لِمَ کان التاریخ معلماً؟ الإجابة عن هذا السؤال لیست صعبة، وذلک لإمکانیة تشبیه التاریخ بالمختبر الکبیر الذی تخضع فیه قضایا حیاة الإنسان المختلفة للتحلیل.
وعلى هذا الأساس، فکما أنّ العلوم التحلیلیة حلت الکثیر من مسائلها وقدّمت الکثیر من البراهین الحیة لإثبات الواقعیات بالاختبار، کذلک التاریخ ذلک المختبر العظیم حیث تختبر فیه الکثیر من القضایا والمسائل، حیث یمیز فیه الذهب الخالص من الذهب غیر الواقعى، وبه تزول الأوهام عن الأذهان.
إذا حللت ظواهر الأجسام أو ترکیباتها فی مختبرات الکیمیاء والفیزیاء، فانّک فی مختبر التاریخ تحلل أسرار انتصار وفشل الأقوام السالفة، وسبب سیادة وتطور أو انحطاط الحضارات، وردود الفعل وصفات ومعنویات الأقوام والأشخاص، واُسلوب عملهم بجاذبیة وجمال فائق.
وبذلک یکون التاریخ وسیلة مناسبة لدراسة عوامل السعادة وشقاء البشر.
وإذا شاهدنا فی القرآن الکریم تأکیداً على تاریخ الاُمم السالفة، وشاهدنا فیه من السور الدالّة على المباحث التاریخیة حتى أنّ بعض السور تدور معظم آیاتها أو کلّها حول تاریخ الأقوام السالفة فذلک کله ناشیء من هذه الملاحظة التی أشرنا الیها.
وقد ینکر المعاندون بعض المسائل النظریة، إلاّ أنّه لا یمکنهم انکار واقعیات التاریخ القطعیة، وبالخصوص الحوادث التی أشار الیها القرآن حیث نراه یأخذ بأیدی الناس إلى ما خلّفته الأقوام الغابرة، ویروی قصصهم على قبورهم وقمم مدنهم الخربة.
إنّ التاریخ ـ فی الحقیقة ـ فرع من المسائل التجریبیة، وبتعبیر آخر یمکن ادغامه فی مصدر «الحس والتجربة» إلاّ أنّه یختلف عن الحس والتجربة اختلافاً طفیفاً فالحس والتجربة یتعلقان بالحاضر لکن التاریخ یتعلق بالماضی، وأنّ الحس والتجربة قد یتعلقان بذات الفرد فقط بینما التاریخ یتعلق بجمیع ذوات البشر.
ولکن الأهمیّة الفائقة لهذا الفرع من التجربة تفرض علینا دراسته کمصدر مستقل للمعرفة.
