(الانحرافات والرین والأمراض والأکنة والأقفال)

SiteTitle

صفحه کاربران ویژه - خروج
ورود کاربران ورود کاربران

LoginToSite

SecurityWord:

Username:

Password:

LoginComment LoginComment2 LoginComment3 .
SortBy
 
نفحات القرآن ( الجزء الأول)
شرح المفرداتالنتیجة الأخیرة

کما قلنا سابقاً: إنّ أهمیّة بحث «موانع المعرفة» تستدعی عرض الموضوع فی مرحلتین:

المرحلة الاُولى: ونبحث فیها ـ إجمالا ـ عن وجود الموانع والحجب وکیفیة تأثیرها على العقل، وکیفیة تلوث مصادر المعرفة بها تدریجیاً، إلى درجة تنتهی إلى تعطیلها.

المرحلة الثانیة: ونبحث فیها عن جزئیات وخصائص کل من هذه الموانع والآفات، وللقرآن بحث واسع تربوی وجذّاب فی هذا المجال.

ولنبدأ أولا من المرحلة الاُولى، فممّا تجدر الإشارة إلیه، هو أنّ القرآن تحدث عن موانع المعرفة والآفات ونفوذها التدریجی والغامض، بشکل عرّف سالکی طریق العلم، والمعرفة بها تعریفاً کاملا، وأنذرهم کراراً بأن لا یفنوا عمرهم فی السعی نحو السراب ظناً منهم أنّه ماء، وبعد سنوات من السعی الحثیث من أجل الوصول إلى الحقیقة ینتهون إلى الباطل.

والآن نبحث معاً الآیات المذکورة:

الحدیث فی الآیة الاُولى والثانیة یدور حول تزیین الأعمال، فتارة یزینها الشیطان للإنسان (کما جاء ذلک فی الآیة الثانیة) وتارة تکون ذهنیات الإنسان ونفسه أو عوامل اُخرى هی التی تزین للإنسان سوء أعماله (کما جاء ذلک فی الآیة الاولى، حیث إنّ الفعل فیها مبنی للمجهول) فقالت: (اَفَمَنْ زُیِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فإِنَّ اللهَ یُضلُّ مَنْ یَشاءُ وَیَهْدِى مَنْ یَشَاءُ) فإنّ الأول یتجه نحو الهاویة والثانی نحو الصراط المستقیم، وإذا ما صدر منه عملٌ سیءٌ أسرع إلى التوبة وجبران ما عمل.

وتضیف الآیة الثانیة: إنّ قلب الإنسان یقسو فی المرحلة الاُولى، ثم یتأهل لتقبل وسوسة الشیطان فتتمثل الأعمال السیئة حسنةً أمامه، ومن هنا نرى بعض الناس غیر نادمین على أعمالهم السیئة، بل قد یفرحون ویتباهون بها، ویصرون على منطقیتها وصحتها.

وقد حصل هذا الأمر لأخوة یوسف، فعندما ألقوه فی البئر وجاءوا أباهم بقمیصه ملطخاً بدم کاذب ادعوا أکل الذئب له، وأنّهم صادقون فی کلامهم.

فأجابهم أبوهم: (بَلْ سَوَّلَتْ لَکُمْ أَنْفُسُکُمْ أَمْراً). (یوسف / 18)

أی ظننتم أنّکم أحسنتم عملا بهذه الجـریمة ، وانکـم ستحلون مـحل یوسف فی قلبی، وأنّ یوسف انتهى أمره إلى الأبد، غافلین عن أنکم توطئون بعملکم هذا مقدمات عزه وسلطانه، وأنّ مکانه سیبقى فارغاً فی قلبی حتى أرى الفقید مرة اُخرى.

وممّا یستحق الإشارة إلیه هو أنّ القرآن ینسب تزیین الأعمال تارة للشیطان وتارة لنفس الإنسان، وتارة یأتی التزیین فی صیغة فعل مبنی للمجهول وتارة ینسبه إلى الله تـعالى کما جـاء ذلک فی الآیة: ( اِنَّ الَّذِینَ لاَ یُـؤْمِنُونَ بـِالاْخِرَةِ زَیَّنـَّا لَهُمْ اَعمـَالَهُمْ).(النمل / 4)

هذه ترجع إلى أنّ مـقدمات هذا الأمر تبدأ من نفس الإنسان، فیتمسک بها الشیطان ویفعل فعلته ، وبما أنّ الله مسبب الأسباب وخالق العلل والمعلولات فتنسب إلیه نتیجة الأعمال، وتقتضی حکمته بأن یبتلی البعض بمصیر کهذا وما أسوء حال الذی تتمثل السیئات أمامه حسنات!

وقد تحدثت الآیة الثالثة عن المراحل الاُولى لانحراف القلب، وبعد تقسیمها للآیات إلى محکمات (وهی ذات المفاهیم الواضحة) ومتشابهات (وهی ذات المعانی المعقدة) قالت: (فَأَمَّا الَّذِینَ فِى قُلُوبِهِمْ زَیْغٌ فَیَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنةِ وَابْتِغَاءَ تَأْویلِهِ وَمَا یَعْلَمُ تَأْوِیلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ یَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ کُلٌّ مِّنْ عِنْدِ رَبِّنَا)، فالراسخون فی العلم یفسرون المتشابهات بالمحکمات، واما الذین فی قلوبهم زیغ فیأخذون بالمتشابهات ویفسرونها برأیهم ابتغاء الفتنة.

إنّهم یتمسکون بما تشابه من القرآن لتبریر نوایاهم غیر الخالصة، ولهذا نرى کثیراً من المنافقین وأصحاب البدع وأتباع المذاهب المنحرفة یستغلون صفاء قلوب المخلصین والمؤمنین بآیات الله بالکامل ، ویبررون بدعهم بالاستعانة بـ « التفسیر بالرأی » والاستعانة بالآیات المتشابهة، وبتعبیر آخر: بما أنّ قلوبهم وأفکارهم منحرفة فیرون آیات الله منحرفة أیضاً، کالمرآة المعوجة تنعکس فیها الصور معوجة.

والآیة الرابعة تشیر إلى الصدأ والرین الذی یعلوا القلوب ، إنّه الغبار الذی یـعلو القلوب بسبب الذنوب والمعاصی ، فیتراکم الغبار علیها حتى تتحجر ، ویغطی الصدأ القلب کله، حیث قالت الآیة: (کَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا کَانُوا یَکْسِبُون)فلا عجب فی عدم تمکّنهم من رؤیة الحقیقة.

وتحدثت الآیة الخامسة عن تفاقم الحالة السابقة بحیث تتبدل إلى مرض روحی، فبعد إشارتها إلى الالقاءات والوساوس الشیطانیة حتى للأنبیاء والمرسلین قالت: (لِّیَجْعَلَ مَا یُلْقِى الشَّیْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِینَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ).

نعم، إنّ هذه القلوب التی لا تستلذ بطعم الحقیقة، بسبب مرضها، وحلاوة الحقیقة عندها کالمرارة، على استعداد لقبول وسوسة الشیاطین.

وممّا یلفت النظر هنا أن جملة (فِى قُلُوبِهِم مَرَضٌ)، تکررت اثنا عشر مرّة فی القرآن، ممّا یکشف الأهمیّة التی أولاها الله لهذه المسألة، مع الالتفات إلى أنّ أغلب هذه الآیات عنت المنافقین وصُرّح بذلک فی عدد منه(1).

إلاّ أنّ المرض جاء فی بعض من هذه الآیات بمعنى «الشهوات والمیول والهوى»، کما هو الحال فی الآیة : (فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَولِ فَیَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ).(الاحزاب 32)

وعلى أیّة حال ، فإنّ المستفاد من الآیـات هو أنّ الإنسان کما یصاب جسمه بامراض، کذلک روحه فانّها قد تصاب بامراض سببها «النفاق» تارة و«الأهواء والمیول» تارة اُخرى، وتغیّر عند عروضها ـ ذائقة روح الإنسان بالکامل، کما نرى ذلک فی أمراض الجسم فقد تُغیر مزاجه بشکل تجعله یستلذ بالأغذیة الشاذة والکریهة ولا یستلذ بالأکلات اللذیذة والمفیدة، فإنّ إنساناً کهذا غیر قادر على إدراک الحقائق ووعی الاُمور وفهمها.

ومن الـمؤسف أنّهم کلما استمروا فی طریقهم کلـما تفاقـم عندهم المرض، فإذا کانوا فی مرحلة الشک، فسیتفاقم عندهم ویشتد ویصل تدریجیاً إلى مرحلة الانکار ومن الانکار إلى مرحلة أخطر وهی الاستهزاء ومخالفة الحق، یقول القرآن فی هذا المجال: (فِى قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِیمٌ بِمَا کَانُوا یَکْذِبُونَ).(البقرة / 10)

تحدثت الآیة السادسة عن جعل الأکنة والحجب على القلوب، ولیس حجاباً واحداً بل حُجب وأکنة وذلک للحیلولة دون فهمهم القرآن، حیث جاء فیها: (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِم أَکِنَّةً أَنْ یَفْقَهُوهُ وَفِى آذَانِهِم وَقْرَاً).

ذکر بعض المفسرین أنّ التعبیر بالأکنة یدلّ على تعدد الکِنان(2)، وممّا لا شک فیه أنّه لم یجعل وقر فی آذانهم الظاهریة بل الروحیة کی لا یسمعون من الحق شیئاً، کما لم تجعل الأکنة على القلوب التی هی وسیلة لضخّ الدم فی الأوعیة، بل جعلت الأکنة على أرواحهم وعقولهم.

وقد وقع کثیر من المفسرین ـ عند الإجابة عن هذه المسألة ـ فی إشکال، فتارة قالوا: إنّها معجزة حیث کان الرسول(صلى الله علیه وآله) یختفی عن انظار اعدائه المعاندین، فلا یکادون یسمعون شیئاً من کلامه، وذلک کی لا یؤذوه(صلى الله علیه وآله)، وتارة قالوا، إنّ الله یمنع لطفه عن أشخاص کهؤلاء فیترکهم لحالهم، وهذا هو معنى جعل الأکنة على القلوب والوقر فی الآذان.

إلاّ أنّ ظاهر هذه الآیة ( التی تماثل آیات اُخرى من القرآن ) شیء آخر ، وفی الحقیقة أنّ هذه استعمالات مجازیة فی حق المعاندین والمتعصبین والمغرورین والغارقین فی الإثم، وبتعبیر آخر: أنّ حرمانهم من إدراک الحقیقة بسبب صفاتهم الرذیلة وأفعالهم القبیحة ، فقد جـعل الله هذه المیزة فی هذه الأعـمال ، فهی کخاصیة القتل بالنسبة للسم، فلا یُلام صانع السم وشاعل النار إذا تناول شخص ما سماً أو ألقى نفسه فی النار فمات ، فانّه فی مورد کـهذا ینبغی لوم الذی القى نفسه فی النار والذی تجرع السم فقط.

وقد نقلت الآیة السابعة ما کان یقوله الیهود للرسول(صلى الله علیه وآله) أو الأنبیاء الآخرین، حیث کانوا یقولون: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَّعَنَهُمُ اللهُ بِکُفْرِهِمْ فَقَلِیلا مَا یُؤْمِنُون)، نعم لعنهم الله بکفرهم، وأبعدهم عن رحمته، وأنّ أشخاصاً کالیهود کیف یمکنهم أن یذوقوا حلاوة الحقیقة.

قد یکون التعبیر بـ «الغلاف» یختلف عن التعبیر بـ «الأکنة»، وذلک لأنّ الغلاف یستر المغلَّف ویغطیه من جمیع الجهات، بینما یغطی الستار جهة واحدة من المستور، وبتعبیر آخر: تارة تصیب الموانع مصدراً واحداً من مصادر المعرفة کالفطرة لوحدها أو العقل لوحده، وتارة اُخرى تعطل جمیع المصادر وتجعلها فی غلاف یحول دون المعرفة.

نعم، کلما تلوّث الإنسان بالذنوب والفساد أکثر ابتعد قلبه وروحه من المعرفة وحُرِم منها اکثر.

وتحدثت الآیة الثامنة والتاسعة عن الطبع على القلوب الذی یحول دون المعرفة، وقد اعتبرت الآیة الثامنة الطبع سبباً لعدم السمع (فَهُمْ لاَ یَسْمَعُونَ)، واعتبرت الآیة التاسعة الطبع سبباً لعدم الفقه والفهم (فَهُمْ لاَ یَفْقَهُونَ)، والمراد فی الموردین واحد، فکما قلنا: إنّ المراد من عدم السمع هو عدم الإدراک والوعی والفهم.

وهذه المرحلة أشدّ من المراحل السابقة، فالمرحلة الاُولى هی جعل الأکنة على القلوب، ثم الغلاف علیها، وفی النهایة یطبع علیها للحیلولة دون نفوذ أی شیء فیها، کما ذکرنا ذلک فی بحث شرح المفردات.

طبعاً: إنّ ابتلاءهم بهذا المصیر لیس اعتباطیاً، بل لأسباب أشارت إلیها الآیة السابقة حیث قالت: (وَ اِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنوُا بِاللهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأذَنَکَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنَا نَکُنْ مَّعَ الْقَاعِدِینَ * رَضُوا بِأَنْ یَکُونُوا مَعَ الخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِم فَهُمْ لاَ یَفْقَهُونَ).(التّوبه / 86 ـ 87)

إذن إعراضهم عن الجهاد وتـخلفهم عـنه هـو السبب فی الـطبع على القلوب.

وآیة اُخرى أشارت إلى سبب آخر من أسباب الطبع، حیث قالت: (أَوَلَمْ یَهْدِ لِلَّذِینَ یَرِثُونَ الاَْرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَّو نَشَاءُ أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِم). (الاعراف/ 100)

أی أنّهم یذنبون رغم رؤیتهم وعلمهم بأحوال السابقین وابتلائهم بالعذاب الإلهی من جراء ذنوبهم، فطبع على قلوبهم.

وممّا یذکر هنا أنّ الطبع جاء فی الآیة الثامنة بصیغة المضارع «نطبع» وفی التاسعة بصیغة الماضی «طبع» وهذا تلمیح إلى أنَّ الطبع نتیجة سوء أعمالهم وتصرفاتهم.

یقول بعض المفسرین : إنّ المراد من « الطبع » فی مثل هذه الآیات هو نفس السبک والنقش الذی یستخدم للدراهم والمسکوکات، وهو نقش ثابت وباق، لا یتغیر بسهولة(3)، فانَّ نَقْشَ الکفر والنفاق والإثم نُقِشَ على قلوبهم فلا یمحى بسهولة.

وتحدثت الآیة العاشرة والحادیة عشرة عن «الختم» وکما قلنا سابقاً فی شرح المفردات: إنّ الختم یعنی الانتهاء والفراغ من شیء، وبما أنّ الرسائل تختم عند الفراغ منها استعملت هذه المفردة هناک أیضاً، وختم الشیء قفله وشده بحیث لا یمکن لأحد فتحه، والمراد من الختم على القلوب والأسماع والابصار فی الآیات، هو سلب قدرتها عن التمییز بین الحق والباطل، والخیر والشر وذلک بسبب أعمال أصحابها وتصرفاتهم، ولهذا یذکر القرآن فی الآیة السابقة: (اِنَّ الَّذِینَ کَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَیْهِمْ ءَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ یُؤْمِنُونَ). (البقرة / 6)

المسلم به هو أنّ هذا الخطاب لا یعم الکافرین کلهم بل یخص المتعصبین والمعاندین منهم، أی أولئک الذین غرقوا بذنوبهم إلى درجة حیث أصبحت قلوبهم ظلماء، وإلاّ فالنبی أُرسل مبشراً ومنذراً للکافرین والمنحرفین.

والـجدیر ذکره هنا هو أنّ الآیات تحدثت عـن الختم على الأبصار والسمع کما تحدثت
عن الختم على القلوب، وهذا تلمیح منها إلى أن السمع والبصر قد یتعطلان، أی قد یتعطل الإدراک الحسی کما یتعطل العقلی، وکما تعلم أنّ أغلب العلوم البشریة تحصل بواسطة هذین الإدراکین، وحتى حقانیة الوحی ودعوة الأنبیاء تکتشف بهما، ومع تعطلهما فإنّ طرق الهدایة والنجاة ستغلق أمامهم، وهذا من سوء أعمالهم وهذا ما أرادوه لأنفسهم، ولا یستلزم جبراً کما یدعیه بعض الظانین.

وقد جاء هذا التعبیر فی مجال الطبع کذلک، حیث یقول تعالى فی الآیة: (اُولَئِکَ الَّذِینَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ). (النحل / 108)

والآیة التی سبقت الأخیرة أشارت إلى أن هذا الأمر لیس عاماً وشاملا لجمیع الکفار، بل یختص بمن شرِح صدره للکفر، حیث یقول تعالى: (وَلَکِن مَّنْ شَرَحَ بِالْکُفْرِ صَدْراً).(النحل / 106)

وقد تحدثت الآیة الثانیة عشرة عن أقفال القلوب التی قد تکون أشد من الختم(4)، حیث قالت: (أَفَلاَ یَتَدَبَّرُونَ الْقُرآنَ أَمْ عَلَى قُلُوب أَقْفَالُهَا) أی أن آیات القرآن تنفذ فی القلوب ولو من نوافذ صغیرة، وذلک لأنّ منطق القرآن هو البیان البدیع، والبلاغة فی التعبیر، والعمق والدقة فی التحلیل، وهو نور وضیاء خاص ینفذ فی قلب کل مؤهل ولو بأقلٍّ تأهیل، ویستحوذ على القلوب ویهز الضمائر، رغم هذا فانه لا ینفذ فی قلوب هؤلاء ولا یهز ضمائرهم أبداً، وذلک لانغلاق قلوبهم.

إنّ «أقفال» جمع «قفل» ومن مادة «قُفول» ویعنی الرجوع، وبما أن کلَّ من أتى باباً مقفولة رجع، استعملت هذه المفردة فی هذا المجال.

إنَّ التعبیر بـ «الأقفال» قد یکون إشارة إلى تعدد أقفال القلب بحیث إذا ما فتح قفل بقیت اقفال اُخرى، وهذه فی الحقیقة أسوأ مرحلة وأشدها من مراحل حرمان إدراک الحقائق.

ویلاحظ هنا عدم اضافة «قلوب» إلى الأقفال بل جاءت بصیغة النکرة، وکأن هذا إشارة إلى أن هذه القلوب لیست لهم، والأعجب من هذا هو إضافة «الأقفال» إلى «القلوب» وکأنّ قلوبهم أهل للأقفال فقط لا لشیء آخر.

وفی الآیة الثالثة عشرة تعبیر یهز الضمائر حیث یقول تعالى: (اِنَّهَا لاَ تَعَمَى الاَْبْصَارُ وَلَکِنْ تَعَمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ). (الحج / 46)

أی أنّ الحاسة الباصرة إذا فقدت فهذا لیس بعمى، لإمکان أن یسد العقل الیقظ فراغها، وإنّما الشقاء والبؤس والتعاسة فی القلوب إذا عمیت، فعمى القلوب أکبر حاجب عن إدراک الحقیقة، والإنسان بنفسه یُعمی قلبه، ولقد أثبتت التجربة أنّ الإنسان إذا ما جعل عصابة على عینیه أو مکث فی ظلام لمدّة طویلة، فإنّه سیفقد باصرته تدریجیاً، کذلک الأمر بالنسبة للذین یغمضون عیون قلوبهم عن الحقائق، أو یمکثون مدّة طویلة فی ظلمات الجهل والغرور والإثم فإنّ قلوبهم ستعمى، وتکون غیر قادرة على إدراک أی حقیقة.

یُشکِکُ البعض أنّه لا یمکن أن یراد من القلب (الذی فی الصدر ویضخ الدم إلى جمیع أعضاء البدن) بل المراد العقل والروح.

إلاّ أنّه بملاحظة استعمال « الـصدر » بمعنى الـذات والفطرة یتضح لـنا أنّ المراد من (القلُوبُ الِّتِى فِى الصُّدُورِ) هو الإدراک العقلی المودع فی طبیعة الإنسان.

إضافة إلى هذا، فإنّ القلب أول عضو فی بدن الإنسان یتأثر بعواطف وأحاسیس وإدراکات الإنسان، نلاحظ أنّ اتخاذ قرار مهم ، أو حصول حالة غضب شدیدة ، أو الاحساس بالحب القوی تجاه شخص ما یُزید من دقات القلب ، فإذا استعمل القلب الظاهری کنایة عن العقل ، فلأجل العلاقة الوثیقة التی بینه وبین الروح(5).

وقد تحدثت الآیة الرابعة عشرة والأخیرة عن آخر مرحلة لحرمان الإنسان من المعرفة، والتی یتعطّل فیها العقل والفطرة والعین والاذن عن العمل بالکامل، فیهوی الإنسان إلى مستوى الأنعام بل أضلّ.

والآیة تلمیح إلى فریق من أهل النار وکأنهم خلقوا لأجلها لا لشیء آخر: (لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ یَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْیُنٌ لاَّ یُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ یَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِکَ کَالاَْنْعَامِ بَلْ هُمْ اَضَلُّ اُولَئِکَ هُمُ الْغَافِلُونَ)

وعلیه، فانهم فقدوا «هویتهم الإنسانیة»، وأغلقوا أبواب الرجوع على أنفسهم، فهووا من قمم السعادة السماویة المعدة لهم إلى شقاء جهنم التی أُعدت لأولئک الذین غلقوا جمیع أبواب المعرفة على أنفسهم، وهو مصیر صنعتهُ نفوسهم وذنوبهم وعصیانهم.


1. الأنفال، 49، والأحزاب، 12 و 32.
2. تفسیر روح المعانی، ج 15، ص 82.
3. تفسیر المنار، ج 9، ص 33.
4. وقد أشار الفخر الرازی فی تفسیره الکبیر إلى هذا الأمر.
5. للمزید من العلم راجع التفسیر الأمثل ذیل الآیة 7 من سورة البقرة.

 

شرح المفرداتالنتیجة الأخیرة
12
13
14
15
16
17
18
19
20
Lotus
Mitra
Nazanin
Titr
Tahoma