لقد قرأنا وسمعنا الکثیر عن حقیقة الوحی، لکن رغم ذلک کله، فإنّ معرفتنا لحقیقته غیر ممکنة، لعدم ارتباطنا بهذا العالم الغامض، وحتى لو فسّره لنا الرسول بنفسه، فانّه لا ینطبع شیء فی أذهاننا عنه سوى شبح.
ومثل ذلک کمثل شخص بصیر یرید أن یصف أشعة الشمس الجمیلة، وأمواج البحر الهائجة وأجنحة الطاووس الملوّنة والمنظر الخلاّب للورد وبراعم الحدیقة الخضراء. لشخص ولد أعمى، وقد تحصل صور مبهمة ومشوشة لهذه المخلوقات عند الأعمى إلاّ أنّ إدراک صورها الحقیقیة فهو أمر مستحیل.
لکننا نستطیع توضیح الوحی عن طریق آثاره وأهدافه ونتائجه، ونقول: إنّ الوحی هو الالقاء الإلهی الذی یتمّ بهدف تحقیق النبوة والتبشیر والانذار، أو نقول: إنّه نور یهدی به الله من یشاء، أو نقول: إنّه وسیلة الإرتباط بعالم الغیب وإِدراک معارف ذلک العالم، ولهذا السبب نرى القرآن یتحدث عن آثار الوحی لاعن حقیقته.
و ینبغی أن لا نعجب من هذا الأمر، وأن لا نتخذ عدم إدراک حقیقة الوحی دلیلا على عدم الوجود، أو نفسره بتفاسیر مادیة جسمیة، فإنّ فی عالم الحیوانات التی نعدها فی مستوى أدنى من مستوانا فضلا عن عالم النبوّة، تُشاهد آثار أحاسیس وإدراکات یعجز البشر عن إدراکها، فبعض الحیوانات تضطرب قبل حدوث الزلزلة وتصرخ بصورة جماعیة أحیاناً، وتارة تحدث أصواتاً مروعة حاکیة عن قرب وقوع حدث مفجع، هذا کله بسبب تحلّیها بحاسة تستطیع بواسطتها أن تکشف قرب وقوع الزلزلة، الأمر الذی تعجز عن کشفه أحدث تکنولوجیا فی العصر الحاضر.
أو أنّ بعض الحیوانات تتنبأ بتغییرات الأحوال الجویة للأشهر القادمة، فتبنی بیوتها وفقاً لتلک الأحوال فی الأشهر المقبلة علیها، وتعد الطعام الذی یتناسب مع طول فصل المطر والشتاء، فإذا کان طویلا ـ مثلا ـ یختلف مقداره عمّا لو کان قصیراً!
کما أنّ بعض الطیور قادرة على الهجرة الجماعیة من المناطق القطبیة إلى الاستوائیة أو بالعکس، وقد یتمّ ذلک فی اللیل وفی سماء ملبدة بالغیوم، مع أنّ الإنسان لا یمکنه السیر فی هذا الطریق وینجح باجتیاز واحد بالمائة منه، إلاّ بالاستعانة بالوسائل الدقیقة، وکذا الأمر بالنسبة لبعض الحیوانات حیث تطلب صیدها فی ظلام اللیل الدامس، وأحیاناً تحت أمواج المیاه وغیر ذلک من الأمثلة التی یصعب على الإنسان تصدیقها، إلاّ أنّ العلم أثبت صحتها.
إنّ هذه الواقعیات التی تثبت بالعلم والتجربة تکشف عن وجود إدراک وشعور خاص لتلک الحیوانات لا یوجد مثله عند الإنسان، بالطبع إنّ الاطلاع الکامل على عالم حواس الحیوانات الغامض أمر محال، إلاّ أنّه لا یمکن إِنکار هذه الحقائق(1).
فبالرغم من أنّ حواس الحیوانات لها ابعاد مادیة وطبیعیة وهذا أمر طبیعی ولا یمثل جانباً غیبیاً، إلاّ أننا لا نعرف حقیقة هذه الحواس، فکیف یمکن لنا أن ننکر عالم الوحی الغامض أو نشکک فیه بسبب عدم إدراکنا له؟
لم نقصد من حدیثنا هذا الاستدلال على ثبوت مسألة الوحی، بل أردنا أن نرد على الذین ینکرون وجوده بسبب عدم إمکان إدراک حقیقته.
ولنا طرق واضحة لإثبات قضیة الوحی منها:
1 ـ نشاهد من جهة رجالا یدعون النبوة جاءوا بکتب وتعالیم تفوق قدرة البشر الفکریة، فالرسول الاُمی ـ مثلا ـ کیف أمکنه الاتیان بکتاب ذی محتوى مجید بالرغم من کونه قد نشأ وترعرع فی مجتمع الحجاز المتأخر للغایة فی عصر الجاهلیة؟!
2 ـ ومن جهة اُخرى فإنّ دعوة الرسل مقترنة دائماً مع معاجز تفوق قدرة البشر، وهذا یکشف عن ارتباطهم بعالم ما وراء الطبیعة.
3 ـ ومن جهة ثالثة، فإنّ الروایة الکونیة التوحیدیة تقول لنا: إنّ الله خلقنا للتکامل والسیر نحو ذاته المقدّسة الأبدیة، وبدیهی أن سلوک هذا الطریق أمر غیر ممکن لکثرة مصاعبه وانعطافاته وتعرجاته ومشاکله وأخطاره لأننا نشاهد عجز العقل وضعفه عن إدراک کثیر من الحقائق، والدلیل على ذلک، الاختلافات الکثیرة بین العلماء والمفکرین، وکذلک مصیر الأمم التی وضعت قوانینها بالاعتماد على العقل والقوانین الوضعیة وذلک لإدارة شؤون حیاتهم الفردیة والاجتماعیة.
وعلى هذا، فإنا نقطع بأن الله لم یترک الإنسان لوحده، فبالإضافة إلى عقله أمده بقادة یرتبطون بعالم الغیب، ویستفیضون من بحر العلم الإلهی، وهذا هو الذی یعینه لاجتیاز الطریق والوصول إلى الأهداف المقصودة.
وبهذه القرائن الثلاث یمکننا إدراک العلاقة بین عالم الإنسانیة وعالم ما وراء الطبیعة، وکذلک الإیمان بالوحی رغم أننا لم نتعرف على حقیقته وماهیته، وبتعبیر آخر: إن علمنا بالوحی علم إجمالی ولیس علماً تفصیلیاً.