کما ذکرنا فی بدایة البحث أنّ للوحی معانِی کثیرة ، منها «وحی النبوة والرسالة»، وهناک قسم آخر من الوحی وهو «الالهام» الذی یُلقى فی قلوب غیر الأنبیاء، أو خطاب یُبلَّغ به غیر الأنبیاء.
ومثاله ما جاء عن اُم موسى حیث یقول القرآن فی هذا المجال: (وَأَوْحَیْنَا اِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِیهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَیْهِ فَاَلْقِیهِ فِى الْیَمِّ وَلاَ تَخَافِى وَلاَ تَحْزَنى...).(القصص / 7)
وقریب من هذا ما جاء عن الحواریین، حیث یقول الله تعالى: (وَاِذْ أَوْحَیْتُ اِلَى الْحَوَارِیِّینَ اَنْ آمِنُوا بِى وَبِرَسُولِى قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِاَنَّنَا مُسْلِمُونَ). (المائدة / 111)
کما قال الله فی یوسف قبل أن یبعثه نبیّاً، عندما أراد اخوته أن یلقوه فی الیم: (... وَأَوْحَیْنَا اِلَیْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِاَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لاَ یَشْعُرُون). (یوسف / 15)
وهذا الوحی لیس هو نفس وحی النبوة ، بل وحی إلهامی، بقرینة الآیة 22 من نفس السورة ، حیث جاء فیها أنّ الله ألهم نبیّهُ (یوسف) کی یدرک بأنّه لیس وحیداً بل الله یحفظه ویرزقه نصیباً من القدرة ویصل الأمر إلى أن یندم اخوته على فعلهم، وهذا الوحی هو الذی جعل الأمل ینبعث فی قلب یوسف.
یذکر «الفخر الرازی» ستة احتمالات فی ذیل الآیة (38) من سورة طه، وأغلبها خلاف الظاهر ، لأنّ ظاهر الآیة هو الالقاء فی القلب ، أو سماع صوت ملک الوحی الذی یتناسب والمعنى اللغوی للوحی(1).
ومثال القسم الثانی هو الخطاب الذی أبلغه أحد الملائکة لمریم والذی کان یتعلق بولادة عیسى(علیه السلام) ، وقد حکى القرآن حوار مریم مع الملک الذی تمثل فی صورة إنسان وسیم.
وأوضح مثال للوحی الالهامی هو الذی کان یُقذف فی قلوب الأئمّة المعصومین(علیهم السلام)والذی اُشیر إِلیه کثیراً فی الروایات.
وعندما سُئل الإمام الصادق(علیه السلام) عن مصدر علم الأئمّة قال: «مَبْلَغُ علمنا ثلاثة وجوه: ماض ، وغابر ، وحادث، فأمّا الماضی فمُفَسَّرٌ وَأمّا الغابر فمزبور ، وأمّا الحادث فقذف فی القلوب، ونقر فی الأسماع وهو أفضل علمنا ولا نبیَّ بعد نبیّنا»(2).
وقد جاء فی حدیث آخر للإمام الرض(علیه السلام) یقول فیه: «وأمّا النکت فی القلوب فهو الالهام وأمّا النقر فی الأسماع فحدیث الملائکة، نسمع کلامهم ولا نرى أشخاصهم»(3).
وبصورة عامة ، فإنّ علوم الأئمّة(علیهم السلام) تحصل من عدة طرق : العلوم التی ورثوها عن الرسول والأئمّة الذین سبقوا ، على شکل وصایا وقواعد مدوّنة توضع فی متناول أیدیهم والتی قد یطلق علیها فی بعض الأخبار «الجامعة»، وعندما یحصل لهم أمر مستحدث لا وجود له فی المصادر التی فی أیدیهم ، یوحی الله الیهم إلهاماً قلبیاً أو نقراً فی أسماعهم یسمعون به صوت الملائکة «کما هو الحال بالنسبة لمریم(علیها السلام)».
لکن المسلَّم به أنّ هذا الوحی لا علاقة له بوحی النبوة، وهو من قبیل وحی الحواریین وأمثال ذلک، وفی الواقع، أنّ الاصطلاح العصری للوحی یطلق على وحی النبوة الذی یسمى «إِلهاماً» ، وقد قال العلامة الطباطبائی فی هذا المجال: حبذا لو أطلقنا علیه إِلهاماً لأنّه یتفق والأدب الدینی(4).
یراجع ـ للتفصیل ـ المجلد 26 من بحار الأنوار ، باب علوم الأئمّة(علیهم السلام) ، کما یراجع المجلد الأول من اُصول الکافی باب أنّ الأئمّة(علیهم السلام) محدَّثون.