنتحدث بالتفصیل عن ذلک فی بحث «الخلود» و «تجسد الأعمال».