إنّ القضیة التی یتفق علیها کل المؤرخین الکبار هی : أنّ العرب قبل بدء الرسول (صلى الله علیه وآله)بدعوته کانوا فی أوضاع سیئة للغایة من ناحیة سیطرة المعتقدات الخرافیة ، والانحطاط الأخلاقی ، والاختلافات ، والحروب الداخلیة المستعرة ، والظروف الاقتصادیة السیئة ، ولا تتحرک فی تلک البیئة نسمة من ریاح العلم والمعرفة ، ولا یوجد حتى أثر من الحضارة الشکلیة للبشر ، ولهذا السبب کانوا یعتبرونهم قوما نصف متوحشین ، ویطلقون على عصرهم اسم ( العصر الجاهلی ) .
وللقرآن الکریم تعابیر صریحة وواضحة عن ذلک العصر یمکنها رسم ملامح الأوضاع فی ذلک الزمان بشکل جید ( حتى لو لم یصدّق أحد بأنَّ القرآن الکریم وحی إلهی ، ولکن لا یمکنه انکار حقیقة أن ذکر تلک الصفات لذلک العصر فی القرآن هی دلیل على واقعیته وحقیقته ، وإلاّ یکون منکراً لکل الجوانب ) .
فیقول الله تعالى فی مکان : ( لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤمِنیِنَ اِذْ بَعَثَ فِیهِم رَسُولاً مِّنْ اَنْفُسِهِم یَتلُوا عَلَیهِم آیَاتِهِ وَیُزَکّیِهِمْ وَیُعلِّمُهُمُ الکِتَابَ وَالحِکمَةَ وَاِنْ کَانُوا مِنْ قَبلُ لَفى ضَلاَل مُّبِین) . (آل عمران / 164 )
وعبارة ( ضلال مبین ) فی هذه الآیة وفی أواخر الآیة الثانیة من سورة الجمعة أیض ، هو إشارة معبرة عن الاوضاع فی العصر الجاهلی الذی کانت الضلالة المبینة تسود أرکانه ، وأی ضلالة أوضح وأبین من عبادتهم لأصنام من الحجر والخشب صنعوها بأیدیهم ، والأسوأ من ذلک هو تلک الأوثان التی یعملونها من التمر ویعبدونه ، ثم یأکلونها أیّام القحط والجفاف .
أو یدفنون بناتهم بأیدیهم وهن أحیاء ، وهم یفخرون ویتباهون بعملهم هذا بدعوى أنّهم لا یدعون عرضهم وناموسهم یقع بأیدی الأجانب ، أو یقتلون أبناء خوفاً من الإملاق.
وجاء فی قوله تعالى: ( وَاِذا بُشِّرَ اَحَدُهُم بالاُنثَى ظَلَّ وَجهُهُ مُسوَدّاً وَهُوَ کَظِیمٌ * یَتَوارى مِن القَومِ مِنْ سُوءِ مَابُشِّرَ بِهِ اَیُمسِکُهُ عَلَى هُون اَمْ یَدُسُّهُ فِىِ التُّراَبِ * اَلاَ سَآءَ مَایَحکُمُونَ ) . (النحل / 58 ـ 59)
وأی ضلال أوضح من سیطرة أنواع الخرافات والأوهام علیهم ، أو اعتبارهم الملائکة بنات الله : ( وَجَعَلُوا المَلاَئِکَةَ الَّذِینَ هُمْ عِبادُ الرَّحمَنِ اِنَاثاً ). (الزخرف / 19)
وفی مکان آخر یقول : ( وَیَجعَلُونَ لِلَّهِ البَنَاتِ سُبحَانَهُ ). (النحل / 57)
وهناک آیات اُخرى نظیر ما أشرنا إلیها.
أیّ ضلال أوضح وأبین من أن تسیطر علیهم الحروب وسفک الدماء فی کل أیّام السنة ـ باستثناء الأشهر الحرم ، وتوارث الأحقاد القبلیة من الآباء للأبناء واستمرارها لسنوات وسنوات ، کما یشیر القرآن إلى ذلک بقوله : ( وَاَذکُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَـلَیکُم اِذْ کُنْتُـم اَعـدَاءً فَـاَلَّفَ بَینَ قُـلُوبِکُم فَـاَصبَحْتُـم بِنِعمَتِهِ اِخـوَاناً وَکُنتُم عَلَى شَفَا حُفرَة مِنَ النَّارِ فَاَنقَذَکُم مِّنهَا ). (آل عمران / 103)
أیّ ضلالة أوضح من أن تکون حتى مراسم صلاتهم ودعائهم مضحکة ومقززة ، فحیناً تطوف النساء حول بیت الله الحرام وهن عاریات تماماً ویحتسبن ذلک عبادة ، وحیناً آخر یقیمون صلاتهم مصحوبة بالتصفیق والصفیر : ( وَمَا کَانَ صَلاَتُهُم عِنْدَ البَیتِ اِلاَّ مُکَاءً وَتَصدِیَةً ). (الانفال / 35)
لقد کانت الخرافات والأوهام تخیم على مجتمعهم ، بضروب شتى وکانت کل قبیلة تسعى إلى إبراز نفسها على أنّها أرفع من القبیلة الاُخرى وربّما یؤدّی إلى ظهور الأحقاد
والضغائن والحسد ، وأحیاناً سفک الدماء بین القبائل إلى الحد الذی یدعهم من أجل إثبات کثرة عددهم ـ إلى التوجه صوب القبور لعدّ قبور موتاهم والتفاخر بالعظام النخرة لأجدادهم وهی تحت التراب .
یقول القرآن الکریم : (اَلَهکُمُ التَّکَاثُرُ * حَتَّى زُرتُمُ المَقَابِرَ ). (التکاثر / 1 2)
وما إلى ذلک من أوهام ومفاسد وکوارث اُخرى من هذا القبیل .
إنّ الانحطاط فی تلک البیئة والفقر المعنوی والمادی جَعل تلک المنطقة فی قائمة أکثر مناطق العالم تخلُّف .
ینقل أحد المؤرخین الغربیین عن بعض المؤرخین المعروفین حول بیئة الحجاز فی العصر الجاهلى قائل : عندما دخل ( دیمتریوس ) القائد الیونانی الکبیر ( البتراء ) ـ إحدى مدن الحجاز القدیمة ـ وهو فی طریقه لاحتلال المنطقة العربیة، قال له العرب الساکنون هناک : ( أیّها الملک دیمتریوس ! لماذا تحاربن ؟ إنّنا نعیش فی أرض حصباء تفتقر لأبسط متطلبات الحیاة ، ومحرومة من کل النعم التی یتمتع بها أهالی المدن والقصبات ، لقد اخترنا السکن فی هذه الصحراء القاحلة لأننا لا نرید أن نکون عبیداً لأحد ، ولهذا تقبّل منّا هذه التحف والهدایا التی نقدمها لک وأخرج جیوشک من هنا وعُدْ ... ) .
وانتهز ( دیمتریوس ) رسالة الصلح هذه وقبلَ الهدایا وغض النظر عن هکذا حرب تُخلِّف مشاکل کثیرة(1) .
ومنطقة ( الحجاز ) لم تخضع لسیطرة الفاتحین القدامى على مدى التاریخ وقد حافظت على استقلاله ، والسبب کما یقول المحلّلون : هو عدم استحقاق مثل هذه المنطقة ـالجرداء التی تفتقر لکل شیء ـ هذه الجهود والمشاکل ، وأیضاً افتقار منطقة الحجاز لحضارات البلدان القدیمة مثل ایران وروما والتی تتواجد فی الکثیر من نقاط شبه الجزیرة العربیة .
وبعد أن تعرفنا على حال الجزیرة العربیة لابدّ لنا من النظر إلى حال الإنسان البسیط الذی عاش فی محیطها مهما کانت قوة إرادته وقوة تفکیره ( لاسیما إذا لم یکن قد تلقّى أی نوع من التعلیم ) .
هل أنّ الذی تربى فی محیط موبوء بالجهل والفساد یمکنه أن یکون مؤسسة للعلم والمعرفة والفضائل الأخلاقیة ؟
و هل سمعتم بأنّ علماء عظماء وفلاسفة نوابغ نهضوا من بین قبائل جاهلیة نصف متوحشة ؟
إذا نبتت ورود جمیلة وحشائش طریة فی ارض خصبة ومهیأة فلا عجب فی ذلک، بل العجب عندما تنبت وردة جمیلة فی ارض سبخة .
وعلى أیة حال یمکن أن تکون هذه المسألة بمفردها غیر کافیة فی إثبات أحقیة الرسول الأکرم (صلى الله علیه وآله) ، ولکنها بدون شک تعتبر واحدة من القرائن التی متى ما ألحقناها بالقرائن الاُخرى شکلت برهاناً قویاً ومبین .
نختم هذا الحدیث بقول أمیر المؤمنین علی (علیه السلام) الذی أدرک العصرین ، عصر الإسلام والجاهلیة ـ وهو یرسم لنا العصر الجاهلی : « أرسله على حین فترة من الرسل ، وطول هجعة من الاُمم ، واعتزام من الفتن، وانتشار من الاُمور ، وتلظ (تلظى) من الحروب ، والدنیا کاسفة النور ، ظاهرة الغرور ، على حین اصفرار من ورقه ، وإیاس من ثمره ، واغورار من مائه ، قد درست منار الهدى وظهرت اعلام الردى ، فهی متجهمة لأهله ، عابسة فی وجه طالبه ، ثمرها الفتنة ، وطعامها الجیفة ، وشعارها الخوف ودثارها السیف »(2) .
وفی مکان آخر نقرأ له (علیه السلام) : « إنّ الله بعث محمداً صلى الله علیه وآله وسلم نذیراً للعالمین ، وأمیناً على التنزیل ، وأنتم معشر العرب على شر دین وفی شر دار ، منیخون بین حجارة خُشن وحیات صُم تشربون الکدر ، وتأکلون الجشب ، وتسفکون دماءکم ، وتقطعون أرحامکم ، الأصنام فیکم منصوبة ، والآثام بکم معصوبة »(3) .
وخلاصة القول هی : إنّ البحث فی القرآن الکریم والروایات الإسلامیة ومجموع التواریخ التی کتبت فی الشرق والغرب حول العصر الجاهلی ، تدلل على أنّها متفقة جمیعاً على أن البیئة التی ظهر فیها نبی الإسلام (صلى الله علیه وآله) هی من أحط البیئات وأکثرها تأخر ، بیئة لا تنسجم أبداً مع ظهور هکذا دین وتعالیم متطورة فی الأصعدة کافة .