ومن القرائن ردود فعل المتّهم حین مشاهدة ثیاب المقتول الملوّثة بالدماء أو باقی آثار الجریمة، وإفادات الجیران وتردّد المتّهمین هناک واُمور اُخرى من هذا القبیل.

والتحقیق فی بعض الاُمور الاُخرى قد یدفع بالقاضی أحیاناً للبتّ بانتفاء العلاقة بین المتّهم والجریمة، منها السیرة الحسنة وعدم تناقض الأجوبة واُمور اُخرى وبذلک یکشف عن براءة المتّهم أو کونه المجرم الحقیقی، وبإمکان القاضی إصدار حکمه النهائی على أساس یقینه وعلمه الحاصل من هذه المقدّمات التی هی أقرب إلى الحسّ.

هذا النوع من الاستدلال لا یختصّ بالمسائل القضائیة، بل کثیراً ما یستند إلیه العلماء لحلّ المشاکل التأریخیة والاجتماعیة العالقة، وحتّى فرضیات العلوم الطبیعیة، بل أن دور هذا الاُسلوب لا یمکن إنکاره خصوصاً فیما یتعلّق بالمسائل السیاسیة التی تبقى جذورها ـ ولأسباب لا تستحقّ التعلیق ـ غامضة على الأعمّ الأغلب.

کما ویمکن غالباً التعرّف عن هذا الطریق على الأنبیاء الصادقین، وتمییزهم عن غیرهم فیما یتعلّق بالمدّعین للنبوّة، إذ ینبغی هنا مثلا الإلتفات إلى الاُمور التالیة:

1 ـ ما هو وضع البیئة والاُصول العقائدیة والأخلاقیة الحاکمة علیها، وهویّة القوم الذین ینتمی إلیهم؟

2 ـ زمان الدعوة ووضع العالم آنذاک، وماهیّة الظروف المهیمنة على محیط حیاة مدّعی النبوّة فی ذلک الزمان.

3 ـ الخصوصیات الأخلاقیة والصفات والروحیات وسیرته من حیث التقوى والورع والأمانة.

4 ـ هل الأفراد الذین اتّبعوه متّصفون بالصدق والذکاء أم أنّهم سفهاء لا تقوى لهم؟

5 ـ مدى إیمانه بادّعائه وحجم تضحیته وإیثاره.

6 ـ الطرق التی یسلکها للتعجیل بتحقیق أهدافه وهل هی مشروعة، أم ظالمة وغیر منطقیة؟

7 ـ مـا هو ردّ فعله فیما یتعـلّق بالقبـائح أو خرافـات المجتمع، وهل أنّه یـخطّط لإصلاح المجتمع أم یسـاوم مع مفاسد المجتمع طمعـاً فی کـرسی الحکم؟

8 ـ مدى حبّه للدنیا والمظاهر المادیة والمال والمقام؟

9 ـ ما هو موقفه من الأعداء لحظة الإنتصار، وهل یتصرّف مع معارضیه بعدالة أم لا؟

10 ـ هل تدور شعاراته مدار المصلحة الشخصیة، أم أنّه یسیر دائماً على اُصول ثابتة بقدم راسخة؟ وقرائن اُخرى.

جمیع هذه القرائن التی تحفّ بحیاة المدّعی العامّة والخاصّة (مع قطع النظر عن مضمون دعوته، تکون أحیاناً بمثابة المشعل الوضّاء الذی یکشف عن صدقه أو کذبه بکلّ وضوح دونما حاجة إلى معجزة أو دلیل)، بل وأحیاناً یُعتبر توفّر بعض ما تقدّم ذکره دلیلا قاطعاً على إثبات هذا المقصود، وسنتناول هذا البحث بالتفصیل فی مبحث النبوّة الخاصّة لنبی الإسلام(صلى الله علیه وآله) إن شاء الله.

والملفت للنظر هو ما نقرأُهُ فی العدید من الروایات فی التواریخ الإسلامیة عن اعتناق أشخاص لدین الله، لمجرّد الوقوف على عدد من هذه القرائن، بل إنّ عدداً من الأعداء اللَّدودین غیّروا مواقفهم وعادوا أصدقاء حمیمین نتیجة ذلک، ولو تمّ جمع هذه الروایات لظهر منها بحث موسّع ولطیف، یعکس نور الإیمان الذی سطع من القلوب المؤمنة لمجرّد اطّلاعها على هذه القرائن دون البحث عن أیّة معجزة.