کثیراً ما نصادف فی الروایات الإسلامیة إشارات عن المعجزات التی حصلت فی إطار الولایة التکوینیة ، وتوضیح ذلک أنّ المعجزات لها أقسام وأنواع فبعضها یحصل بدعاء النبی (صلى الله علیه وآله) أو الإمام المعصوم فقط ، وبعضٌ یحصل بطلب الناس منهم وبإذن الله ، وبعضها یحصل عن طریقهم وبفعلهم ، أی أنّ بعض المعجزات یحصل من خلال تصرفهم ومقامهم الروحی والمعنوی وبإذن الله ، بحیث لا یمثل سوى الولایة التکوینیة التی نتحدث عنها الآن .

وهذه الحالات کثیرةٌ للغایة، وفیما یلی نشیر إلى بعض النماذج منه :

1 ـ ورد نموذج ظریف منها فی نهج البلاغة ـ الخطبة القاصعة ـ حیث یقولُ (علیه السلام)«ولقد کنتُ معه (صلى الله علیه وآله) کما أتاه الملأ من قریش فقالوا له : یامحمد إنّک ادّعیت عظیماً لم یدعه أباؤک ولا أحد من بیتک ، ونحن نسألک أمراً إنْ أنت أجبتنا إلیه وأریتناه علمنا أنّک نبیٌ ورسول ، وإن لم تفعل علمنا أنّک ساحرٌ کذاب» .

فقال رسول الله (صلى الله علیه وآله) «وما تسألون» قالو : تدعو لنا هذه الشجرة حتى تنقلع بعروقها وتقف بین یدیک ، فقال (صلى الله علیه وآله) : «إنّ الله على کلّ شیء قدیر ، فإنّ فعل الله لکم ذلک ، أتؤمنون وتشهدون بالحقّ» ؟ قالو : نعم ، قال: «فانی ساُریکم ما تطلبون وإنّی لأعلم أنّکم لا تفیئون إلى خیر ، وإنّ فیکم من یطرحُ فی القلیب ومنْ یحزّبُ الأحزاب»، ثم قال (صلى الله علیه وآله) : «یاأیّتها الشجرة إنْ کنت تؤمنین بالله والیوم الآخر ، وتعلمین أنّی رسول الله فانقلعی بعروقک حتى تقفی بین یدیّ بإذن الله ».

فوالذی بعثه بالحق ( لا نقلعت ) بعروقها وجاءت ولها دویٌ شدید وقصف کقصف أجنحة الطیر حتى وقفت بین یدی رسول الله (صلى الله علیه وآله) مرفرفة ، وألقت بعضها الأعلى على رسول الله (صلى الله علیه وآله) وببعض أغصانها على منکبیه ، وکنت عن یمینه (صلى الله علیه وآله).

فلما نظر القوم إلى ذلک قالوا ـ علواً واستکباراً : فَمُرها فلیأتک نصفها، ویبقى نصفه ، فأمرها بذلک فاقبل إلیه نصفها کأعجب إقبال وأشدّه دویّاً فکادت تلتفّ برسول الله (صلى الله علیه وآله) !

فقالوا ـ کفراً وعتواً ـ : فمرّ هذا النصف فلیرجع إلى نصفه کما کان ، فأمره (صلى الله علیه وآله)فرجعَ ، فقلت أن : «لا إله إلاّ الله، إنّی أول مؤمن بک یارسول الله ، وأول منْ أقرّ بأنّ الشجرة فعلت ما فعلت بأمر الله تعالى تصدیقاً بنبوتک وإجلالاً لکلمتک» .

فقال القوم کلهم : بل ساحرٌ کذاب عجیب السحر ، خفیفٌ فیه ، وهل یصدقک فی أمرک إلاّ مثل هذا «یعنوننی» ؟

«وإنّی لمن قوم لا تأخذهم فی الله لومة لائم ، سیماهم سیما الصدیقین ، وکلامهم کلام الأبرار ، عمارُ اللیل ومنار النهار ، متمسکون بحبل القرآن ، یحیون سنن الله وسنن رسوله ، لا یستکبرون ولا یعلون ، ولا یغلون ولا یفسدون ، قلوبهم فی الجنان وأجسادهم فی العمل» (1).

تأملوا تعابیر هذه الخطبة قلیل ، فإنّها تثبت أنّ هذا الأمر الخارق للعادة حدث بنفوذ وتصرف النبی (صلى الله علیه وآله) فی التکوین ، وعلیه فما ورد فی ذیل هذه العبارة : «إنّ الشجرة فعلت مافعلت بأمر الله تعالى» ، هو أمر الله وإذنه والقدرة التی قد وهبها لنبیه لمثل هذا التصرف ، کما ورد التعبیر بـ «إذن الله» فی بدایة هذه الکلمة .

بناءً على ذلک ، فالتعابیر مثل: مُرْ لیحدث کذا أو کذ ، وکلام رسول الله (صلى الله علیه وآله)أیّتها الشجرة افعلی کذا وکذا، کلها أدلة على ولایة النبی (صلى الله علیه وآله) ونفوذه التکوینی .

2 ـ یروی المرحوم العلاّمة المجلسی فی کتاب بحار الأنوار عن سلمان الفارسی : لما قدم النبی (صلى الله علیه وآله) المدینة تعلق الناس بزمام الناقة ، فقال النبی (صلى الله علیه وآله) : یاقوم دعوا الناقة فهی مأمورة ، فعلى باب من برکت فأنا عنده (وهذا أفضل طریق للخلاص من کل اختلاف وتفرقة) .

فأطلقوا زمامها وهی تهف فی السیر حتى دخلت المدینة، فبرکت على باب أبی أیوب الأنصاری ، ولم یکن فی المدینة أفقر منه ، فانقطعت قلوب الناس حسرةً على مفارقة النبی (صلى الله علیه وآله) ، فنادى أبو أیوب : «یااُمّاه افتحی الباب، فقد قدم سید البشر ، وأکرم ربیعة ومضر ، محمد المصطفى والرسول المجتبى» .

فخرجت وفتحت الباب وکانت عمیاء ، فقالت : «واحسرتاه لیت کانت لی عین أبصر بها وجه سیدی رسول الله (صلى الله علیه وآله) فی المدینة»، وضع (صلى الله علیه وآله) کفه على وجه اُم أبی أیوب فانفتحت عیناها «ربّما یراد فی وضع الید الإشارة بالید ، أو وضع الید فوق قطعة قماش» (2).

3 ـ کما وردت هذه الروایة أیضاً فی الکتب المشهورة لدى الشیعة والسنة وهی لما لم یأت النصر على ید بعض امراء الجیش فی معرکة خیبر ، قال رسول الله (صلى الله علیه وآله) : «سأعطی الرایة غداً إلى رجل یحبُّ الله ورسولهُ ویحبّهُ الله ورسولهُ ، یفتح الله على یدیه ، ثم ارسل على علیّ وکان أرمد ، فحضر فبصق فی عینیه فبرأت ، ثم سلَّمه الرایة وفتح خیبر» (3).

تفید هذه الروایة المشهورة أنّ النبی (صلى الله علیه وآله) ابرء عینی علی (علیه السلام) من خلال ولایته التکوینیة ـ بإذن الله ـ .

4 ـ وجاء فی تاریخ أمیر المؤمنین (علیه السلام) أیضاً «مُد الفرات فی عهد علی (علیه السلام) فأقبل إلیه الناس، فقالو : یا أمیر المؤمنین نحن نخاف الغرق لأنّ فی الفرات قد جاء من الماء مالم یر مثله وقد امتلأت جنبتاه فالله الله ، فرکب أمیر المؤمنین (علیه السلام) والناس معه وحوله یمیناً وشمالاً 0000 حتى انتهى إلى الفرات وهو یزخر بأمواجه، فوقف والناس ینظرون فتکلّم بالعبرانیة کلاماً فنقص الفرات ذراع ، فقال : حسبکم ؟ قالو : زدنا» (4).

فهل هذا الفعل سوى تصرفٌ تکوینی بإذن الله ؟

5 ـ ونقرأ فی تاریخه (علیه السلام) أیضاً أنّه وأثناء مروره قرب الکوفه جاءه قوم من الیهود، وقالو : «أنت علی بن أبی طالب الإمام ؟ فقال : أناذ ، قالو : لنا صخرة مذکورة فی کتبنا علیها اسم ستة من الأنبیاء ، وهو ذا نطلب الصخرة فلا نجدها فإنّ کنت إماماً أوجدنا الصخرة .... فسار القوم خلف أمیر المؤمنین (علیه السلام) إلى أنّ استبطن فیهم البر فاذا بجبل من رمل عظیم فقال (علیه السلام) : أیّتها الریح انسفی الرمل عن الصخرة بحق اسم الله الأعظم فما کان إلاّ ساعة حتى نسفت الرمل وظهرت الصخرة» (5)

وهذا نموذج آخر من النفوذ والتأثیر على عالم التکوین .

وقد وردت نماذج اُخرى فی الکثیر من کتب التاریخ والتفسیر، والحدیث، ومختلف المصادر الإسلامیة للشیعة والسنّة، حیث یحتاج ذکرها کلها إلى تدوین کتاب مستقل .

إنّ هذه الآیات والروایات تؤکّد أنّ أولیاء الله سواء من الأنبیاء أو الأئمّة المعصومین (علیهم السلام)کانوا یتمتعون بقدرة بأمر الله وإذنه، بحیث کانوا یستطیعون التصرف فی عالم التکوین من خلال ما وهبهم الله تعالى من إذن فی حالات معینة ، وهذا ما نُعبر عنه بالولایة التکوینیة .

وبطبیعة الحال ، فإنَّ الولایة التکوینیة لها تفرعات اُخرى أیض ، منها التأثیر فی القلوب المستعدة لقبول الحق عن طریق الألطاف المعنویة والروحیة ، وتربیة وهدایة النفوس المؤهلة من خلال التأثیر الروحی فیه ، حیث تتوفر أمثلة کثیرة لذلک فی التاریخ الإسلامی .

وغالباً ماکان یحصل لکثیر من الأشخاص تحولٌ وتغیرٌ مفاجیءٌ ، بنحو لا ینسجم مع الموازین والمعاییر الطبیعیة ، وذلک بمجرّد وجودهم فی محضر رسول الله (صلى الله علیه وآله)أو الإمام المعصوم (علیه السلام)، وبالتالی یستقیم سلوکهم فی الحیاة على أثره .

إنّ هذا التحول والتغیر المفاجىء والخارق للعادة یحصل أیضاً نتیجة لـ «الولایة التکوینیة» والتاثیر فی النفوس المؤهلة .

1. بحار الأنوار ، ج41 ص237 (مع الاختصار) .
2. نهج البلاغة ، الخطبة 192 (القاصعة ). 3. بحار الأنوار ، ج19 ، ص121 .
4. لقد أورد ابن الأثیر هذه الروایة فی الکامل بالتفصیل (ج2 ، ص219); وکذا ابن هشام فی السیرة النبویة ج3 ، ص349; والعلاّمة المجلسی فی بحار الأنوار ج21 ، ص298 ، ح 30 .
5. بحار الأنوار ، ج 41 ، ص237 (مع الاختصار) .