بالرغم من أنّ التاریخ مرآة کبیرة وجمیلة تعکس الواقعیات إلاّ أنّ المؤسف فیه هو وجود أیاد ملوَّثة سعت وتسعى دائماً لتغییر وتشویه الوجه الناصع لهذه المرآة، ولهذا السبب فإنّ هناک کثیراً من الشوائب فی التاریخ تحول دون معرفتنا للحقیقة ودون تمییزنا الصادق من الکاذب منه.
إنّ سبب التشویه واضح، حیث لم یکن المؤرخون محایدین دائماً، بل کثیراً ما یؤرخون التاریخ بالشکل الذی یتناسب مع دوافعهم الشخصیة والفئویة، هذا من جهة، ومن جهة اُخرى فإنّ جبابرة کل عصر سعوا لإِغراء المؤرخین وجذبهم لیکونوا تحت سیطرتهم ونفوذهم، لیملوا علیهم ما یحلو لهم فیکتبوا ما یرید هؤلاء الجبابرة.
وبالرغم من المساعی التی تُبذل بعدَ زوال کلٍّ من الحبابرة والظالمین وتوفر أجواء حرة أکثر فی سبیل إصلاح الأخطاء، وتصحیح ما لحق بالتاریخ من فساد، إلاّ أنّ المؤرخین قد لا یوفّقون فی هذا المجال لإصلاح الخطأ، أو تکون إصلاحاتهم غیر کافیة.
والملفت للنظر أنّ قضایا التاریخ تتبدّل کلما تبدلت الحکومات المستبدة ذات المیول والإتّجاهات المتضاربة، فـ «بنو اُمیة» مثلا حرفوا التاریخ الإسلامی بشکل، و«العباسیّون» حرفوه بشکل آخر، کما أنّ الذین خلفوا العباسیین صاغوه بشکل آخر.
إنَّ (استالین) کتب فی زمن ما تاریخ الثورة الشیوعیة فی روسیا بشکل، وقد دُرِّس هذا التاریخ فی جمیع المدارس آنذاک، والذین خلفوه کانوا یعتبرونه جلاداً مصاصاً للدماء فجمعوا تلک الکتب ودوّنوا تاریخ الثورة بصیغة اُخرى، وهکذا فعل کل من خلف الحکومة فی الاتحاد السوفیتی فکتب التاریخ بما یتناسب مع میوله الشخصی والمذهبی.
ولهذا السبب، فإنّ البعض أساء الظن بالتاریخ وقال فیه ـ مبالغةً ـ هذه العبارة: «إنّ التاریخ مجموعة حوادث لم تحدث أبداً، وأقوام لم توجد أبداً»!!
إلاّ أنّ الانصاف یفرض علینا أن نعدّ التاریخ أحد مصادر المعرفة بالرغم من الغبار الذی غطّاه، وذلک لأنّ التاریخ کأی خبر آخر منه «المتواتر» ومنه «الموثوق» ومنه «الضعیف» ومنه «المجهول».
ولا یمکن انکار ما تواتر فی التاریخ عن جُند المغول وجیش هتلر والحوادث المفجعة فی «الاندلس»، والمئات من هذه الحوادث، والذی یصلح للنفی والإثبات والإشکال هو جزئیات التاریخ، وهی بدورها إذا ثبتت باخبار الثقات أصبحت صالحة للاعتماد علیها. بالطبع فإنّ الأخبار الضعیفة فی هذا المجال لیست قلیلة.
و هذا حکم عادل بحق التاریخ، فینبغی عدم الأخذ بکل ما جاء فی التاریخ، کما لاینبغی نبذ کل ما ورد فیه.
وقد سَلِمَ قسمان من التواریخ من أی تحریف وتلویث وهما:
التواریخ التی ظلّت فی صورة آثار تکوینیة فی الخارج، فلا یمکن تحریفها ببساطة، وقد أکد القرآن المجید على هذا القسم کثیراً، وآیات «السیر فی الأرض» بهدف التعرف على تاریخ الاُمم السالفة ناظرة إلى هذا القسم منه.
والأکثر من ذلک التواریخ التی وصلتنا عن طریق «الوحی» مثل تواریخ القرآن التی تعتبر أصیلة وخالصة من جمیع الرغبات والنزعات، فکما أن الله عزّ وجلّ أفضل مقنّن فهو أفضل مؤرخ کذلک، لأنّه خبیر بجمیع الجزئیات ومنزه عن الإتّجاهات الفردیة والجماعیة، ومع توفر هذین الشرطین فهو أفضل مؤرخ روى لنا التاریخ.
وقد یتعجب البعض ویسأل: لماذا یعید الله تعالى قصة نوح أو موسى أو فرعون أو مواجهة الأنبیاء للمستکبرین والجبابرة عدّة مرّات؟
لقد غفلوا عن أن کل حکایة ناظرة إلى الحادث من زاویة واحدة فقد یکون لکل حدث تاریخی زوایا وجوانب متعددة، فقد ینظر ـ مثلا ـ إلى تاریخ بنی اسرائیل من حیث مواجهتهم لطاغوت زمانهم، وقد ینظر لتاریخهم من حیث عنادهم لأنبیائهم، وقد ینظر لتاریخهم من حیث عواقب الاختلاف والتشتت وعدم الاتحاد، أو من حیث آثار ونتائج نکران النِعَم، والخلاصة: إنّ کثیراً من الحوادث التاریخیة کالمرآة ذات الأبعاد المختلفة، یسلط کلُّ بعد من ابعادها الأضواء على جانب من الجوانب (وسیأتی شرح هذا بالتفصیل فی بحث تواریخ القرآن).