روح الجهاد، دفاعٌ لاغزو:

SiteTitle

صفحه کاربران ویژه - خروج
ورود کاربران ورود کاربران

LoginToSite

SecurityWord:

Username:

Password:

LoginComment LoginComment2 LoginComment3 .
SortBy
 
نفحات القرآن (الجزء العاشر)
تمهید:1 ـ الجیوش المنظمة والتعبئة الجماهیریّة

فی الآیة الأولى من الآیات الآنفة الذکر، والتی یعتقد جمعٌ من المفسرین أنّها أول آیة فی الجهاد، تزیح الستار عن أهم فلسفة للجهاد، وتجیز للمسلمین الذین حوصروا من قبل الأعداء الشرسین الجائرین، أن یحاربوا هؤلاء عسکریاً ویجاهدوهم، یقول تعالى.

(اُذِنَ لِلَّذِینَ یُقَاتَلُونَ بِاَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإَنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقِدیرٌ).

فهنا حصل المسلمون على إذن بالجهاد، مضافاً إلى أنّهم وُعدوا بالنصر من قبل الله تعالى، وقد ذکر لذلک دلیل، وهو أنّ العدو هو الذی بدأ الحرب العدوانیة علیهم، ولذا فالسکوت عنه خطأ، لأنّه یؤدّی إلى تجرؤ العدو وتجاسره وإلى ضعف المسلمین.

یقول المرحوم الشیخ الطبرسی فی مجمع البیان: وکان المشرکون یؤذون المسلمین ولا یزال یجیء مشجوج ومضروب إلى رسول الله(صلى الله علیه وآله) ویشکون ذلک إلى رسول الله(صلى الله علیه وآله)فیقول لهم صلوات الله علیه وآله: إصبروا فإنّی لم أؤمر بالقتال، حتى هاجر فأنزل الله علیه هذه الآیة بالمدینة وهی أول آیة نزلت فی القتال»(1).

والملفت للنظر هو أنّ القرآن المجید یقول فی الآیة السّابقة لهذه الآیة: (إِنَّ اللهَ یُدَافِعُ عَنِ الَّذِینَ آمَنُوا)، أی أنّ هذا الکلام لا یعنی أن یجلس هؤلاء فی زاویة من زوایا المسجد ویضعون یداً على ید وینتظرون دفاع الله، بل إنّ سنة الله اقتضت أن یکون دفاعه عن المؤمنین بعد أداء وظیفتهم فی أمر الجهاد ومواجهة العدو، إذن، فالذین یحقّ لهم الإطمئنان للحمایة الإلهیّة هم الذین لم یترکوا وظیفة الجهاد.

کما أن النکتة الاُخرى التی ینبغی الإلتفات إلیها هی أنّ الآیة اللاحقة تقول فی تحفیز المؤمنین على الدفاع المقدس: (الَّذینَ اُخْرِجُوا مِنْ دِیَارِهِمْ بِغَیْرِ حَقٍّ).   (الحج / 40)

 

 

أی أنّ المشرکین أخرجوکم من وطنکم ومنازلکم لا لذنب إلاّ لإیمانکم بالله، ولذا إذا لم تقفوا فی وجوههم وتقاتلون تعرضت دنیاکم ودینکم وإیمانکم ومساجدکم للخطر.

وبما أنّ الأمر بالجهاد صدر بعد الهجرة، فیدل على أنّ أصل الجهاد فی الإسلام هو الدفاع ضد الأعداء، لأنّ المسلمین لم یحملوا السلاح طیلة السّنوات الثّلاث عشرة على الرّغم من کل أسالیب الإیذاء والضرب والجرح، لعل المشرکین یعودون إلى الرّشد، ولما لم تنفع الأسالیب السّلمیة مع المشرکین وکانت نتیجة الصبر والتّحمل هو الهجرة العامة والضّغوط الاجتماعیة والاقتصادیة حتى بعد الهجرة، لم یکن هناک أی مبرر عقلی لجلوس المسلمین مکتوفی الأیدی ناظرین قساوة الأعداء واضطهادهم واعتداءاتهم!؟

وفی الآیة الثّانیة إشارة إلى فلسفة أُخرى للجهاد، وهی کالفلسفة المذکورة فی الآیة السّابقة یمکن أن توجد فی کل زمان ومکان، یقول تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَکُونَ فِتْنَةٌ وَیَکُونَ الدّینُ کُلُّهُ لِلّهِ).

والظّریف أنّ القرآن الکریم یشیر فی ذیل هذه الآیة بصراحة ویقول: (فَإِنِ انْتَهَوا فَإِنَّ اللهَ بِمَا یَعْمَلُونَ بَصِیرٌ).

وذهب جمع من المفسرین إلى أنّ المراد من «الفتنة» هو «الشرک»، وبعض قال إنّ المراد منها الضّغوط التی استعملها المشرکون لإرجاع المؤمنین إلى الشرک وردّهم عن إیمانهم.

وفی تفسیر المیزان ـ واعتماداً على جذور هذا المصطلح الأصلیة ـ فسَّر الفتنة بمعنى الأمور التی یُمتَحن النّاس بها، وبالطّبع فإنّ تلک الأمور تکون ثقیلة على النّاس وتستعمل عادة بمعنى زوال الأمن والصلح.

وقد ذکرنا فی التفسیر الأمثل، فی ذیل الآیة 193 من سورة البقرة خمسة معان لهذا المصطلح استناداً إلى آیات القرآن وهی:

1 ـ الإمتحان.

 

2 ـ المکر.

3 ـ البلاء والعذاب.

4 ـ الشّرک وعبادة الأوثان.

5 ـ الإضلال والإغواء.

وقد اُشیر فی بعض کتب اللغة کلسان العرب إلى أغلب هذه المعانی أیضاً، ومن البدیهی أنّ الفتنة فی الآیة مورد البحث لا یمکن أنْ تکون بمعنى الإمتحان أو المکر والبلاء، وعلیه فهی بمعنى الشّرک أو ضغوط المشرکین لإضلال الآخرین، ویمکن أن تکون بمعنى جامع شامل للشّرک وضغوط المشرکین والعذاب والبلاء، وعلیه فما دامت الضغوط مستمرة من قبل الکفّار لتغییر عقیدة المؤمنین، یکون القتال فی مواجهة ذلک مأذوناً فیه، ویجوز الجهاد للحصول على الحریّة والحدِّ من الضّغوط والتّعذیب، ولکن متى ما رفع الکفّار أیدیهم عن ممارسة ذلک، ینبغی الکف عن قتالهم، وعلیه فالجهاد هنا نوع من أنواع الدّفاع.

وفی الآیة الثالثة ورد أمرٌ للمسلمین لإعداد کلّ لون من ألوان القوّة لقتال الأعداء، یقول عزوجلّ: (وَاَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّنْ قُوَّة) ثُمّ یشیر إلى مصداق واضح لذلک کان یعدُّ حینذاک من وسائل القتال المهمّة، یقول عزّوجلّ: (وَمِنْ رِّبَاطِ الخَیْلِ).

وفی العبارة اللاحقة یشیر تعالى إلى الهدف النّهائی لهذا الإعداد ویقول: (تُرهِبُونَ بهِ عَدُّوَّ اللهِ وَعَدُوَّکُم).

وعلیه فالهدف من الإعداد وتهیئة القوى لیس غزو الآخرین والهجوم على أحد، وإنّما الهدف هو إخافة الأعداء، ذلک التخویف الذی یکون رادعاً من نشوب الحرب والقتال.

وفی الحقیقة، فإنّ تقویة البنیة الدّفاعیّة، کان دائماً عاملا مؤثراً فی الحدِّ من هجوم الأعداء، وهذا هدف مقدّس جدّاً ومطابق للعقل والمنطق.

ولابدّ من الإلتفات إلى هذه النّکتة وهی أنّ مفهوم الآیة الکریمة أوسع بکثیر، ویشمل کلّ نوع من أنواع إعداد القوى المعنویّة والمادیّة والعسکریّة والاقتصادیّة والثّقافیّة، وخصوصاً وأنّها تؤکد على القوى المتناسبة مع کل زمان، ویدل ذلک على أنّ المسلمین یجب أن لا یتوانوا، بل علیهم أن یسعوا جاهدین لتوفیر أحدث الأسلحة المعقدة فی زمنهم، بل ویسبقوا الآخرین فی ذلک، ولکن یبقى الهدف الأصلی لهذا الإعداد والاستعداد لیس غزو الآخرین والإعتداء علیهم، بل هو إطفاء نار الفتنة والحدّ من الإعتداء، وبعبارة اُخرى خنق هجوم الأعداء فی مرحلة النّطفة.

ولما کان إعداد المعدات العسکریّة المتطورة والحدیثة فی قبال الأعداء یحتاج إلى أموال طائلة، وهذا الأمر لا یمکن بدون اشتراک جمیع أفراد المجتمع، تعقّب الآیة الکریمة بهذا المعنى بالقول: (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَىء فِى سَبِیلِ اللهِ یُوَفَّ إِلیکُم وَأَنْتُم لاَ تُظْلَمُونَ).   (الانفال / 60)

والنّکتة المهمّة هنا هی أنّ الآیة اللاحقة لهذه الآیة: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَکَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِیعُ العَلِیمُ).   (الأنفال / 61)

فذکر هذه الآیة بعد تلک له معنى دقیق وعمیق، وهو تأکیدٌ آخر على روح حب الصّلح والسّلام فی الإسلام، أی أنّ أمر المسلمین بإعداد أفضل أنواع الأسلحة والقوى إنّما هو من أجل تحکیم اُسس السّلام والصّلح لا الإعتداء على أحد.

والآیة الرّابعة وفی ضمن التّرغیب فی الجهاد، تقّید الجهاد أوّلا بالأهداف المقدّسة، ثُمّ تؤکد على توحید صفوف المسلمین، وهی من أهم عوامل الإنتصار فی الحرب مع الأعداء، یقول عزوجلّ: (إِنَّ اللهَ یُحِبُّ الَّذِینَ یُقاتِلُونَ فِى سَبیلِهِ صَفّاً کَأنَّهُمْ بُنْیَانٌ مَّرْصُوصٌ) وعبارة «فی سبیله» الواردة فی کثیر من آیات الجهاد تکشف لنا هذه الحقیقة وهی أنّ الجهاد یجب أن لا یکون من أجل حبّ التسلَّط والإستعمار والإستعلاء وغصب حقوق الآخرین وأراضیهم أو الإنتقام منهم أو اتباعاً للهوى والرّغبات، بل لابدّ أنْ یکون الهدف هو الحقّ والعدالة وما یوجب رضا الله تعالى فقط، وتکرار هذا التّعبیر فی آیات عدیدة من القرآن إنّما هو للحدِّ من وقوع الحروب التی یکون الهدف منها وساوس ورغبات شیطانیّة ومادیّة، وهذا الأمر هو الفارق الأساسی بین القوى المسلحة الإسلامیّة وبین غیرها! (التفتوا جیداً).

ثُمّ أنّ التّعبیر بجملة بنیان مرصوص (وهو البناء الذی استُعمل فیه الرّصاص الذّائب بدلا من الإسمنت، لکی یکون صلداً وقویاً) ویمکن أنْ یکون إشارة إلى أنّ أعداء الإسلام کالسّیل الجارف المخرب، وأنّ صفوف المجاهدین المسلمین کالسدِّ الحدیدّی المنیع الذی یصمد أمام السُّیول. أو هو إشارة إلى السّدِّ الحدیدی الذی بناهُ ذو القرنین لمقابلة قوم «یأجوج ومأجوج» السّفاکین للدّماء، أو کنایة عن کلِّ سدٍّ یقام فی وجه الأعداء وهجومهم.

وعلى أیّة حال، فإنّ هذا التّعبیر یدلّ على أنّ الجهاد فی الإسلام له صفة دفاعیّة فی الأصل، لأنّ السّدود وسیلة دفاعیّة مؤثرة فی قبال أمثال «یأجوج ومأجوج» على مرِّ التّاریخ، ولا یوجد سدٌّ لهُ میزة الغزو والهجوم والإعتداء.

وکما أنّ السُّدود إذا أصابها خَللٌ أو ثغرة فإنّها ستکون معرضة للخطر والتّلاشی، فکذلک صفوف المجاهدین الرّسالیین فمتى ما برز فیها اختلاف وفرقة وعدم انسجام، فستکون محکومة بالإندحار والفشل، فالله عزّوجلّ یحب الصّفوف المتراصفة المتحدة المتفقة والمنسجمة تماماً.

وفی الآیة الخامسة، یأمر نبی الإسلام(صلى الله علیه وآله) أن یحفز المسلمین على قتال الأعداء، وهذا الأمر وارد بعد تلک الآیات التی تحرض على إعداد القوى لإخافة العدو والحدِّ من وقوع الحروب المدمرّة، وکذلک بعد الآیة التی تحرضهم على الصّلح والسّلم.

وفی الحقیقة، الحرب فی نظر الإسلام آخر وسیلة مشروعة تستعمل للحدِّ من اعتداءات الأجانب الأعداء، ففی البدء تعدُّ القوى لترهب الأعداء، ثُمّ دعوتهم إلى السّلم من موضع القدرة لا من موضع الضّعف، ثُمّ یصدر أمر القتال والجهاد إذا لم تنفع تلک السّبل، یقول عزّوجلّ: (یَا أَیُّهَا النَّبىُّ حَرِّضِ الْمُؤمِنِینَ عَلَى الْقِتَالِ)، ثُمّ یشیر إلى أهم عوامل النصر یعنی الإستقامة والصّمود، ویقول: (إِنْ یَکُنْ مِنْکُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ یَغْلِبُوا مِائَتَیْنِ وَإِنْ یَکُن مِّنْکُمْ مِائَةٌ یَغْلِبُوا أَلْفاً مِّنَ الَّذِینَ کَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ یَفْقَهُونَ).

فغباء هؤلاء وجهلهم یکون من جهة سبباً فی مخالفتهم للمنطق والعقل وإصرارهم على روح العدوان فلا یفهمون إلاّ منطق القوّة، ومن جهة اُخرى یکون جهلهم سبباً لضعفهم وعدم اقتدارهم فی میدان الحرب، وذلک لأنّهم یفتقدون الهدف والمبرر الواقعی فی حروبهم، ومن هنا فإن بإمکان المؤمن الواحد أن یغلب عشرة منهم إذا ما استقام وصمد، وبإمکان العشرین أن یغلبوا مائتین من الکفار.

یقول الراغب فی مفرداته: التّحریض فی الأصل بمعنى التّحریک نحو شیء بعد تزیینه وتسهیل طریق الوصول إلیه عن طریق إزالة الموانع ـ وفی الحقیقة فإنّ الإیمان بالله والإعتقاد بیوم المعاد والأجر العظیم الذی أعدّهُ الله للمجاهدین والشّهداء فی سبیل الله یزیل کل الموانع عن طریق جنود الإسلام، ویهوّن علیهم هذا العمل الثقیل والصّعب جدّاً.

هذه الآیة تُخطّیء کلّ حسابات الموازنة بین القوى الظّاهریّة والمادیّة، وتدل بوضوح على أنّ سلسلة من القوى المعنویّة موجودة عند المسلمین یمکنهم بالإتکاء علیها کسر شوکة جیش العدوّ المتفوّق صوریاً بعدته وعدده علیهم، وکسب المعرکة لصالح المسلمین.

الآیة السّادسة تحرض المؤمنین على الجهاد بطریق آخر، بواسطة تشبیه الجهاد بالتّجارة المربحة الّتی توجب النّجاة من عذاب ألِیم، والنصر فی الدّنیا والآخرة، یقول تعالى: (یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّکُمْ عَلَى تِجارَة تُنْجِیْکُمْ مِّنْ عَذَاب أَلیم * تُؤمِنُونَ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِى سَبِیلِ اللهِ بِأَمْوَالِکُمْ وَأَنْفُسِکُمْ ذَلِکُمْ خَیْرٌ لَّکُمْ إِنْ کُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)، وفی الآیات اللاحقة لهذه الآیات یَعد المؤمنین بدرجات عظیمة، حیث یقول: (یَغْفِرْ لَکُمْ ذُنُوبَکُمْ وَیُدْخِلْکُمْ جَنّات تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهارُ وَمَسَاکِنَ طَیِّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْن ذَلِکَ الْفَوزُ الْعَظِیمُ * وَاُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِیبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤمِنِینَ).

 

ففی هذه الآیات یعتبر رأسمال هذه التّجارة المربحة فی الدّنیا والآخرة مُرکَّب من الإیمان والجهاد، أی أنَّ «العقیدة» و«الجهاد» هما رکنا هذه التّجارة، ذلک الجهاد الذی یکون بالمال والنّفس معاً، إذ إنّ إعداد الوسائل والمعدات العسکریّة اللازمة للنّصر لا یمکن إلاّ بصرف الأموال، والملفت للنّظر هنا هو أنّه لم یذکر أن نتیجة الجهاد هی المغفرة والرّحمة الإلهیّة والنِّعم الخالدة فی الجنّة فقط، وإنّما یذکر النّصر القریب فی هذه الدّنیا ویعتبره أعزّ من آثاره الاُخرى. (دققواجیداً).

والتّعبیر بالتّجارة، إشارة إلى نکتة أنّ الإنسان على أیّة حال له رأسمال، وهذه الدّنیا کالمتجر یمکن استغلال رؤوس الأموال، فیها وتشغیلها وتبدیلها إلى رؤوس أموال خالدة وباقیة، وهذا لا یتمّ إلاّ بالتّعامل مع الوجود المقدسّ للباری تعالى، الوجود الذی بیده کل مفاتیح الخیر والسّعادة، والتّجارة مع هذا الوجود مقترن على الدوام مع الکرامة والمواهب وأنواع النّعم.

کما أنّ النّکتة الجدیرة بالذکر هنا هی أنّ المخاطب فی هذه الآیات هم المؤمنون، مع أنّها تدعوهم فی نفس الوقت إلى الإیمان! والهدف من ذلک هو أنْ یرتقی هؤلاء المؤمنون من مراحل الإیمان الابتدائیة والصُوریة إلى المراحل العالیة المقترنة بالجهاد والأعمال الصّالحة، وذلک لأنّ الإیمان شجرة مثمرة تبدأ من شجیرة صغیرة حتّى تصیر أغصانها عالیة إلى عنان السّماء، فتثمر أنواع الفضائل ومکارم الأخلاق، وهذا یحتاج إلى طی مراحل تکاملیّة مختلفة.

وفی الآیة السّابعة، نجد نفس مضمون الآیة السّابقة ولکن فی صورة جمیلة أخرى، فهی تصور المعاملة وکأن الله هو المشتری والمؤمن هو البائع، والمتاع هو الأموال والأنفس، والثمن هو الجنّة الخالدة، وأسناد هذه المعاملة العظیمة المربحة ووثائقها، ثلاثة کتب سماویة هی التّوراة والأنجیل والقرآن، یقول تعالى:

 

(إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤمِنِینَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ یُقَاتِلُونَ فِى سَبِیلِ اللهِ فَیَقْتُلُونَ وَیُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَیْهِ حَقَاً فِى التَّورَاةِ وَالإِنْجِیلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ).

وهذه التّجارة المربحة بأرکانها الأربعة ووثائقها المضمونة، من أهم التّجارات التی یمکن أن یقوم بها الإنسان فی طول عمره ولهذا یبارک عزّوجلّ للمؤمنین بصورة مباشرة هذه المعاملة المربحة حیث یقول: (فَاسْتَبْشِرُوا بِبَیْعِکُمُ الَّذِى بَایَعْتُمْ بِهِ وَذَلِکَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِیمُ).

نعم لقد کانت هذه الدّواعی هی السبب فی وصول معنویات المقاتلین المسلمین إلى أعلى مستویاتها الممکنة، فمع قلة عَدَدهم وعدّتهم استطاعوا أنّ یتغلبوا على عدوهم فی شرق العالم وغربه.

وفی الآیة الثّامنة یخاطب المؤمنین مرّةً أُخرى ویأمرهم بالصبر والمثابرة والإستعداد لصدّ هجمات الأعداء، یقول عزّوجلّ: (یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا ورَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّکُمْ تُفْلِحُونَ).

ففی هذه الآیة أربعة أوامر مهمّة تضمن عزّة المؤمنین وانتصارهم: الأوّل، الأمر بالصّبر والصّمود أمام الأحداث المختلفة وهوى النّفس والشهوات، فیقول: إصبروا وهو فی الواقع أساس کل انتصار.

ثُمّ یأمرهم بعد ذلک بالمصابرة، وهی من باب مفاعلة بمعنى الصّبر والإستقامة فی مقابل صبر واستقامة العدو، وبتعبیر آخر فإنّ مفهومها هو إنّه مهما کانت المشاکل کثیرة وصعبة فإنّ صبرکم واستقامتکم أیها المؤمنون لابدّ وأنْ یکون أکبر، وکلما زاد العدو من هجومه، علیکم أنْ تزیدوا من استقامتکم وصمودکم حتى تغلبوا العدو (وصابروا).

وفی الأمر الثّالث یأمرهم بالمرابطة ویقول: (ورَابِطُوا)، وهذه الجملة مأخوذة من مادة «رباط» وهی بالأصل بمعنى ربط شیء فی مکان ما (کربط الفرس فی محل معین) وهی کنایة عن الإستعداد الذی یعتبر الصمود وحمایة الثّغور من أوضح مصادیقه، إذ إنَّ الجنود یحفظون دوابهم ووسائلهم ومعداتهم فی ذلک المحل.

ولذا فإنّ بعض المفسرین فسرها بحفظ الخیل والدّواب المرکوبة فی الثغور فقط، والإستعداد فی مقابل العدو حتّى قالوا إنّ مفهومها الواسع یشمل الإستعداد لصناعة المعدات الحربیة الحدیثة ـ أعم من تلک التی یستفاد منها فی حروب الجو أو الأرض أو البحر(1).

ولا شک فی أنّ هذا لا یعنی أنّ الآیة الکریمة لا تشمل الحدود الثّقافیّة والعقائدیّة، فإنّ مفهوم (رابطوا) واسعٌ إلى درجة أنّه یشمل کلّ استعداد للدّفاع مقابل العدو، ولذا شبّهت بعض الروایات الإسلامیّة، العلماء بحراس الحدود حیث یقف هؤلاء صفّاً بوجه جنود إبلیس، ویحولون دون هجومهم على الأشخاص الفاقدین لقدرة الدفاع عن أنفسهم، یقول الإمام الصّادق(علیه السلام): «عُلَماءُ شیعتِنا مُرابطون فِی الثّغر الّذی یلی إبلیسَ وعفاریتَه ویمنَعونَهُ عن الخروجِ على ضعفاءِ شِیعَتنا وعن أنْ یَسَّلطَ علیهم إبلیس»(2).

حتّى أنّه ورد فی بعض الرّوایات عن الإمام علیّ(علیه السلام) تفسیر جملة «رابطوا» بانتظار الصّلوات الواحدة بعد الاُخرى(3)، وهو فی الحقیقة کالإستعداد فی مقابل جنود الشّیطان (تأملوا جیداً).

وفی الأمر الرّابع، یأمرهم بالتّقوى، إشارة إلى أنّ الصّبر والإستقامة والمرابطة لابدّ أن تکون جمیعاً منسجمة ومعجونة بالتّقوى والإخلاص، وأن تکون منزهة عن کلّ ریاء وتظاهر.

وفی الآیة التّاسعة، یأمرهم عزّ وجلّ بأن یقاتلوا على جبهتین ویغلظوا فی القتال، جبهة الأعداء الدّاخلیین والعناصر المخربّة الّذین تغلغلوا فی صفوف المسلمین والّذین یستغلون الفرص لتضعیف الحکومة الإسلامیّة وزعزعة الأمن الداخلی، ویأمرهم أن یقفوا أیضاً بوجه الأعداء فی الخارج الّذین أشارت الآیة إلیهم بعنوان الکفار، یقول تعالى: (یَا أَیُّهَا النَّبىُّ جَاهِدِ الْکُفَّارَ وَالْمُنافِقِینَ وَاغلُظ عَلَیْهِمْ وَمَأواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِیرُ).

وبطبیعة الحال فإنّ الجهاد له معنى واسع، فکما یشمل المواجهة المسلحة یشمل أیضاً المواجهة الثقافیة والاجتماعیة والغلظة فی الکلام والکشف عن الهویات والتهدید أیضاً، وعلیه فما ورد فی الرّوایات عن الإمام الصّادق(علیه السلام): «إن رسولَ اللهِ لم یُقاتِل منافقاً قط»(4) لا ینافی ما جاء فی هذه الآیة.

ومضافاً إلى ذلک فإن ما جاء فی الآیة الشرّیفة یعتبر أمراً کلّیاً، فإن لم یتجاوز المنافقون الحدود المعینة لابدّ من مواجهتهم بالأسالیب غیر المسلحة فقط، وأمّا إذا کانت مؤامراتهم تشکل خطراً جدّیاً، لم یکن إلاّ مواجهتهم بالجهاد المسلح وکسر شوکتهم، کما حدث مراراً فی زمن الإمام علی(علیه السلام).

وبتعبیر آخر، فإنّه وإنْ کان رسول الله(صلى الله علیه وآله) قد سلک طریق المداراة واللین مع المنافقین ولکن، کما وذکر ذلک سید قطب فی تفسیر الظلال فإن اللین له مواضع وللشدّة مواضع اُخرى، وإذا لم یتصرف فی کل موضع بما یناسبه، أدى الأمر إلى تضرر الشّریعة والمسلمین، وعلیه فلا مانع من المداراة فی شرائط معینة، واستعمال الشّدّة والخشونة وحتّى الجهاد المسلح فی شرائط وظروف اُخرى(5).

وفی الآیة العاشرة إشارة إلى مقام المجاهدین والقوى العسکریّة الإسلامیّة الشّامخ، وأفضلیتهم وامتیازهم على الآخرین، یقول تعالى: (لاَّ یَستَوِى الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤمِنِینَ غِیْرُ اُوْلِى الضَّرَرِ وَالُْمجَاهِدُونَ فِى سَبِیلِ اللهِ بِاَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الُْمجَاهِدِینَ بِأَمْوالِهِمْ وَأنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِینَ دَرَجَةً وَکُلاّ وَعَدَ اللهُ الْحُسَنى وَفَضَّل اللهُ الُْمجَاهِدِینَ عَلَى الْقَاعِدِینَ أَجْراً عَظِیماً).

وبهذا یقسّم القرآن المجید المسلمین إلى مجموعتین «المجاهدین» و«القاعدین»، ثُمّ یقسم القاعدین إلى قسمین «اُولی الضّرر» و«غیر اُولی الضّرر» الذین یمتنعون عن الإشتراک فی القتال لتخاذلهم ثم یعتبر أنّ الدرجات العظیمة والفضل الکبیر والمغفرة والرّحمة الإلهیّة لا تشمل إلاّ المجاهدین.

ومن هنا یتضح تماماً أنّه، وخلافاً لما هو المعروف الیوم فی العالم من أنْ وظیفة القتال مع الأعداء مختصة بمجموعة خاصّة من النّاس.

إنّ وجوب القتال فی الإسلام یکون فی عهدة کلّ من یقدر على حمل السلاح وجهاد الأعداء ولهذا لم نعهد فی عهد رسول الله(صلى الله علیه وآله) تشکیل جیش خاص بعنوان القوات المسلحة، وعندما تندلع الحرب کان کلّ من یقدر على حمل السلاح وباستلهام من القرآن المجید یحمل سلاحه ویتجه نحو میدان القتال، وبتعبیر الیوم، فإنّ لکل فرد من المسلمین مکانه الخاص فی صف التعبئة العسکریّة، وهذا الأمر صار سبباً فی تعاظم القدرة العسکریّة عند المسلمین.


1. تفسیر المراغی، ج4، ص172.
2. بحار الأنوار، ج2، ص5.
3. تفسیر مجمع البیان، ج1 و 2، ص562.
4. تفسیر مجمع البیان، ج10، ص319.
5. تفسیر فی ظلال القرآن، ج4، ص255.
تمهید:1 ـ الجیوش المنظمة والتعبئة الجماهیریّة
12
13
14
15
16
17
18
19
20
Lotus
Mitra
Nazanin
Titr
Tahoma