قسم أحد العلماء المعاصرین التاریخ ـ من وجهة نظر وزاویة خاصة ـ إلى ثلاثة أقسام:
1 ـ التاریخ النقلی: وهو عبارة عن مجموعة من الحوادث الجزئیة المعینة التی حدثت فی الماضی، وهو أشبه ما یکون بالفلم الذی یصور حادثة أو حوادث، لهذا فانه جزئی دائماً ولیس کلیاً، ویتحدث عمّا کان لا عمّا یکون، ویتعلق بالماضی لا بالحاضر، ونقلی لا عقلی.
وهذا الفرع من التاریخ یمکنه ـ عن طریق المحاکمات ـ أن یکون معلماً مفیداً، وعبرة من أناس ذلک الزمان، وهو أشبه بتأثّر الإنسان بجلیسه، وأشبه بالاسوة التی یذکرها القرآن للناس لیعتبروا منها ویقتدوا بها.
2 ـ التاریخ العلمی: وهو التاریخ الذی یتحدث عن قواعد وسنن الاُمم السالفة التی تُستنبط من دراسة وتحلیل حوادث العصور السابقة، وفی الحقیقة فإنّ التاریخ النقلی کالمادة الخام لهذا التاریخ.
ومن میزات هذه السنن هی إمکانیة تعمیمها، وکونها علمیة، وإمکانیة جعلها مصادِر للمعرفة، وإحاطة الإنسان ـ عن طریقها ـ بالمستقبل.
وبالرغم من أنّ هذا النوع من التاریخ کلی وعقلی، فانّه علم بما کان لا بما یکون.
3 ـ فلسفة التاریخ: وهو علم یتحدث عن تحول المجتمعات من مرحلة إلى أُخرى، أو بتعبیر آخر: هو علم بما یکون لا بما کان.
ویمکن توضیح هذا بالمثال الآتی:
إنّ «علم الأحیاء» علم یبحث عن القواعد الکلیة التی تحکم حیاة الموجودات الحیة، إلاّ أنّ نظریة «تکامل الأنواع» إذا قلنا بها ـ تبحث عن کیفیة تحول وتبدل نوع من الحیوانات إلى نوع آخر، إذن، موضوع البحث فی فلسفة التاریخ هو کیفیة حرکة وتکامل التاریخ، إنّ هذا الفرع من التاریخ یتسم بجانب کلی وعقلی، ورغم ذلک فانّه ناظر إلى مجریات التاریخ من الماضی إلى المستقبل وفائدة هذا النوع من التاریخ لا تخفى على أحد(1).
وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ ما ذکرناه فی شروحنا للاقسام الثلاثة کان صحیحاً وإن لم یتفق شیئاً ما مع الاستعمالات العصریة لمفردتی «العلم» و«الفلسفة» وأنّ المراد کان ایصال المفهوم إلى أذهان القراء فقط.
فضلا عما ذُکر سابقاً نضیف هنا القول بامکانیة ادغام القسم الثانی والثالث فی قسم واحد، ذلک لأنّ القوانین الکلیة التی رسمت التاریخ وتُستخرج وتُستنبط من التاریخ النقلی، تارة تکون ناظرة إلى الوضع الراهن للمجتمعات، وتارة اُخرى تکون ناظرة إلى تحول وتکامل المجتمعات.
والمهم هنا هو أنّ القرآن المجید لم یقتنع بالسرد المجرد لحوادث التاریخ بل أشار أیضاً إلى السنن والقوانین الکلیة التی حکمت المجتمعات، القوانین التی یمکنها أن تزیل القناع عمّا کان ویکون، أو عن أی تغیر وتحول تاریخی کأیّ تقدم أو سقوط أو فشل حصل للمجتمعات.
یشیر القرآن ـ مثلا ـ إلى هذه السنة: (ذَلِکَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ یَکُ مُغَیِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْم حَتَّى یُغَیِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ). (الأنفال / 53)
وینبغی الالتفات إلى أنّ القرآن ذکر هذه السنة بعد ما أشار إلى قصة قوم فرعون وعذابهم بسبب ذنوبهم.
ویقول فی آیات اخر (بعد اشارته إلى تاریخ الأقوام القویّة التی أُهلکت بسبب تکذیبهم الرسل وشرکهم وذنوبهم وظلمهم): (فَلَمْ یَکُ یَنْفَعُهُمْ اِیمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللهِ الَّتِى قَدْ خَلَتْ فی عِبَادِهِ). (المؤمن / 85)
نعم تنبغی الوقایة قبل العلاج، وهذا قانون کلی، لأنّ الإنسان لو ابتلی بجزاء أعماله فلا فرصة حینئذ لجبران الماضی.