تعتبر سورة «هل اتى» سنداً آخر من الأَسانید المهمّة لفضیلة علی(علیه السلام) وآل النبیّ(صلى الله علیه وآله)، وأنّ التمعن فی مضمون هذه السورة وعباراتها، وکذا شأن النزول الذی ذُکر لها یزیل الغموض عن الکثیر من القضایا.

صحیح أنّ آیات هذه السورة تعرض بحثاً عاماً، إلاّ أنّ سبعة عشر آیة منها التی تبدء من الآیة 5: (إِنَّ الاَبرَارَ یَشرَبُونَ مِنْ کَأْس کانَ مِزاجُها کَافُورًا) وتستمر حتّى الآیة 22 ، تتحدث عن نفر على أنّهم «ابرار»، بَیدَ أنّ شأن النزول والروایات العدیدة التی وردت فی المصادر الإسلامیة المعروفة، تکشف أنّ أتم وأکمل مصداق للأبرار فی هذه الآیة هم : علی، وفاطمة، والحسن، والحسین (علیهم السلام).

والجدیر بالاهتمام أنّ فی هذه الآیات السبعة عشر ذکرت أنواع نعم الجنّة، وأفضلها واسماها ـ سواءً المعنویة أو المادیة ـ إذ أنّها تتحدث عن بساتین الجنّة، وعیون ماء الجنّة الطاهر، والملابس، والزینة، والطعام، والارائک والأسِرَّة، والوِلدان، وبالتالی النعم العظیمة والملک العظیم، والنعمة الوحیدة التی لم تجرِ الإشارة إلیها فی ما بین هذه النعم هی الأزواج وحور الجنّة حیث یقول بعض العارفین بأسرار القرآن : إنّ هذا الأمر بمثابة الاحترام لسیدة الإسلام فاطمة الزهراء(علیها السلام).

وقلیلاً ما تجتمع نعم الجنّة هذه وفی أقصى درجاتها فی سورة من سور القرآن الکریم، وهذا یبرهن على أنّ المراد من «الأبرار» هنا لیسوا اُناساً عادیین، بل أبرار ومطهرون وفی غایة العظمة والقرب من الله.

وهذا الأمر جدیر بالذکر أیضاً حیث ذکرت علامات لهؤلاء «الأبرار» إذا أنّها تکشف عن منزلتهم، یقول تعالى: (یُوفُونَ بِالنَّذْرِ ویَخَافُونَ یَومًا کَانَ شَرُّهُ مُستَطِیراً * ویُطعِمُونَ الطَّعامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْکِیناً وَیَتِیماً وَاَسِیراً * اِنَّما نُطعِمُکُم لِوَجهِ اللَّهِ لاَ نُرِیدُ مِنکُمْ جَزَاءً وَلاَ شُکُوراً * اِنَّا نَخَافُ مِنْ رَّبِّنا یَوماً عَبُوساً قَمْطَرِیراً). (الإنسان / 7 ـ 10)

أمّا شأن نزول هذه الآیة: فیروی الزمخشری فی تفسیره المعروف «الکشاف» عن ابن عباس: «إنّ الحسن والحسین(علیهما السلام) مرضا فعادهما رسول الله (صلى الله علیه وآله) فی ناس معه، فقالوا : یا أبا الحسن، لو نذرت على ولدک، فنذر علی وفاطمة وفضة إن بَرِئا ممّا بهما : أن یصوموا ثلاثة أیّام فشفیا وما معهم شیء فاستقرض علی (علیه السلام) ثلاثة أصوع شعیر فطحنت فاطمة صاعاً واختبزت خمسة أقراص على عددهم فوضعوها بین أیدیهم لیفطروا فوقف علیهم سائل فقال : «السلام علیکم(1) أهل بیت محمّد» مسکین من مساکین المسلمین، أطعمونی أطعمکم الله من موائد الجنّة، فآثروه وباتوا لم یذوقوا إلاّ الماء، وأصبحوا صیاماً فلما أمسوا ووضعوا الطعام بین أیدیهم وقف علیهم سائل یتیم فآثروه، ووقف علیهم أسیر فی الثالثة، ففعلوا مثل ذلک; فلما أصبحوا أخذ علی (علیه السلام)بید الحسن والحسین وأقبلوا إلى رسول الله(صلى الله علیه وآله) فلما أبصرهم یرتعشون کالفراخ من شدّة الجوع قال: ما أشد ما یسوءنی ما آرى بکم، وقام فانطلق معهم فراى فاطمة فی محرابها قد التصق ظهرها ببطنها وغارت عیناها فساءه ذلک، فنزل جبریل وقال: خذها یا محمد هنأک الله فی أهل بیتک فأقرأه السورة»(2).

ویروی القرطبی هذا المعنى باختلاف قلیل فی تفسیره فی ذیل آیات البحث، وینقل أیضاً شعراً عن السائلین وعن سیدة الإسلام فی هذا المجال(3).

ونقل «الفخر الرازی» أیضاً فی تفسیره نفس هذه القصة عن الواحدی فی کتاب «الوسیط»، والزمخشری فی الکشاف، ولکنه یضیف فی ذیلها: إنّ عبارة «إنّ الأبرار یشربون...» جاءت بصیغة الجمع، وأنّها تشمل الأبرار جمیعاً، ولا یمکن حصرها بشخص

واحد (علی بن أبی طالب (علیه السلام))، وبالطبع لا یمکن انکار أنّ علیاً (علیه السلام) داخل فی عموم هذه الآیات، لکنها لاتختص به.

إلاّ أن یقال : إنّ هذه السورة نزلت أثناء أداء علی (علیه السلام) العبادة خاصة، ولکن ثبت فی اُصول الفقه أنّ المعیار عموم اللفظ، لا خصوصیة السبب(4).

على أنّ الفخر الرازی کأنّه نسی هذ الأمر وهو أنّ شأن النزول یقول : إنّ هذه الآیات نزلت بحق علی، وفاطمة، والحسن، والحسین (علیهم السلام) لا فی علی بن أبی طالب خاصةً لتقع مشکلة صیغة الجمع.

أضف إلى ذلک: أنّ المراد من شأن النزول لیس إلغاء «عمومیة مفهوم الآیة»، بل المراد هو أنّ هذه الآیات نزلت للمرة الاُولى بعد قیام هذه الاُسرة بتلک العبادة والطاعة والایثار، وهذه فضیلة عظیمة ومنحة کبیرة أن تنزل هذه الآیات بعد أداء ذلک العمل.

وبتعبیر آخر: إنّ علیاً (علیه السلام) وأهل بیته المصداق السامی لهذه الآیات، بل یعدّون النموذج الکامل لها، لأنّ علة نزولها هو عملهم الطاهر، ومن أراد انکار هذه الفضیلة العظمى إنّما یخادع نفسه.

وینقل «الآلوسی» أیضاً هذه القصة بکاملها فی «روح المعانی» عن ابن عباس ، ومن ثمّ یضیف : وهذا الخبر مشهور بین القوم .

ثمّ یسعى وعلى دیدنه إلى التقلیل منها أو إضعافها، ومن أجل هذا الغرض یضیف بعد بیانه الاُمور بشأن اسناد هذه الروایة : فاحتمال أصل النزول فی الأمیر «کرم الله وجهه» وفاطمة (رض) قائم ولا جزم بنفی ولا إثبات لتعارض الأخبار ولا یکاد یسلم المرجح عن قیل وقال... إذ دخولهما فی الأبرار أمر جلی بل هو دخول أولى فهما هما وماذا عسى یقول امرؤ فیهما سوى أنّ علیاً مولى المؤمنین ووصی النبی(صلى الله علیه وآله) وفاطمة البضعة الأحمدیة والجزء المحمدی وأمّا الحسنان فالروح والریحان وسیدا شباب الجنان ولیس هذا من

الرفض بشیء بل ما سواه عندی هو الغی(5).

إلاّ أننا نقول : لو تغافلنا عن منقبة بهذه الشهرة فإنّ سائر الفضائل یکون مصیرها هکذا، وسیأتی الیوم الذی ستوضح أفضلیة علی وفاطمة والحسن والحسین(علیهم السلام). فلماذا نتجاهل هذه الروایة المعروفة التی نقلها کبار المحدثین والمفسرین والتی لا معارض لها، ونسد على انفسنا طرق معرفة هؤلاء العظماء؟!

یروی «السیوطی» العالم السنی المعروف فی تفسیر «الدر المنثور» عن ابن مردویه عن ابن عباس: إنّ الآیة (ویطعمون الطعام على حبّه ....) نزلت بحق علی وفاطمة(علیهما السلام).

وأورد «الشبلنجی» أیضاً فی «نور الابصار» قصة شأن النزول بکاملها(6)، وکذلک فریق آخر من کبار المفسّرین والمحدّثین.

1. جاء نذر الحسن والحسین (علیهما السلام) فی روایة الجعفی طبقاً لنقل تفسیر القرطبی (تفسیر القرطبی ، ج10 ، ص6922) .
2. تفسیر الکشاف، ج4، ص 670 (ذیل آیات هذه السورة).
3. تفسیر القرطبی، ج10، ص6922.
4. تفسیر الکبیر، ج3، ص 244.
5. تفسیر روح المعانی، ج29، ص158.
6. نور الابصار، ص 62.