تحدثت الآیة الاُولى عن اتخاذ الهوى إلهاً واتباعه، والتضحیة لأجله بکل ما یملک، وکل من کان کذلک فسوف یختم على قلبه وعلى سمعه ویجعل على بصره غشاوة، فلا یهتدی بعد ذلک، فلنقرأ الآیة: (أَفَرَأَیْتَ مَنِ اتَّخَذَ اِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْم ...).
والآیة الثانیة تحدثت عن فریق من الیهود المعاندین حیث کلما جاءتهم رُسُل الله وأتوا بما یخالف أهواءهم، قاموا بتکذیب بعضهم وقتل البعض الآخر، إنّ عنادهم هذا جعل حجاباً بینهم وبین الحقائق، فیرون أنفسهم آمنین من عذاب الله، حیث تاب الله علیهم، وشملتهم رحمته الواسعة فی المرة الاُولى، لکن فی المرة الثانیة شملتهم نقمته، وذلک لنقضهم عهدهم وطغیانهم، فعموا وصمّوا.
وهذه من المردودات السلبیة لاتباع الهوى، حیث یهرقون دماء الأنبیاء ولا یدرکون قبح عملهم.
إنّ التعبیر بـ «یقتلون» بصیغة المضارع یدل على أن دیدن هذا الفریق من الیهود هو قتل الأنبیاء لما یأتون به من الشرائع المخالفة لأهوائهم.
والآیة الثالثة تشیر إلى فریق من المنافقین الذین یستمعون للنبی(صلى الله علیه وآله)، وبمجرّد ابتعادهم عنه استهزئوا به أمام المؤمنین.
یقول القرآن عن هذا الفریق من المنافقین: (أُولئِکَ الَّذِیْنَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُم).
إنّ هذه الآیات الثلاث تبیّن بوضوح العلاقة بین اتباع الهوى وفقدان قدرة التمییز.
لِمَ لا یکون اتباع الهوى مانعاً عن إدراک الحقیقة وقد استحوذ حبه على جمیع جوانب الإنسان، فلا یرى شیئاً غیره ولا یفکر إلاّ به؟ وقد سمعنا قول الرسول کثیراً حیث یقول فیه: «حُبُّکَ لُلشَّیء یُعْمِی وَیُصِمُّ»(1).
کما سمعت فی هذا المجال حدیثاً آخر نقل عن الرسول الأکرم(صلى الله علیه وآله) وعن أمیرالمؤمنین: «أمّا اتباع الهوى فیصدُّ عن الحق»(2).
إنّ هذه المسألة واضحة إلى درجة أنّها أصبحت مثلا فی کلام العرب: «صاحب الحاجة أعمى لا یرى إلاّ حاجته»(3).
إنّ الإنسان الذی خسر قلبه وروحه فی حب الجاه والمال والشهوة ، وعبّأ کل رأس مال وجوده فی هذا المجال ، لا یرى شیئاً فی الدنیا غیر هذا الحب ، وقد جعل هذا الحب ستاراً سمیکاً حجب عقله وفکره.
وما أجمل ما قاله علی(علیه السلام) فی إحدى خطبه: «مَنْ عشقَ شیئاً أعشى بصره»(4).
وقد نقلت الروایة التالیة فی شأن نزول الآیة 23 من سورة الجاثیة التی أشرنا إلیها سابقاً:
إنّ أبا جهل طاف بالبیت ذات لیلة ومعه الولید بن المغیرة (فقد کانت الکعبة محترمة فی الجاهلیة أیضاً ومحلاّ للطواف) فتحدثا فی شأن النبی (صلى الله علیه وآله)، فقال أبوجهل: والله إنّی لأعلم أنّه صادق. فقال له: مَهْ، ومالک على ذلک؟ قال: یا أبا عبد شمس کنّا نسمیه فی صباه الصادق الأمین، فلما تمّ عقله وکمل رشده نسمیه الکذاب الخائن؟ والله إنّی لأعلم أنّه صادق. قال: فما یمنعک أن تصدقه وتؤمن به؟ قال: تتحَدث عنی بنات قریش أنّی اتبعت یتیم أبی طالب من أجل کسرة، واللات والعزّى إن اتبعته أبدا، فنزلت «وختم على سمعه وقلبه»(5).
وما أجمل ما قاله علی(علیه السلام) عن الهوى: «آفة العقل الهوى»، کما قال فی محل آخر: «الهوى آفة الألباب»(6).