یقال أحیاناً: کیف یمکن أن یکون الأنبیاء والأئمّة معصومین مع جواز التقیّة لهم، وجواز الکذب وأمثاله فی مقام التقیّة، ألیست تلک ذنوباً؟ فلو جازت التقیّة لهم لاستحالت عصمتهم من الذنب والمعصیة.

الجواب :

یجب الإلتفات إلى ملاحظتین دقیقتین:

1 ـ الشبهة الخطیرة التی راودت البعض من المغفّلین حول «التقیّة» والتی غدت مصدراً لشبهات جمّة أخرى، هی توهّمهم بأنّ «التقیّة» تعنی إبداء موقف الضعف أمام الآخرین، واسدال الستار على الحقائق، وانحصار مؤیّدیها فی أتباع المذهب الشیعی فقط.

فی حین أنّ «التقیّة» بمعناها الحقیقی قانون عقلائی معروف وواضح یتّبعه کلّ العقلاء فی الوقت المناسب، وهی فی الحقیقة نوع من التکتیک لمحاربة العدو أو مواجهة الأحداث الخطیرة.

بیان ذلک: هناک أحداث فی تاریخ الجهاد الدینی والاجتماعی والسیاسی، یتعرّض أتباع الحقّ ومذهبهم للخطر فیما لو قاوموا بشکل علنی، ومن هنا نرى أنّ وجه الصراع یتغیّر وتستبدل المقاومة المباشرة بغیر المباشرة والعلنیة بالسرّیة، والهدف هو توجیه «ضربات أکثر» للعدو بـ «خسائر أقل»، وبعبارة أخرى الحدّ من ضیاع القوى، وهذا النوع من الصراع والعمل السرّی لیس سوى «التقیّة» ولکن بأسلوب آخر.

إنّ النشـاط السرّی مقـابل العدو یعتبر فی کلّ حروب العالم على طول التاریخ (خصوصاً الیوم) من أهمّ أصول المقاومة، الخطط الحربیة کلّها سرّیة، کلّ ملابس الجنود وأنواع العتاد والسلاح بعیدة عن أنظار العدو، وهذه کلّها صور أخرى من «التقیة».

لو وقع أحد الضبّاط الکبار فی أسر العدو، واحتمل أن یستفید العدو کثیراً من معلوماته، لوجب علیه کتمان أمره وعدم إخبار العدو بالحقیقة، بل لو تمکّن من إغوائهم بعباراته لوجب ذلک، وهذه أیضاً من أوجه التقیّة.

لِمَ نذهب بعیداً، ففی صدر الإسلام حین کان المسلمون یشکّلون الأقلّیة، کانوا یکتمون عقائدهم حین وقوعهم فی قبضة العدو، لئلاّ تذهب الطاقات سدى، فالکل قد سمع قصّة عمّار وأبیه، کما أنّ القرآن أجاز هذه المسألة فی العدید من الآیات(1).

ومؤمن آل فرعون الذی وردت قصّته بالتفصیل فی القرآن کمثال على ذلک، حیث استخدم أسلوب التقیّة، وعبّر عنه القرآن صراحةً بـ (رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ یَکْتُمُ إِیمَانَهُ). (غافر / 28)

ولا یجیز أی عاقل أن یکشف المجاهدون عن أنفسهم فی مثل هذه الظروف الحسّاسة وهم قلّة، لئلاّ یتعرّف علیهم العدو بسهولة ویقضی علیهم.

اللطیف هو أنّ «التقیّة» قد اعتبرت بمثابة الدرع الواقی بالنسبة للمؤمن فی الروایات الإسلامیة، کما ورد ذلک عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنّه قال: «التقیّة ترس المؤمن»(2).

فلو أنّ أحداً لجأ إلى مکان منیع فی ساحة المعرکة لیقی نفسه من ضربات العدو، هل یعدّ مرتکباً لعمل مخالف یاترى؟!

ومن هنا یتّضح أنّه کلّما ابتلی أحد بموارد التقیّة وکتم أمره وعقیدته التی یؤمن بها لمصلحة أهمّ، أو تحدّث على خلافها، فهو فضلا عن عدم ارتکابه للذنب یکون عاملا بالمباح أو الواجب، وشأن ذلک شأن الکذب لإصلاح ذات البین، أو لإنقاذ حیاة مؤمن.

واللطیف هو أنّ القرطبی المفسّر السنّی المعروف، وفی ذیل الآیة (106) من سورة النحل حینما یصل إلى مبحث «التقیّة» یقول: «یعتقد کلّ علماء الإسلام أنّه لو أجبر أحد على التفوّه بعبارات الکفر خوفاً على حیاته، فلا حرج علیه فی ذلک مع اطمئنان قلبه بالإیمان، ولا تبّین منه زوجته، ولا یحکم بأحکام الکفر» وبعد تعرّضه لقول ضعیف حول الإرتداد الظاهری لشخص کهذا یقول: «هذا کلام ینفیه الکتاب والسنّة والقرآن وحدیث النبی الأکرم (صلى الله علیه وآله)».

طبعاً الأنبیاء (علیهم السلام) فی موقع لا یسمح لهم بالتقیّة أبداً، أی إنّهم لا یکتمون حقائق الدین بأیّ ثمن، ولا یقولون خلاف الواقع فی هذا الطریق، وإلاّ لبقیت حقائق دعوتهم خفیّة، ولزال الإعتماد على کلامهم، ولفقد إخبارهم عن الوحی السماوی اعتباره، لکنّهم لو ابتلوا بمشاکل شخصیة فیحتمل کتمانها من قبلهم، وقد اختفى النبی الأکرم (صلى الله علیه وآله) فی غار ثور أثناء هجرته من مکّة إلى المدینة وسلک الأودیة والبوادی، وسار لیلا واختفى نهاراً لئلاّ یعثر علیه العدو وتتعرّض حیاته المبارکة للخطر، هذه کلّها کانت تقیة ولا معصیة فی ذلک کلّه، کما إنّه لم یصدر منه (صلى الله علیه وآله) ما یخالف الحقّ.

وبهذا نکون قد وصلنا إلى خاتمة مبحث عصمة الأنبیاء (علیهم السلام).

1. راجع (آل عمران / 28) و (النحل / 106).
2. وسائل الشیعة، ج 11، ح 6، من الباب 24 من أبواب الأمر بالمعروف ص 461.