تقـرأ فی قصّة نوح(علیه السلام): أنّـه حینما بدأ الطوفان بسبب الأمطـار الغزیرة المنهمرة من السماء، والمیاه المتدفّقة من باطن الأرض، لم تمض مدّة طویلة حتّى أحاط الماء بکلّ مکان، وأنّ نوحاً وأصحابه رکبوا السفینة، وتعرّض إبنه للغرق لتمرّده على أمر أبیه، وعدم إیمانه الذی یعدّ شرطاً لرکوب السفینة، فنظر نوح إلى السماء وقال: (رَبِّ إِنَّ ابْنِی مِنْ أَهْلِی وَإِنَّ وَعْدَکَ الْحَقُّ). (هود / 45)
أی قد وعدتنی بإنقاذ أهلی، فعاتب الله سبحانه نوح على الفور بخطاب قال فیه: (إِنَّهُ لَیْسَ مِنْ أَهلِکَ). (هود / 46)
فَلِمَ تطلب ما لیس لک به علم؟! فاعتذر نوح وقال: (قَالَ رَبِّ إِنِّى أَعُوذُ بِکَ أَنْ أَسْأَلَکَ مَا لَیْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أَکُنْ مِنَ الْخَاسِرِینَ). (هود / 47)
فی هذه الآیة یعتذر نوح(علیه السلام) عن طلبه ما لیس له به علم، ویطلب من الله تعالى العفو والرحمة والمغفرة، کما ویقول أیضاً: إن لم تغفر لی وترحمنی أکن من الخاسرین.
السؤال هو: کیف تتلاءم هذه المواضیع الثلاثة ومقام عصمة الأنبیاء؟
الجواب: یجب أوّلا التدقیق فی نوع الخطأ الذی ارتکبه نوح؟ هل کان ذنباً، أم تصرّفاً فی حدّ ترک الأولى؟ طبعاً کان الله تعالى قد حذّر نوحاً من مغبّة الشفاعة للظالمین (المشرکین) لأنّهم مغرقون، قال تعالى: (وَلاَ تُخَاطِبْنِى فِى الَّذِینَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ). (هود / 37)
ولکن هل أنّ نوحاً کان یعلم بأنّ ابنه من زمرة الکفّار؟، إذ من الممکن وکما احتمله بعض المفسّرین أنّ الولد کان یخفی حاله عن أبیه، وما أکثر اُولئک الأبناء الـذین نسمع عنهم أو نراهم یتظاهرون أمام آبائهم بالصلاح، فی حین ینتهجون نهجاً آخر فی غیابهم.
مضافاً إلى ذلک، وطبقاً للآیة (قُلْنَا احْمِلْ فِیهَا مِنْ کُلّ زَوْجَیْنِ اثْنَیْنِ وَأَهْلَکَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَیْهِ الْقَوْلُ)(1). (هود / 40)
فقد کان نوح یتصوّر أنّ إبنه سیکون من أهل النجاة، إعتماداً على الوعد الإلهی، ولذا طلب من الله تعالى ذلک فی الآیات مورد البحث: (وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِى مِنْ أَهْلِى وَإِنَّ وَعْدَکَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْکَمُ الْحَاکِمِینَ). (هود/45)
فی هذه الحادثة لا نشاهد أی مصداق للذنب والمعصیة من نوح سوى ترک الأولى، إذ کان ینبغی علیه أن یتحقّق أکثر فی حال ولده قبل أن یطلب من الله تعالى نجاته، کما أنّ تعبیر نوح بالنسبة لولده حین ناداه وقال له: (یَ بُنَىَّ ارْکَبْ مَعَنَ وَلاَ تَکُنْ مَعَ الْکَافِرِینَ)(هود/42) ولم یقل (من الکافرین) قرینة على أنّ نوحاً لم یکن یعتبر ولده من الکافرین بل معهم.
کما قال البعض أیضاً: إنّ نوحاً کان یعلم بکفر إبنه، لکن حبّه الشدید له (بالإضافة إلى حالة الإضطراب التی أحاطت به عند حدوث الطوفان، والتی کانت تفوق العادة) کان السبب وراء تجاهل نوح لوضع إبنه ولو مؤقتاً للجوء إلى الله تعالى لإنقاذه، لکنّه انتبه بعد الإنذار الإلهی واعتذر لترکه الأولى.