وفی الأحادیث الإسلامیّة أیضاً (وتبعاً لآیات القرآن المجید) فلم تکتف بالحث والتّرغیب لتعلم العلوم الدینیّة فقط، بل نجد أنّ الرّوایات قد اهتمت بالترّغیب لتعلم العلوم المفیدة فی الحیاة المادیة والمعنویة مضافاً إلى العلوم الدینیة، وإلیک نماذج من تلک الرّوایات الشّریفة:

1 ـ ورد فی حدیث معروف عن النّبیّ الأکرم(صلى الله علیه وآله) أنّه قال:

«اُطلبُوا العِلمَ ولو بالصّین فإنّ طَلَب العِلم فَریضَةُ عَلى کُلّ مسلم»(1).

وینبغی الإلتفات إلى أنّ الصیّن فی ذلک الوقت کانت أبعد دولة معروفة، وعلیه فإنّ المراد من ذکر الصین هو التمثیل للبعد فی المسافات فی هذا الحدیث.

ومن البدیهی، فإنّ ما کان فی الصّین من العلوم لم یکن من العلوم الدینیّة والمعارف القرآنیّة، إذ لم تکن الصین مرکزاً من مراکز الوحی، بل کان المراد هو العلوم الدنیویة المفیدة.

2 ـ وفی حدیث آخر عن أمیر المؤمنین الإمام علی(علیه السلام)، قال: «الحِکْمَةُ ضالةُ المؤمنِ فاطلُبوها وَلو عِنْدَ المُشرِک»(2).

ومن الواضح، أنّ ما عند المشرکین لیس من العلوم الدینیّة ومعارف التوّحید، بل کان عندهم بعض العلوم المفیدة الاُخرى النافعة فی الحیاة.

ومن مثل هذه الأحادیث، یتداعى إلى الذّهن الشّعار المعروف «العلم لیس له وطن» ویؤکد على أن العلم ضالة المؤمن، وقد ورد فی حدیث آخر: «کلمة الحکمة ضالة المؤمن فحیثُ وَجَدها فهو أحقُّ بها»(3).

3 ـ وفی حدیث معروف عن النّبیّ الأکرم(صلى الله علیه وآله): «العلمُ عِلْمان عِلمُ الأدیانِ وعِلْمُ الأبدانِ»(4) (فالعلم الأول أساس سلامة الرّوح والثّانی أساس سلامة جسد الإنسان).

4 ـ وفی حدیث آخر عنه(صلى الله علیه وآله) قال:

«العِلْمُ ثلاثَة: الفِقْهُ للأدیان والطِّبُ للأبدان والنّحو للِّسان»(5).

فهنا یبیّن(صلى الله علیه وآله) ثلاثة أقسام مهمة من العلوم الإلهیّة والبشریّة، وهی العلوم الدینیّة وعلم الطّب والنحو الذی هو مفتاح العلوم الاُخرى.

5 ـ وفی حدیث آخر عن أمیر المؤمنین علی(علیه السلام):

«العلُوم أربَعَةٌ الفقه للادیانِ والطّبُّ للأبدان والنّحو للَّسان والنّجوم لمعرفة الأزمان»(6).

6 ـ وفی حدیث آخر عن الإمام الصّادق(علیه السلام) یقول فیه:

«وکذلک أعطى (الإنسانَ) علم ما فیه صلاح دُنیاه کالزّراعة والغِراس واستخراج(7)الأرضینَ واقتناء الأغنامِ والأنعام واستنباط المیاه ومعرفة العقاقیر التی یُستَشفى بها من ضروب الأسقام، والمعادن التی یستخرج منها أنواع الجواهر، ورکوب السَّفن والغوصِ فی البحر... والتصرُّف فی الصّناعاتِ ووجوه المتاجرِ والمکاسبِ»(8).

وبهذا، یعتبر الإمام الصّادق(علیه السلام) أن جمیع هذه العلوم من المواهب الإلهیّة وأنّه یحفِّز ویرغب النّاس على تعلّمها.

7 ـ وفی حدیث عن رسول الله(صلى الله علیه وآله) ضمن بیان حقوق الأبناء على الآباء، قال:

«ویُعَلِّمُهُ کتابَ اللهِ ویُطَهِّرَهُ ویَعلِّمَهُ السِّباحَةَ»(9).

فمن هذا الحدیث، یستفاد بوضوح أن تعلیم فنِّ السباحة أیضاً اُخذ بنظر الاعتبار لدّى مشرع الإسلام، وأوصى بتعلیمه للأبناء.

8 ـ وفی حدیث عن الإمام موسى بن جعفر(علیه السلام): «وبَعْدَ عِلْمِ القرآنِ ما یکون أشرفَ من علم النّجوم وهو علم الأنبیاء والأوصیاءِ وورثة الأنبیاءِ الذّین قال الله عزّوجلّ: وعلامات وبالنّجم هم یهتدون»(10).

فالمستفاد من مجموع الآیات والروایات المذکورة، وروایات أخرى یطول المقام بذکرها جمیعاً، هو أنّ الإسلام أسَّس نهضة علمیة واسعة، وأنّ هذه النهضة المبارکة نمت وترعرعت خلال قرنین أو ثلاثة وتشعبت تلک الشّجرة المبارکة حتى عمَّت غصونها کلّ العالم الإسلامی، وأثمرت فی فترة وجیزة ثماراً کثیرة منها الکتب الکثیرة التی أُلِّفتْ وصُنِّفتْ فی مختلف الفروع العلمیّة کالمعارف الإلهیّة والفلسفیّة والطّب والصّحة والجغرافیا والفیزیاء والکیمیاء وغیر ذلک، وتُرجِمَ بعضها وحققّ البعض الآخر ونشرت بصورة تحقیقات جدیدة لعلماء الإسلام.

العلماء الذین بحثوا تاریخ الحضارة الإسلامیّة وکتبوا کتُباً فی ذلک، ومنهم علماء الغرب خصصوا فصلا مهما من تاریخ الحضارة الإسلامیّة للنهضة العلمیّة عند المسلمین، وعدّدوا فروع علوم مختلفة انتشرت وإتخذت رونقاً خاصاً عندهم مع ذکر روّاد تلک العلوم المسلمین فرداً فرداً.

والنکتة المهمّة هنا هی اعتراف المؤرخین الغربیین الصّریح بأن النّهضة العلمیّة فی أوربا قد استندت إلى نهضة المسلمین العلمیّة وأنّ الأوربیین مدینون فی نهضتهم لعلماء الإسلام!

ففی کتاب «تاریخ الحضارة الغربیة ومبانیها فی الشّرق» والذی کتب من قبل مجموعة من علماء الغرب، جاء: «عندما نطالع خدمات البیزنطینیّة(11) والمسلمین للثّقافة الغربیّة یمکننا القول بأنّ نوراً عظیماً أشرق من الشرق على الغرب»!

یقول الدکتور ماکس یرهوف فی کتاب «میراث الإسلام»: «لقد کانت علوم العرب (المسلمین) کالقمر المنیر الذی یضیء ظلمات لیالی أوربا القرون الوسطى، ولما ظهرت العلوم الجدیدة خفت نور ذلک القمر، ولکن کان ذلک القمر هو الذی هدانا فی تلک اللیالی الظلماء حتى وصلنا إلى هذا المستوى، ویمکننا القول بأنّ نور ذلک القمر لا زال معنا»(12).

ونقرأ فی ذلک الکتاب أیضاً: «.... والخلاصة، وبهذه الوسیلة (ترجمة کتب علماء الإسلام) هطلت علوم الشّرق کمطر الرّحمة على أرض أوربا القاحلة، فحولتها إلى أرض خصبة مثمرة، وشیئاً فشیئاً تعرّف الأوربیون على علوم الشرق!».

ویقول هذا الکاتب فی مذکرات تحت عنوان «العلوم الطبیعیّة والطّب»: «إنّ ما اکتشف فی السنین الأخیرة کان نوراً جدیداً على تاریخ علوم العالم الإسلامی القدیم، ولا شکَّ فی أنّ هذه الإکتشافات لیست کافیة لحد الآن، وأنّ العالم سیقف أکثر فأکثر على أهمیّة العلوم الإسلامیة فی المستقبل»(13).

وفی مقالة اُخرى عن البروفسور «کیب» أستاذ اللغة العربیة فی جامعة لندن، تحت عنوان «نفوذ الأدب الإسلامی فی أوربا» یقول:

«عندما نلقی نظرة على الماضی نلاحظ بأنّ علوم وأدب الشرق کان بمنزلة المادة الأولیة للحضارة العربیة بنحو أضاءت معنویات وأفکار الشرق، الروح الکدرة لأهل القرون السّالفة الغربیین، وهَدَتْهُم إلى عالم أوسع»(14).

وکتب «جرجی زیدان» المؤرخ المسیحی المعروف فی کتابه «تاریخ الحضارة الإسلامیّة» فی مبحث تأثیر الإسلام فی العلوم والمعارف التی وردت دائرة الإسلام من الخارج، قائلا: «عندما وصلت الحضارة الإسلامیّة إلى مرحلة الکمال، وانتشرت العلوم الأجنبیة فی بلاد المسلمین، بدأ المسلمون بتعلُّمِ تلک العلوم، فاستفاد بعض (علماء الإسلام) من نبوغهم وسبقوا أهل تلک العلوم الأصلیین، وأضافوا إلیها آراء واکتشافات جدیدة، وبهذا تنوعت العلوم وتکاملت وانسجمت مع الثّقافة والآداب الإسلامیّة، واتخذت شکل الحضارة الإسلامیّة.

وعندما نهض الغربیون لاستعادة علوم الیونان، أخذوا أکثر هذه العلوم بنفس ذلک اللون الإسلامی من اللغة العربیة!»(15).

ویقول فی موضوع آخر: «وممّا قلناه حول دور التّعلیم فی الحضارة الإسلامیّة، یمکن الجزم بأنّ العلم والمعرفة نشأتا فی جهات مختلفة عند المسلمین، وأنّ العلماء والفقهاء والأطباء والفلاسفة قد أبدَوا نبوغهم وإبداعهم فی هذا المجال»(1).

وخلاصة الکلام، إنّ الکتب التّاریخیة العالمیّة العامّة، أو تلک الخاصّة بتاریخ الحضارة الإسلامیة، قد ذکرت بوضوح اعترافات مؤرخی الشرق والغرب بتأثیر النهضة العلمیّة عند المسلمین على تأریخ وعلم وثقافة المجتمع البشری على المدى البعید أو القصیر، وتفصیل الکلام فی ذلک یحتاج إلى کتاب مستقل، وما ذکر إنّما هو جانب مختصر من ذلک.

1. بحار الأنوار، ج1، ص180; وکنز العمال، ح 28697.
2. بحار الأنوار، ج75، ص34.
3. بحار الأنوار، ج2، ص199، ح 58.
4. بحار الأنوار، ج1، ص220، ح 52.
5. بحار الأنوار، ج75، ص45، ح 52.
6. المصدر السابق، ج1، ص218.
7. بما أنّ استخراج المعادن ذکر فی الفقرات اللاحقة، فلا یبعد أن المقصود من استخراج الأرضین هو تحضیر الأراضی الموات لزراعتها.
8. بحار الأنوار، ج3، ص83 .
9. وسائل الشّیعة، ج15، ص199، باب 88، ح 7.
10. بحار الأنوار، ج47، ص146.
11. «البیزنطینیّة»، إمبراطوریة روما الشّرقیة وعاصمتها البیزنطینیّة وهی الآن تشمل قسماً من ترکیة، وتعتبر إسطانبول الفعلیة محلا لعاصمتها البیزنطینیّة.
12. میراث الإسلام، ص134.
13. میراث الإسلام، ص111.
14. المصدر السابق، ص181.
15. تاریخ الحضارة، جرجی زیدان، ج3، ص196.