إنّ تقـلید الآخـرین، سواء کان تقـلیداً لحـی أو میت، أو تقلیداً لشخص أو فریق لا یخرج عن صور أربع:
1 ـ تقلید الجاهل للعالم: أی تقلید الجاهل بشیء لمن له تخصص أو خبرة بفن أو علم، مثل مراجعة المریض للطبیب الخبیر بعلم الطب.
2 ـ تقلید العالم للعالم: أی مراجعة أهل العلم أحدهم للآخر واتباع کلٌّ منهم للآخر.
3 ـ تقلید العالم للجاهل: أی یترک الإنسان علمه وخبرته، ویتبع الجاهل ویقلده عشوائیاً.
4 ـ تقلید الجاهل للجاهل: بأن یتخـذ قـوم جُهّال عادات وتقالید ومعتقدات لیست قائمة على دلیل أو مستندة إلى شیء، ویقوم قوم آخرون باتباع أولئک القوم وتقـلیدهم فیهـا، وهـذا هو أکبر عامل لانتقال المعتقدات الفاسدة والتقالید الخاطئة من قوم إلى آخر، وهذا النوع من التقلید استهدفته أکثر الآیات التی ذمّت التقلید.
واضح أن القسم الأول مـن التقلید هـو القسـم المنطقـی الوحیـد، وقد اعتمدت حیاة الناس على ذوی الاختصاصات وعلى هذا النوع من التقلید المنطقی، لأنّ الإنسان حتى لو کان نابغة زمانه لا یمکنه التخصص فی جمیع الاختصاصات والفروع العلمیة، خصوصاً، وأنّ العلم ـ فی هذا العصر ـ أصبحت له فروع وتشعبات لا تُعد ولا تُحصى، ومن المحال أن یتخصص إنسان فی فروع علم أو فن واحد، فضلا عن جمیع العلوم والفنون.
وعلى هذا، فکل إنسان یمکنه أن یکون مجتهداً فـی فرع من فـروع العـلوم، أمّا فی الفروع الاُخرى التی لم یجتهد فیها، فلا طریق له إلاّ الرجوع إلى المتخصصین فیها.
إنّ المعمار یراجع الطبیب إذ مـرض، والطبیب یـراجع المعمار إذ أراد بناء عمارة، أی أنّ کل منهم «مجتهد» فی تخصصه و«مقلِّد» فی التخصص الآخر، وهذ (رجوع الجاهل إلى العالم وغیر المجتهد إلى المجتهد وغیر المتخصص إلى المتخصص) أصل عقلائی کان ول یزال متعارف ودارج بین الناس، بل إنّ عجلة الحیاة تسیر على هذ النوع من التقلید، بالطبع أنّ هناک شروط ینبغی توفره فی المجتهد الذی یُرجع إلیه، سنتعرض له بعد ذلک.
وهذا التقلید هو الذی أشار إلیه البارى تعالى فی القرآن الکریم وعنونه بـ (أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ). (الأحزاب / 21)
کما جاء فی الآیة: (أُولئِکَ الَّـذِینَ هَدَى اللهُ فَبِهُـدَاهُمُ اقْتَدِةْ).(الانعام / 90)
ورغم أنّ الخطاب موجه للرسـول الأعظم (صلى الله علیه وآله)، لـکن لا یبعـد أن یکون المخاطب به الاُمة بأجمعها.
أمّا الأقسام الثلاثة الباقیة من التقلید فکلّها باطلة ولا أساس مـنطقی لهـا، فتقلید (العالم للجاهل) و(الجاهل للجاهل) حالهما واضح، وأمّا تقلید (العالم للعالم) فان کان من باب مراجعة أحدهما الآخر للتشاور وتکمیل المعلومات، فلا یُعدُّ هذا تقلیداً بل هو نوع من «التحقیق».
إنّ التقلید هو غض الطـرف عن التخصص الذی یـمتلکه الإنسان واتباع شخص آخر اتباعاً بدون قید أو شرط، فالمسلّم أنّ التقلید من قبل شخص قادر على التحقیق والاجتهاد أمر مذموم وغیر صحیح، ولهذا لم یُجِزْ الفقه الإسلامی للمجتهدأن یکون مُقلِّداً.
ویتضـح ممـا قلنا فلسفـة تقـلید المجتهدین فی المسائل الفقهیـة من قبل غیر المجتهدین، ومثل هذا دارج فی جمیع الفروع العلمیة، وبما أنّ الفقه الإسلامی واسع إلى درجة حیث لا یمـکن للنـاس جمیعاً أن یجتهـدوا، فجمیـع أبوابه والتحقیق فیها تعیّن على فریق منهم الاجتهاد بالفقـه، وعلـى الناس اتباعهم، إلاّ أنّ الأمر یختلف عنه فی اصول الدین، فیتعین التحقیق والاجتهاد فیها على کل مسلم، وذلک لإمکانیة ذلک، فلا یجوز التقلید فیها.