إنّ هذه القضیة فی عصرنا الحاضر أوضح من أن تبحث أو تُناقش، کما أنّها لم تخفَ على الناس فی العهود الغابرة.

إنّ الجـبابرة الذین أرادوا فرض إرادتهم وحاکمیتهم على الناس، توسلوا بوسائل إعلامیة مختلفة لغسل أدمغة الناس، بدءً بالمکاتیب القدیمة وانتهاءً بالمحاریب والمنابر، وأخذاً برواة القصص والأساطیـر فی المـقاهی، وانتـهاءً بالکتب العلمیة.

والخلاصة : إنّهم استعانوا بـجمیع الـوسائل المضلِّلة للوصول إلى مآربـهم، من تحریف
التاریخ، وأشعار الشعراء، وثناء المداحین، ومراکز التقدیس والاحترام عند الناس، واختلاق الأساطیر والکرامات والقیم غیر الواقعیة، وغیرها من الوسائل، فانّهم یستطیعون بوسائل الاعلام هذه أن یصوروا الشیطان ملکاً أو إنساناً محترماً، وذلک کله من أجل الوصول إلى مآربهم.

وقد جاء فی بعض التواریخ الإسلامیة المعروفة أن طاعة أهل الشام لمعاویة بلغت درجة عجیبة، وننقل هنا عبارة المسعودی فی هذا المجال:

«لقد بلغ من أمرهم فی إطاعتـهم له أنّه صلى بهم عند مسیرهم إلى صفین الجمعة فی یوم الأربعاء»(1).

والقصة التالیة قصة معـروفة (وَلَوْ لَـمْ تکن مرویّةً فـی کتب التاریخ لکان قبولها صعباً)، حیث إنّ رجلا من أهل الکوفة قدم دمشق راکباً جملا فی وقت کان أهل الشام یرجعون من صفین، فرآه رجل دمشقی فقال له: إنّ هذه الناقة لی وأنت أخذتها منی فی صفین، فتنازعا فاشتکى الشامی عند معاویة (وکأنّها اتخذت صبغة سیاسیة) وجاء بخمسین شاهداً على أنّ هذه الناقة له، فقضى له معاویة على أساس الشهود.

فصرخ الکوفی قائلا لمعاویة: إنّ هذا جمل ولیس ناقة (انثى الجمل)، وطلب منه أن یلاحظها بنفسه، فأدرک معاویة صدق الکوفی فیما یقوله، لکن رغم ذلک قال له: إنّ الحکم صدر وانقضى، وبعد ما تفرّق الناس أرسل معاویة رجلا إلى الکوفی، فأتاه وأعطاه ضعف قیمة جمله، وقال له: «أبلغ علیاً أنّی اُقابله بِمِائةِ ألف ما فیهم من یُفرق بین الناقة والجمل»(2).

وخلاصة القول: إنّ فی التاریخ شواهد ونماذج کثیرة تکشف عن کیفیة إغواء الطغاة والساسة لأُمم عظیمة وغسل أدمغتهم بحیث ضلوا حَیارى فی متاهات الدروب، وابتلوا بمصائب کثیرة، وعند استتباب الأوضاع ورجوعها إلى حالتها الطبیعیة، وعند سقوط الجبار المضل، وارتفاع حجب الاعلام، یستیقظ بعض الناس وینتبهون لماضیهم فیتأسفون ویندمون کثیراً.

وفی العصر الحاضر اکتسب الاعلام قدرة عظیمة بدرجة انَّ فی بعض الدول المتقدمة ـ اصطلاحاً ـ تأخذ وسائل الاعلام بأیدِ الشخصیات العلمیة والمفکرین الواعین نسبیاًصنادیق الاقتراع لیصوتوا للشخصیات التی تدعو إلیها وسائل الاعلام تلک، وقد یتصور أنّهم احرار على الاطلاق، بینما لا خیار لهم من جراء وسائل الاعلام تلک.

إنّ اتساع وسائل الاعلام المسموعة والمرئیة واستعانتها بفنون علم النفس یزید فی تأثیر الاعلام على النفوس بدرجة یَحارُ فیها الخارجون عن دائرة الاعلام والمتمکّنون من متابعة الاُمور من دون رأی مسبق فیها.

إنّ هذا الأمر لم ینحصر فی الاُمور السیاسیة فحسب، بل فی الاُمور الاقتصادیة کذلک، فإنّ وسائل الاعلام یمکنها بحملة إعلامیة أن تسوق المجتمع نحو استهلاک سلعة قد تکون اعتباطیة أو مضرة أحیاناً، وبهذا یُفرض على المجتمع اقتصادٌ سقیم.

إنّ الاستعانة بعناوین وقیم کاذبة مثل الاستعانة بعنوان «مودیل» أحد أوسع وأعقد الطرق للوصول إلى هذه الأهداف غیر المشروعة.

کما أنّه یستعان بالاعلام الثقافی الغامض لفرض المذاهب الفکریة المختلفة على الشعوب، فتارة یُفرض مذهب باطل وعار عن الاُسس المنطقیة، وکأنه مذهب فلسفی منطقی إنسانی.

وعلى أیّة حال، فمما لا شک فیه أنّه ینبغی رفع هذه الحجب عن المجتمع وتصحیح اتّجاه المعرفة فیه، کما ینبغی عدم ترک وسائل الاعلام أن تفکر وتقرر بدلا عن المجتمع، بل یحدد عملها فی توعیة الناس، وتهیئة الأرضیة لهم لاتخاذ القرارات الصحیحة.

ینبغی أن لا یکون هدف وسائل الأعلام الجماعیة هو وضع الحجب على عقول الناس والتعتیم علیهم، بل ینبغی أن یکون الهدف هو رفع حجب التعصب والجهل والغفلة والتقلید العشوائی عن العقول، وهذا هو البرنامج الراقی لوسائل الاعلام فی مجتمع رشید ونموذجی، والمؤسف فی عصرنا الحاضر هو قلة مثل هذه المجتمعات.

إنّ النقص فی وسائل الاعلام هو أنّها بید الساسة، والأسوء من ذلک أنّها بید العمالقة الاقتصادیین الذین یوجهون الناس أین ما شاءوا.

1. مروج الذهب، ج 2، ص 72.
2. مروج الذهب، ج 2، ص 72; الإمام علی صوت العدالة الإنسانیة، ج 4، ص 956.