القیامة محکمة عظیمة لابدّ أن یحضرها الجمیع دون إستثناء و یمثلوا للمحاکمة، ولکن کما ذکرنا أنّ ألفاظنا قد أبتدعت منذ الیوم الأول بشأن حیاتنا الیومیة، و لذلک سیتعذر علینا التحدث بمجرّد أن نخرج عن إطار حیاتنا الیومیة، لأنّنا لا نجد الألفاظ التی تبیّن المفاهیم التی سنتعامل معها!
خاصة بشأن الحیاة فی العالم الآخر; العالم الذی یختلف تماماً عن هذا العالم، حیث یفوق بمراتب هذا العالم سمواً و رفعة، و لاینطوی على حیاته المملة المتعبة. بالضبط کالتوأمین فی بطن أمّهما ـ فرضاً ـ یضعون ألفاظاً من أجل قضاء حاجاتهما، فمن البدیهی أنّهما حین یلدان و یریان أنواع المشاهد والمناظر و الکائنات و الظواهر و الأفراد و الأشخاص فلیس أمامهما من سبیل سوى التفاهم عن طریق الإشارات و حرکة العیون و الحواجب من أجل إفهام الآخرین ما یریدان، لأنّ قاموسهما فی مرحلة الجنین قد لا یشتمل على عشر مفردات، و الحال یحتاج العالم الواسع الفعلی إلى عشرات آلاف المفردات للتعامل مع مطالبه و مفاهیمه، فسعة ذلک العالم بالنسبة لعالمنا کنسبة هذا العالم إلى عالم الجنین، و علیه فلیس من العجیب ألاّ تستطیع الألفاظ والمفردات التی نتحدث بها فی هذا العالم أن ترسم لنا صورة کاملة عن شکل الحیاة فی العالم الآخر، فنشعر بالإعیاء و العجز لوصف روعة النعم و عظمة تکامل تلک الحیاة، بل یصعب علینا نحن الذین نعیش فی سجن الدنیا حتى تصورها.
على کل حال فحین نقول سیمثل جمیع الأفراد للمحاکمة فی ذلک العالم، فإن ذلک لایعنی ستنصب عدّة طاولات فی المحشر و سیحمل کل فرد ملفه صغیراً کان أم کبیراً تحت إبطه و یرد مع الشهود، فیمثل مثلا بین قضاة و حکام تلک المحکمة الذین یکونون من الملائکة، ثم تبدأ المحاکمة العلنیة بعد الإستماع إلى الإفادة و التحقیق و السؤال و الجواب و یهب المتهم للدفاع عن نفسه ثم یتداول القضاة ـ الملائکة ـ الحکم فیصدرون أحکامهم بتبرأة الأفراد أو إدانتهم، و بعد إمضاء الحاکم المطلق ـ الذات الإلهیة المقدسة ـ للحکم یبلّغ مأموری إجراء الأحکام الإلهیة; أی ملائکة الجنّة و النار بتطبیقها، کلا لیس الأمر کذلک أبدا! فهناک تتخذ الألفاظ صبغة و مفهومها آخراً، فهناک شبح للمحکمة إلاّ أنّه على مستوى أرفع بالشکل الذی لم نره و نسمعه قط.
و إن ورد الکلام عن میزان الأعمال فهذا لایعنی وضعها فی کفة من میزان ویضعون عدداً من الأثقال فی الکفة الثانیة حتى تحصل حالة التوازن فیعلم الوزن الواقعی، أو إن کان أکثر جیىء بمیزان ضخم لیحسب وزن الأعمال، کلا لیس الأمر کذلک. قلنا إنّ الألفاظ هناک تتخذ شکلا آخر (و لابدّ أن تکون کذلک) لأنّ الحدیث عن عالم یختلف تماماً عن عالمنا هذا.
طبعاً لا ینبغی أن تکون هذه الحقیقة وسیلة للتفاسیر الخاطئة والمنحرفة ومدعاة إلى نوع من الفوضى فی الألفاظ المتعلقة بالعالم الآخر، بل لابدّ من توضیح مفاهیم هذه الألفاظ فی ظل القرائن الموجودة، من جانب آخر فإن مفاهیم الألفاظ إنّما تتغیر بمرور الزمان فی الحیاة الدنیویة: فحین کانت تطلق کلمة السراج یراد بها تلک القارورة المملوءة بالزیت و فی فوهتها فتیلة طویلة یخرج جزء منها للإشعال و یأخذ الزیت بالإحتراق شیئاً فشیئاً، و أحیاناً توضع علیها مظلة متواضعة لإحتواء الدخان.
أمّا الیوم فتطلق هذه الکلمة و یراد بها المصباح الکهربائی الذی یعلق فی السقف فلا من زیت و لا فتیلة، و لا یحمل من السراج القدیم سوى خاصیته فی مکافحة الظلمة، و یصدق هذا الکلام على سائر وسائل الحیاة القدیمة والجدیدة على أنّ تلک الوسائل و الأدوات تغیرت تماماً، غیر أنّ النتیجة باقیة ثابتة، فإن کان هذا الاختلاف و التغییر إلى هذه الدرجة بشأن زمانین فی هذا العالم، فما بالک بذلک العالم الذی یختلف بکل تفاصیلة عن هذا العالم، بحیث إذا لم نحصل على ألف باء آخر لبیان مفاهیمه فلابدّ على الأقل أن نفکر فی إستعمال ألفاظ أکثر بالنسبة لنتائجها، طبعاً لا نقول إنّنا نفسّرها کیفما نشاء ونصرّح بأنّ لهذه الألفاظ وضع خاص.
و نخوض الآن فی تفسیر هذه المفاهیم بعد تلک المقدمة.
