لا شبهة و لا شک فی الفارق بین الإنسان و الحجر و الخشب الخالی من الروح، لأننا نشعر بانّنا نختلف عن الجمادات بل و حتى النباتات، فنحن نفهم وندرک و نتصور و نقرر و نعشق و نتنفر و لنا إرادة و... بینما لیس هنالک أی من هذه المفردات للنباتات و الأحجار، و علیه فهناک عدّة فوارق أصولیة بیننا وبینها و ذلک هو إمتلاک «الروح الإنسانیة»، و لم یتنکر المادیون و لا غیرهم لأصل وجود «الروح» أو «النفس» و من هنا فهم یقرون بعلمی معرفة النفس و بحث النفس. و العلمان المذکوران و إن إجتازا تقریباً مراحلهما البدائیة، فهما على کل حال من العلوم التی تدرس فی کبار جامعات العالم ومن قبل الاساتذة والباحثین، و کما سنرى فإنّ «الروح» و «النفس» لیسا حقیقتین منفصلتین عن بعضهما، بل مراحل مختلفة لحقیقة واحدة. فإن کان الکلام عن إرتباط الروح بالجسم و التأثیر المتبادل لکل منهما على الآخر، أطلقنا علیه إسم «النفس» بینما نستعمل اسم الروح حیث نتعرض للظواهر الروحیة المنفصله عن الجسم.
و الخلاصة لیس هناک من ینکر أن فی وجودنا حقیقتان باسم الروح والنفس.
و الآن لابدّ من رؤیة موضع النزاع بین «المادیین» و «فلاسفة المیتافیزیقی(1) و الروحیین»؟
الإجابة على هذا السؤال هی: یرى علماء الإلهیات و الروحیون أنّ هناک حقیقة أخرى و جوهراً کامن فی نفس الإنسان من غیر جنس المواد التی تشکل بدنه، و التی یتأثر بها بدن الإنسان بصورة مباشرة.
بعبارة أخرى: إنّ الروح حقیقة ما وراء الطبیعة تختلف بنیتها و نشاطها عن بنیة و نشاط عالم المادة، نعم هی مرتبطة دائماً بعالم المادة إلاّ أنّها لا تتصف بخصائص المادة.
و بالمقابل هناک الفلاسفة المادیون الذین یعتقدون بعدم وجود موجود مستقل عن المادة یدعى الروح أو أی اسم آخر، و کل ما موجود هو هذه المادة الجسمیة أو آثارها الفیزیائیة و الکیمیائیة، لدینا بعض الأجهزة من قبیل الدماغ و الأعصاب و التی تقوم بجانب مهم من نشاطاتنا الحیاتیة وهی کسائر الأجهزة البدنیة المادیة و التی تمارس وظائفها فی إطار قوانین المادة.
ولدینا غدد تحت اللسان تعرف باسم «غدد البزاق» و التی تقوم بوظائف فیزیائیة و کیمیائیة، فما إن یرد الطعام الفم حتى تبدأ هذه الغدد بممارسة وظیفتها بفرز السوائل الکافیة لترطیب الطعام و سحقه، و إن کان الطعام یشتمل على بعض الماء فانّها تفرز سائلا بالقدر الذی یرطبه أیضاً; أی بمقدار أقل، بینما تضاعف من هذا السائد إن کان الطعام یشتمل على بعض الحوامض بحیث یترطب بالشکل الذی لایسبب أی ضرر على جدار المعدة.
فإذا ما إبتلع الإنسان الطعام قعدت هذه الغدد عن العمل، و زبدة الکلام هناک نظام عجیب یحکم هذه الغدد بحیث إذا إختل حسابها لساعة فإمّا أن یسیل الماء على الدوام من فمنا على شفاهنا، و إمّا أن یجف فمنا و بلعومنا بحیث تحشر لقمة الطعام فی حناجرنا.
هذه هی الوظیفة الفیزیائیة للبزاق، إلاّ أنّنا نعلم بأنّ الوظیفة الکیمیائیة هی الوظیفة الأهم للبزاق، حیث یتحد مع مختلف المواد فیترکب مع الطعام و یحد من إجهاد المعدة.
یقول المادیون: إنّ سلسة أعصابنا و دماغنا تشبه الغدد البزاقیة و ما شابهها حیث لها أنشطة فیزیائیة و کیمیائیة (و التی یطلق علیها فیزیا کیمیائیة) و هذه الأنشطة الفیزیا کیمیائیة هی التی نصطلح علیها بالروح أو «الظواهر الروحیة».
توضیح ذلک: حین ننشغل بالتفکیر فإنّ سلسلة أمواج ألکترونیة خاصّة تنبعث من دماغنا، و الیوم تؤخذ هذه الأمواج بأجهزة و تسجل على ورقة ولاسیّما فی المستشفیات النفسیة، فیتوصلون من دراسة هذه الأمواج إلى الطرق اللازمة للتعرف على الأمراض النفسیة و سبل علاجها، هذه هی الوظیفة الفیزیائیة لدماغنا.
إضافة إلى ذلک، فإنّ لخلایا الدماغ سلسلة من الأفعال و الإنفعالات الکیمیائیة حین التفکیر و سائر الأنشطة النفسیة.
و بناءاً على هذا فالروح و الظواهر الروحیة ما هی إلاّ الخواص الفیزیائیة والأفعال و الإنفعالات الکیمیائیة للخلایا الدماغیة و العصبیة.
ثم یخلصون من هذا البحث إلى هذه النتائج:
1ـ کما أنّ أنشطة الغدد البزاقیة و آثارها المختلفة لم تکن موجودة قبل البدن و بعده سوف لن تکون أیضاً، فإنّ أنشطتنا الروحیة وجدت بظهور الدماغ و الجهاز العصبی و ستموت بموتهما.
2ـ الروح من خواص الجسم، إذن فهی مادیة و لیس لها من بعد لما وراء الطبیعة.
3ـ تخضع الروح لجمیع القوانین التی تحکم الجسم.
4ـ لیس للروح و لایمکن أن یکون لها من وجود مستقل دون البدن.
1. المراد بالمیتا فیزیقیا ما وراء الطبیعة.
