القسم السادس والأخیر من مصادر المعرفة هو «الشهود القلبی والمکاشفة».
وقبل کل شیء ینبغی تعریف هذا المصدر المجهول لدى أکثر الناس، کی یتضح فرقه عن «الوحی» و«الالهام» و«الفطرة» و«الإدراکات العقلیة»، ولکی لا یحملُهُ غیر المطلعین على «اتباع الظن».
ومن جهة اُخرى، لکی نحول دون استغلال هذا العنوان من قبل البعض، والنظر إلیه نظرة تشاؤمیة من قبل البعض الآخر.
إنّ الکائنات فی هذا الوجود تنقسم إلى قسمین:
1 ـ الکائنات التی یمکن إدراکها بالحواس وهی «العالم المحسوس».
2 ـ الکائنات غیر المحسوسة وهی «عالم الغیب».
لکن الإنسان ـ أحیاناً ـ ینفتح أمامه طریق باتجاه عالم الغیب یمکّنه من معرفة بعض الحقائق الغیبیة (حسب قابلیته) ، وبتعبیر آخر ، تتکشف له بعض حقائق عالم الغیب فیشاهد تلک الحقائق کما یشاهد حقائق العالم المحسوس، بل أوضح وأوثق.
ویقال لهذه الحالة «المکاشفة» أو «الشهود الباطنی».
وقد اُشیر إلى هذا العلم فی الآیتین : (کَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْیَقِینِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِیمَ)!(التکاثر / 5 ـ 6)
وقد ورد فی المصادر الإسلامیة المختلفة: إنّ «المجرمین» و«المؤمنین» تحصل لدیهم
هذه الحالة عند الاحتضار، فیشاهد المؤمنون عندها ملائکة الله أو الأرواح القدّسیة لأولیاء الله بینما یعجز الجالسون حولهم عن مشاهدة ذلک.
کما حصل هذا الأمر لرسول الله(صلى الله علیه وآله) فی غزوة الخندق عندما ضرب الرسول(صلى الله علیه وآله)الصخرة ثلاثاً وکان یظهر بریق فی کل ضربة وعند سؤال المسلمین عن هذا البریق قال: أضاءت الحیرة وقصور کسرى فی الاُولى وفی الثانیة أرض الشام والروم وفی الثالثة قصور صنعاء ... وسیأتی تفصیل الحدیث(1).
کما أنّه قد حصل هذا لآمنة اُم النبی الأکرم(صلى الله علیه وآله) عندما کانت حاملة بالرسول(صلى الله علیه وآله)حیث قالت: رأیت نوراً خرج منی شاهدت به قصور بلاد «بصرى» فی «الشام»، وهناک کثیر من النماذج جاءت فی الآیات والروایات نشیر إلیها فیما بعد، إن شاء الله، فهذه کلها لا وحی ولا إلهام قلبی، بل نوع من المشاهدة والإدراک تختلف عن المشاهدة والإدراک الحسی.
وعلى هذا، فالکشف والشهود ـ اختصاراً ـ عبارة عن: الدخول فی عالم ما وراء الحس ومشاهدة حقائق ذلک العالم بالعین الباطنیة، کالمشاهدة الحسیة بل أقوى، أو سماع تلک الحقائق باُذن روحانیة.
بالطبع لا یمکن تصدیق کل من یدعی أنّه وصل إلى هذه الملکة ، إلاّ أنّه ینبغی الاذعان بأصل وجود مصدر المعرفة ونتحدث أولا عن هذا الأمر، ثم عن کیفیة الوصول إلیه، ثم طریق تمییز المدعین الصادقین من الکاذبین، وبعد هذا التمهید، نمعن خاشعین فی الآیات التالیة:
1 (وَکَذَلِکَ نُرِى إِبْرَاهِیمَ مَلَکُوتَ السَّماوَاتِ وَالاَْرْضِ وَلِیَکُونَ مِنَ الْمُوقِنِینَ). (الأنعام / 75)
2 ـ (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَیَرَى اللهُ عَمَلَکُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ اِلَى عَالِمِ الْغَیْبِ وَالشَّهَادَةِ فَیُنَبِّئُکُمْ بِمَا کُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).(التوبة / 105)
3 ـ (مَا کَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُـمَارُونَهُ عَلى مَا یَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى).(النجم / 11 ـ 14)
4 ـ (کَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْیَقِینِ * لَتَرَوُنَّ الجَحِیمَ).(التکاثر / 5 ـ 6)
5 ـ (یَوْمَ یَرَوْنَ الْمَلاَئِکَةَ لاَ بُشْرَى یَوْمَئِذ لِّلْمُجْرِمِینَ وَیَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً). (الفرقان / 22)
6 ـ ( وَإِذْ زَیَّنَ لَهُمُ الشَّیْطـَانُ أَعْمـَالَهُمْ وَقـَالَ لاَ غـَالِبَ لَکُمُ الْیَوْمَ مِنَ النّاسِ وَاِنِّى جَارٌ لَّکُمْ فَلَمَّا تَرَائَتِ الْفِئَتَانِ نَکَصَ عَلَى عَقِبَیْهِ وَقـَالَ إِنِّى بَرِىءٌ مِّنْکُمْ اِنِّى أَرَى مـَا لاَ تَرَوْنَ اِنِّى أَخَافُ اللهَ وَاللهُ شَدِیدُ الْعِقَابِ).(الأنفال / 48)
7 ـ ( وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِیرُ قـَالَ أَبُوهُمْ إِنِّى لاََجِدُ رِیحَ یُوسُفَ لَوْلاَ أَنْ تُفَنِّدُونِ). (یوسف / 94)
8 ـ (فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا اِلَیْهـَا رُوحَنـَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِیّاً). (مریم / 17)