هذه هی المحاکم الأربعة التی تواجهنا، إلاّ إنّنا إذا أمعنا النظر فی کل واحدة منها لرأینا أنّه کتب على بوابة کل منها هذه العبارة «هذه المحکمة خاصة ولا تعالج إلاّ بعض الجرائم».
و خصوصیة هذه المحاکم لا تحتاج إلى بحث، لأنّ وظیفة المحاکم الرسمیة ـ کما ذکرنا آنفا ـ واضحة و لیس لها أن تطول جمیع المجرمین والآثمین، و لو وسعها ذلک و إنتصرت للمظلوم من الظالم، لما إحترق العالم الیوم بنیران کل هذا الظلم و الجور و الاستعباد و الاستعمار و الاستغلال.
و أمّا محکمة الجزاء فهی الأخرى لا بُعد عمومی لها، و کأنّی بها لیست إلاّ برنامج تربوی و تحذیر للجمیع من خلال إبانتها لبعض النماذج! و لذلک نرى بعض المجرمین الذین فروا من مخالبها، إضافة إلى أنّ بعض الجنایات قد تکون ثقیلة بحیث لایسعها الجزاء و یقتصر على التعامل مع جانب معین من جوانبها.
و أمّا محکمة الآثار الطبیعیة للأعمال فهی کسابقتها لها بعد خاص، لأنّ شعاع عمله إنّما یشتمل غالباً على ذنوب تتخذ بعداً عاماً، أو إن إرتکبه فرد لابدّ أن یواصل العمل به لمدّة طویلة لیتضح شؤمه و مرارته، و علیه فإنّ کثیراً من المجرمین و الجرائم خارجة عن نطاق قضاء هذه المحکمة و لم تبق إلاّ «محکمة الضمیر» و التی أثبتنا خصوصیتها فی الأبحاث السابقة حین تعرضنا إلى وظیفة هذه المحکمة، فلا یتمتع کافة الناس بضمیر حی ویقظ، فضعف الوجدان الذی یحصل بسبب عدّة عوامل إنّما یؤدّی إلى هروب جماعة من المجرمین و الجناة الخطرین تحت ذرائع مختلفة من مخالب عقوبات هذه المحکمة.
و بناءاً على ما تقدم فالنتیجة التی نخلص إلیها من خلال الدراسة الشاملة للمحاکم الأربع المذکورة إلى أنّ أی من هذه المحاکم لیس لها بعداً عاماً و شاملا بحیث تنزل العقاب بکافة الجناة و المجرمین لإرتکابهم أیة جنحة أو جنایة بعد مثولهم للمحاکمة، و کأنّها بمنزلة إخطارات و إشعارات متتالیة تهدف إلى تربیة البشر و إیقاظه لیس أکثر.
