کان عدد من المشرکین أو أهل الکتاب یسألون النبی(صلى الله علیه وآله) عن «الروح»، فأمر الله سبحانه الرسول الأعظم (صلى الله علیه وآله) وکما جاء ذلک فی الآیة الاُولى ـ أن یجیبهم بأنّ «الروح» من أمر ربی ویضیف لهم بأنهم ما أُوتوا من العلم إلاّ قلیلا، ولهذا فلا قابلیة لهم لإدراک حقیقة «الروح»(1).
وفی هذه الآیة إشارة واضحة إلى کون العلم البشری محدوداً (وذلک لأنّ الروح المقصودة فیها هی روح الإنسان) وهی أقرب شىء إلى الإنسان وذلک لأنّ الإنسان ما استطاع الاحاطة علماً بجوهر روحه التی هی أقرب إلیه من الحقائق والموجودات فی الکون، وأنّ ما یعرفه عنها هو معرفة سطحیة وإجمالیة، فکیف یمکنه معرفة حقائق العالم الاُخرى؟!
أمّا الآیة الثانیة والتی هی آخر آیة من سورة لقمان، تکشُف عن علوم خاصة بالله تعالى وأشارت إلى خمسة منها: قیام الساعة، نزول المطر، الجنین الذی فی رحم الاُم، الحوادث المستقبلیة التی تتعلق بأعمال الإنسان والمکان الذی یموت فیه الإنسان، وقد أُشیر إلى هذه العلوم الخمسة فی الروایات تحت عنوان «مفاتیح الغیب الخمسة» التی لا یعرف عنها أحد إلاّ الله(2).
وقد یعلم الإنسان علماً إجمالیاً عن هذه الأمور الخمسة بالاستعانة بالقرائن، إلاّ أنّ الجزئیات لا تتضح لأحد أبداً، فلا یعلم ـ مثلا ـ ما هی قابلیات الجنین الجسمیة والروحیة وهل هو جمیل أم قبیح وأنّه سلیم أم سقیم، وحتى جنسه (المذکر والمؤنث) لا یمکنه معرفته إلى مراحل متأخرة من حیاته فی الرحم.
إنَّ القرآن یخاطب الإنسان فی هذه الآیة ویقول: یا أیّها الإنسان أنّک لا تعلم عن غدک شیئاً ولا تعلم فی أی أرض تموت، وعلیه فکیف تتوقع أن تعرف عن جمیع ما فی العالم وعلمک محدود؟!
وقد تحدثت الآیة الثالثة عن تسبیح وحمد جمیع الکائنات لله، فجمیعهاـ بلسان حالها وبالنظام الدقیق والعجیب الذی یهیمن علیها ـ تحمد وتثنی على الله وتشهد بنزاهته عن أی نقص وعیب، وتملأ العالم بلسان حالها ـ أو بقولها إضافة إلى لسان حالها ـ بهمهمة التسبیح والتحمید، وکل ذرة فی هذا العالم بلا استثناء لها عقل وعرفان وشعور خاص بها، تحمد الله وتثنی علیه بمعرفة، وقد شرحنا هذین الرأیین فی التفسیر الأمثل(3).
وعلى أیّة حال، فنحن لا نستطیع فهم لسان حال الموجودات لأننا لا نعرف کل شیء عن أسرار هذا العالم ونظامه، کما لا نستطیع فهم ما تقول أیضاً.
و من هنا یتّضح أنّ العالم ملیءٌ بالهمهمة والألحان الإلهیّة ونحن غافلون عن ذلک لأننا لم نحط به خبراً، وهذا دلیل واضح على کون علمنا البشری محدوداً.
وتحدثت الآیة الرابعة عن «الجهاد» وتقول للذین یکرهون الجهاد: أنتم تجهلون «الخیر» و«الشر» ولا تمیزون بینهما، فانّکم أحیاناً ما تکونون فی حرب مع مصالحکم وقد تتقدمون نحو الشر حبّاً ورغبةً فیه، وهذا دلیل واضح على علمکم المحدود حیث إنّکم لا تمیزون أحیاناً بین ما هو شرٌ لکم وما هو خیرٌ لکم، إلاّ أنّ الله یعلم ذلک وقد اوضح بواسطة الوحی (الذی هو أحد مصادر المعرفة) وبیّنَ لکم ما فیه خیر وما فیه شر.
إنّ الآیة الخامسة مع إشارتها إلى عظمة خلق السموات والأرض أشارت إلى حقیقة أن خلقهما أعظم وأهم من خلق الإنسان، وأشارت أیضاً إلى عدم معرفة أکثر الناس لهذه القضیة، هذا فی الوقت الذی کانت فیه معلومات الإنسان بصورة عامة وفی الحجاز بصورة خاصة محدودة تجاه خلق السموات والأرض، ولعلهم کانوا یتصورون النجوم آنذاک مسامیر فضیة فی کبد السماء، والیوم حیث توسعت معلوماتنا تجاه خلق السموات والأرض، فانّها لا زالت محدودة.
والآیة السادسة بعد أن أشارت إلى قضیة الطلاق والعدّة وضرورة بقاء المطلقة فی بیت الزوج عند إعتدادها بالعدة الرجعیة، تقول: قد یحدث الله أمراً جدیداً فی هذه الأثناء أی اثناء مجاورتها لزوجها السابق، الأمر الذی قد یؤدّی إلى الصلح بینهما.
والملفت للنظر هنا هو أنّ مخاطب الآیة نفس الرسول الأعظم (صلى الله علیه وآله) فإذا کان الرسول (صلى الله علیه وآله)مع علمه الواسع یُخَاطَب بخطاب کهذا فما حال باقی أفراد البشر؟!
وهذا دلیل على قصور العلم البشری إلى مستوى بحیث لا یستطیعون أن یعلموا بمستجدات یومهم اللاحق.
وفی الآیة السابعة یؤمر الرسول الأعظم(صلى الله علیه وآله) بأن یقول: إنّی لا أملکُ لنفسی نفعاً ولا ضرّاً، وأن یعترف:
إنّی لا أعلمُ الغیب (إلاّ ما علمنی الله) وانی لو کنت أعلمُ الغیب لاستکثرت وازددتُ من الخیر لنفسی وما مسنی ضرٌّ وما حصلت لی مشکلةٌ.
إنّ هذا الحدیث قاله الرسول (صلى الله علیه وآله) عندما کان أهل مکة یسألونه عمّا إذا کان یوحى إلیه فلِمَ لا یعلم ما سیؤول إلیه امر ارتفاع وانخفاض اسعار السِّلع أو الجفاف وهطول الغیث فی المناطق المختلة کی یستزید من الخیر وینتفع أکثر، فأجابهم: إنّ عالم الغیب هو الله وهو صاحب العلم غیر المحدود.
عندما یعترف الرسول (صلى الله علیه وآله) مع علمه الواسع حیث یقول الله تعالى فیه (... وَعَلَّمَکَ مَا لَمْ تَکُنْ تَعْلَمْ ... ).(النساء / 113)
بأنی لا أعلم من الغیب (وهو الأمر الخارج عن الحس)إلاّ ما علمنی الله فکیف حال بقیّة البشر؟
والآیة الثامنة بعد أن بینت أحکام إرث الأولاد والأب والأم فی حالات مختلفة ذکرت: حتى أنفسکم لا تعلمون أیّاً من الأب والأم أو الأولاد أنفع لکم؟ وأیهم أحق بأموالکم کی یخصص له سهم أکثر.
نعم، لستم على بینة بمصالحکم الشخصیة، لهذا السبب لا تستطیعون أن تسنّوا قوانین دقیقة تلیق بمقام الارث وغیره، إنّ المُقنّن یجب أن یکون الهاً محیطاً بِکل أسرار الوجود، نعم، إنّ قصور علم البشر بدرجة لا یستطیع أن یسن قوانین تحافظ على مصالحه، ولهذا نرى أنّ القوانین البشریة فی حالة تغییر دائمی، فإذا کان الإنسان یجهل مصیره إلى هذا الحد، فکیف به تجاه الموجودات الاُخرى الموجودة فی الکون؟
وأخیراً، فإنّ الآیة التاسعة والأخیرة فی البحث هذا تحدثت عن العلم الإلهی اللامتناهی، وصوّرت اللانهایة فی الأذهان بحیث یستطیع حتى الذی لم ینل من العلم إلاّ القلیل بل وحتى الأُمی أن یرسم فی ذهنه صورة عنها، بالرغم من صعوبة تصور اللانهایة حتى للعلماء، حیث قالت: لو أنّ ما فی الأرض من شجر یصیر أقلاماً رغم أن الأشجار قد یصل عددها إلى ملیارات (بل قد یُصنع الملایین من الأقلام من شجرة واحدة: وبالرغم من أنّ حوضاً صغیراً قد یملأ الملایین من الدواة فکیف بالمحیطات والبحار، وإضافة إلى هذا کله، لو اجتمعت الملائکة وکُتاب الانس والجن على أن یکتبوا بهذه الأقلام وهذا الحبر کلمات الله وعلمه ما استطاعوا وسوف تنصرم الأقلام وینتهی الحبر وما زالت کلمات الله جلّ جلاله وعلومه فی بدایة الدفتر، هذا من جهة.
ومن جهة اُخرى فأنّنا نعلم أنّ المراد من کلمات الله هو الکائنات الموجودة فی العالم، وعلى هذا فالآیة دلیل واضح على سعة العالم وقصور علم البشر.