1 ـ الاعجاز القرآنی فی الفصاحة والبلاغة

SiteTitle

صفحه کاربران ویژه - خروج
ورود کاربران ورود کاربران

LoginToSite

SecurityWord:

Username:

Password:

LoginComment LoginComment2 LoginComment3 .
SortBy
 
نفحات القرآن (الجزء الثامن)
تمهید :مقتطفات من الأمثلة الاعجازیة للقرآن:

یقول علماء المعانی فی تعریف البلاغة والفصاحة : إنّ الفصاحة تستعمل تارة لوصف الکلمة ، وتارة اُخرى لوصف الکلام وهی : عبارة عن خلو الکلام من الحروف والکلمات الثقیلة غیر المحببة ذات الایقاع الردیء غیر المتجانس من العبارات الرکیکة والضعیفة والمنفرة والوحشیة والمعقدة والمبهمة .

وأمّا البلاغة فهی عبارة عن تناسب الکلام مع مقتضى الحال والانسجام التام مع الغایة المتوخاة من الکلام .

وبعبارة اُخرى : الفصاحة ناظرة إلى کیفیة الألفاظ والبلاغة ناظرة إلى کیفیة المعنى والمحتوى ، أو بعبارة ثانیة : الفصاحة تقتصر على الجوانب الشکلیة والظاهریة للکلام والبلاغة تقتصر على الجوانب المعنویة والجوهریة .

ومما لا شک فیه أنّ هذین الأمرین ینطویان على جانب ذوقی واستحسانی فضلاً عن الجانب العلمی والقانونی ، ولکن هذا الجانب الفنی والذوقی نفسه یتفتح ویکتمل ویتسق فی ظل التعلیم والتربیة والاعتماد على القواعد التی تستقى غالباً من کلمات الفصحاء والبلغاء . نظیر الحس الشعری أو القابلیة على الخط اللذین یتکاملان بالتعلیم والممارسة والاستعانة بالمعلم .

وعلى کل حال یعتقد بعضهم أنّ اعجاز القرآن والدعوة إلى التحدی التی وردت فی آیات مختلفة مستندة إلى هذا المعنى نفسه ، ویمکن الاستدلال على ذلک بالاُمور التالیة :

1 ـ إنّ ما اشتهر به العرب فی ذلک العصر والزمان هوفن الفصاحة والبلاغة، بحیث بلغت أشعار الجاهلیة أوج فصاحته ، وکان أحد أهم برامجهم هو قراءة أجمل قصائد تلک السنة خلال التجمع الاقتصادی الذی یعقد فی (سوق عکاظ) بالقرب من الطائف فی کل عام .

وعندما یقع اختیارهم على أفضل هذه القصائد یعلقونها على جدار الکعبة بصفتها أثراً أدبیاً قیّم ، ومع مرور السنین علقت سبع قصائد عرفت فیما بعد باسم (المعلقات السبع) .

وعلى هذا الأساس إذا أراد القرآن أن یدعوهم إلى التحدی والمعارضة فیلزم أن یکون فی هذا المجال .

2 ـ ولعل الاتهام الذی کان یوجهه المشرکون العرب إلى القرآن بکونه سحراً وإلى النبی بکونه ساحراً یعود إلى التأثیر السحری للقرآن، حیث اشتمل ، على روعة الکلام والفصاحة .

3 ـ نقرأ فی الحدیث الوارد عن الإمام علی بن موسى الرض (علیه السلام) فی صدد انسجام معجزات الأنبیاء مع العلوم والفنون المتطورة فی أعصارهم : «إنّ الله تعالى لما بعث موسى (علیه السلام) کان الغالب على أهل عصره السحر فأتاهم من عند الله تعالى بما لم یکن فی وسعهم مثله وما أبطل به سحرهم وأثبت به الحجّة علیهم وأنّ الله تعالى بعث عیسى (علیه السلام)فی وقت قد ظهرت فیه الزمانات (الآفات) واحتاج الناس إلى الطب فأتاهم من عند الله بما لم یکن عندهم مثله وبما أحیى لهم الموتى وأبرء الأکمه والأبرص باذن الله ، وأثبت به الحجّة علیهم وأنّ الله تبارک وتعالى بعث محمد (صلى الله علیه وآله) فی وقت کان الغالب على أهل عصره الخطب والکلام (وأظنه قال : الشعر) فأتاهم من الله عزّ وجلّ بخطبه ومواعظه وأحکامه ما أبطل به قولهم ، وأثبت به الحجة علیهم»(1) .

إنَّ جمیع هذه القرائن تدل على أنّ الاعجاز القرآنی کان ولا یزال متکئاً على جانب الفصاحة والبلاغة إلاّ أنّ واقع الأمر هو أنّ الاعجاز فی الفصاحة والبلاغة کان مورد اهتمام عمیق وإن لم ینحصر به . خصوصاً أنّ الجوانب الاُخرى من الاعجاز القرآنی واضحة جلیة .

وللحصول على معلومات کافیة حول اعجاز القرآن فلابد من الالتفات إلى النقاط التالیة :

1 ـ تقدمت الإشارة إلى أنّ عرب الجاهلیة کانوا على جانب کبیر من الفصاحة والبلاغة بحیث إنّ القصائد المتبقیة من ذلک العصر ومن جملتها (المعلقات السبع) مازالت تعرف بالقصائد المنتخبة لدى العرب .

إلاّ أننا نعلم بانّهم جمعوا قصائدهم کلها بعد نزول القرآن وانحنوا إجلالا أمام الفصاحة القرآنیة المنقطعة النظیر ، وبالرغم من امتلاکهم کل الدوافع والحوافز الذاتیة لمعارضة القرآن ومنازلته إلاّ أنّهم أخفقوا فی ابداء شیء م .

ولقد اطلعنا على نماذج حیة واضحة من تأثیر القرآن فی هذا المجال فی البحث السابق لجاذبیة القرآن .

2 ـ یقف ثلة من الذین تعرضت مصالحهم اللامشروعة للخطر بوجه رجال الحق دائماً وعلى طول التاریخ ، لیوجهوا إلیهم التهم والافتراءات ، وبالرغم من کونها کاذبة إلاّ أنّها تحکی عن بعض الحقائق الموجودة فی تلک البیئة .

فعلى سبیل المثال ، من ضمن الافتراءات والتهم التی وجهت إلى نبی الإسلام (صلى الله علیه وآله) هی مسألة السحر والساحریة ، التی کانت تستخدم ضمن نطاق واسع .

ویقول القرآن فی الآیات (24) و (25) من سورة المدثر على لسان الولید کبیر المشرکین : (فَقَالَ اِنْ هَذَا اِلاَّ سِحْرٌ یُؤثَرُ* اِنْ هَذَا اِلاَّ قَولُ البَشَرِ) (2)، فالسبب الرئیس وراء هذه النسبة المفتعلة للنبی (صلى الله علیه وآله) هو النفوذ العجیب والخارق للآیات القرآنیة التی استحوذت على القلوب من خلال فصاحتها وبلاغتها العجیبة ; بحیث لا یمکن أن یعتبروا هذا النفوذ أمراً عادیاً ولذلک لم یجدوا لفظة مناسبة ینسبونها له سوى لفظة (السحر) ، التی تعنی فی اللغة کل عمل خارق للعادة ومجهول المنش ، فأولئک وإن أرادوا بهذه النسبة أن یسدلوا الستار على هذه الحقیقة الناصعة وینکروا الاعجاز الإلهی ، إلاّ أنّهم اعترفوا بحدیثهم هذا بدون وعی منهم بعظمة القرآن وجاذبیته السحریة .

3 ـ إنَّ من یتتبع آثار المؤلفین والاُدباء یجد أنّهم عادة ینقسمون إلى فئتین مختلفتین : فئة تعلق اهتماماً کبیراً على الجانب الفنی للألفاظ ، وتجعل المعانی فی بعض الأحیان ضحیة للألفاظ . وبعکس ذلک فئة لا تولی اهتماماً کبیراً للألفاظ وإنّما تستخدم کامل قدرتها ونبوغها فی النظر إلى عمق المعانی ولهذا السبب قسّم کتّاب تاریخنا الادبی والآثار القدیمة للشعراء الکبار ، إلى اُسلوبین مختلفین ، الاُسلوب العراقی والاُسلوب الهندی .

الشعراء الکبار الذین نظموا قصائدهم على النحو الأول ، استخدموا قابلیاتهم الفنیة فی مجال التفنن بروعة الألفاظ وحسنها فی حین أنّ اتباع النحو الثانی وجهوا اهتمامهم فی الغالب إلى دقائق المعانی والملابسات المحیطة به .

ومما لایقبل الانکار أنّ الذین أبدوا اهتمامهم بکلا الأمرین وخلفوا وراءهم آثاراً طیبة ، هم نزر یسیر ، إلاّ أنّ الحدیث عن مدى نجاحهم فی هذا المضمار حدیث ذو شجون .

والدلیل على هذا الکلام واضح ، لأنّ الألفاظ الجمیلة العذبة لا تتحکم فی واقع المعانی المطلوبة ، ولا تعکس حقائقها الدقیقة فیه ، ولهذا غالباً مایقف الشاعر والمتکلم على مفترق طریقین : جمالیة اللفظ وجمالیة المعنى ، ومن ثَمَّ یضطر إلى اختیار أحدهم ، ولذلک فی کثیر من النثر والنظم تذهب المعانی ضحیة للسجع والقافیة .

غیر أنّ الذین اطلعوا على آداب العرب وتعرفوا على حقائق القرآن یفهمون جیداً أنّ هذا الکتاب الإلهی العظیم حافظ على الامتیاز المهم وهو الاعجاز، فألفاظه فی منتهى العذوبة والحلاوة ، والجمل المحبوکة فی غایة الدقة والجمال . والکلمات فیه ذات ایقاع ووزن عذب ، والمعانی قد اُعطی حقها بکل خصائصها ودقته ، وهذه هی احدى أبعاد اعجاز القرآن فی الفصاحة والبلاغة .

إنّ القرآن لا یتکلف بأداء المعانی ویبین مراده بوضوح وفی الوقت نفسه یضفی على المعانی ألفاظاً عذبة وفی منتهى الجمال .

4 ـ اشتهر الشعراء والخطباء بهذه الصفة : وهی أنّهم غالباً مایبالغون إلى حد الکذب فی أحادیثهم من أجل التوصل إلى حلاوة البیان وطراوته ; وعلى سبیل المثال یجعلون الطبقات السبع للأرض ست ، والطبقات السبع للسماء ثمانی . لتصاعد غبار حوافر خیل العسکر ، فی الصحراء أو وضع تسعة مقاعد من الفلک تحت قدمیه لیصل إلى طول رکاب (قزل ارسلان) ، أو یجعلون من القلب بحر ، ومن الدم ومن دمع العین نهر (جیحون) حتى قالو :

لا تراوغ فی الشعر وفی فنه *** لأن أکذبه هو أحسنه

وعلى هذا الأساس فإنّ اعذب الشعر أکذبه ویشیر التعبیر القرآنی فی صدد الشعراء إلى أنّهم غالباً مایستغرقون فی تخیلاتهم وتشبیهاتهم الشعریة : (اَلَم تَرَ أَنَّهُم فِی کُلِّ وَاد یَهِیمُونَ). (الشعراء / 225)

غیر أننا حینما نقرأ جمیع آیات القرآن فلا نرى فیها أی نوع من المبالغة الکاذبة ، بالرغم من وجود کل الدقّة والجمال فی الالفاظ والمعانی والتی تشترک فی تبیین الحقائق .

ولهذا السبب نشاهد أنّ القرآن یبرىء ساحة نبی الإسلام (صلى الله علیه وآله) من تهمة الشاعریة ، وساحته أیضاً من تهمة الشعر (3) .

نعم على الرغم من خلو القرآن من التخیلات الشاعریة والمبالغات والاستغراقات البعیدة عن الحقیقة الشعریة ، والتشبیهات والاستعارات الوهمیة ، فلایحتوی إلاّ على بیان الحقائق بصورة واقعیة وقطعیة ، بالرغم من کل ذلک نجده فی عین الوقت فی منتهى العذوبة والجاذبیة بحیث استقطب البعیدین عن الإسلام بل حتى المخالفین للنبی (صلى الله علیه وآله) وذکرنا أمثلة لذلک فی البحث السابق عن جاذبیة القرآن .

ومن الجدیر بالذکر أنّ ما نقله التاریخ من أن کثیراً من الشعراء العرب عندما اصطدموا بفصاحة القرآن ، ارتضوا الإسلام طوع أنفسهم ، ومن جملة الشعراء الذین أسلموا تحت تأثیر جاذبیة القرآن هو (لبید) الذی کان له فی زمن الجاهلیة احدى المعلقات السبع (وهی سبع قصائد شعریة معروفة ومتمیزة انتخبت وعلقت على جدار الکعبة) .

وکذلک حسان بن ثابت وهو من الشعراء الأثریاء فقد أسلم تحت تأثیر جاذبیة القرآن.

ومن الشعراء الذین دخلوا إلى الإسلام طواعیة واستفادوا کثیراً من جاذبیة القرآن هم: (الخنساء) الشاعرة والناقدة العربیة، و(الاعشى) الذی کان من نوادر الشعراء فی عصر الجاهلیة.

5 ـ من الظواهر الاُخرى للفصاحة والبلاغة القرآنیة هو الایقاع الخاص الموجود فی القرآن نفسه .إنّ أحادیث الاُدباء عادة إما أنْ تکون شعراً أو نثر ، أمّا القرآن فلیس شعراً ولا نثراً عادیاً ومعروف ، وإنّما هو نثر ذو ایقاع خاص به ، نثر حینما یتلوه قرّاء القرآن یقع غالباً فی قالب موزون کامل .وإذا کان لا یمکن استعمال کلمة (الموسیقى) فیما یخص القرآن لأنّه یمتزج فی عُرفنا بالمفاهیم السلبیة . إلاّ أنّ بعض الکتاب العرب المعروفین نظیر (مصطفى الرافعی) . یقول فی کتابه (اعجاز القرآن) : «الاُسلوب القرآنی یسبب ویوجد الحاناً تلفت اسماع کل مستمع إلیه ، وهی نوع من الموسیقى الخاصة التی لم تکن فی الکلام الموزون فی ذلک الزمان وهذا الترتیب والنظم کان یلطف طباع العرب ویعرفهم اُسلوباً جدیداً فی الکلام لم یکن موجوداً سابقاً» .ویقول (بولاتیتلر) أحد العلماء الغربیین فی هذا المضمار : «من الخطأ أن نفکر بأنّ الفصاحة الإنسانیة تستطیع أن تؤثر بمثل ما یؤثر القرآن لأنّه دائماً یسیر باطراد إلى الرفعة بدون أن یرى فیه أی ضعف وفتور ، وکل یوم یفتح لنا قمماً جدیدة ، نعم إنّه معجزة یتضاءل أمامها اُناس الأرض وملائکة السماء»(4) .ویضیف إلى ذلک عالم آخر اسمه (کنت هنری دی کستری) قوله : «إذا لم تکن فی القرآن غیر عظمة المعانی وجمال المبانی لکان کافیاً لأن یتسلط على کل العقول ویجذب جمیع القلوب إلیه» (5) .6 ـ ومن الاُمور المهمّة أیض : إنّ أیَّ حدیث یبعث الملل والسأم مع التکرار عادةً ، إل القرآن فإنّه فی منتهى الروعة بحیث لو قرىء مئات المرات لاحتفظ بجاذبیته ورونقه ، الأمر الذی یدرکه عشاق القرآن وغیرهم بوضوح .

وهذا ما نقرأه جلیاً فی الحدیث المشهور عن الإمام علی بن موسى الرض (علیه السلام) والذی جاء فیه بأنّ رجلاً سأل الإمام الصادق (علیه السلام) «ما بال القرآن لا یزداد على النشر والدرس إلاّ غضاضة ، فقال : لأنّ الله تبارک وتعالى لم یجعله لزمان دون زمان ولا لناس دون ناس فهو فی کل زمان جدید وعند کل قوم غض إلى یوم القیامة »(6) .

ویقول علی (علیه السلام) فی جملة مختصرة وبلیغة أیض : « لا تُخلقُه کَثرة الرَدّ وَولوج السمعِ »(7) .

7 ـ ومن دقائق الفصاحة والبلاغة فی القرآن هو تجنب کثرة الألفاظ ومراعاة الاختصار ، مع ما یؤدیه من وضوح المعنى وبیان تمامیة المقصود ، وهو ما یسمى اصطلاحاً بترک « الایجاز المخل » و « الاطناب الممل » .

وقد تمت مراعاة ذلک فی آیات القرآن على أحسن وجه ، فنجد أحیاناً آیة واحدة من القرآن تبین معالم قصة طویلة بحیث إنّ کل جملة منها تتکلم عن مجال واسع من هذه القصة ، ونقف على هذا فی أمثلة کثیرة من القرآن ، ومنها الآیة المشهورة التی تقول : (وَقِیلَ یَا اَرْضُ ابْلَعِى مَاءَکِ وَیَا سَمَاءُ أَقْلِعِى وَغِیضَ المَاءُ وَقُضِىَ الاَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الجُودِىِّ وَقِیلَ بُعْدَاً لِّلقُومِ الظَّالِمِینَ ). (هود/ 44)

نعم هذه هی الآیة نفسها التی جثى لها الأدیب العربی المعروف ( ابن المقفع ) على رکبتیه عندما قصد القیام بمعارضة أحد أرباع القرآن حسب الاتفاق الذی عقده مع أصحابه ، وحینما وصل إلى هذه الآیة أعرض عن ذلک وأقرّ فی نفسه بالضعف والعجز الکامل .

ذلک لأنّها تروی قصة طوفان نوح (علیه السلام) باختصار بارع بکل تفاصیلها ونتائجه ، وبعبارات قصیرة وغنیة بالمعانی ، وحسب قول أحد المحققین إنّها تشتمل على 23 نکتة من النکات الأدبیة ، من قبیل : ( الإستعارة ، الطباق ، مجاز الحذف ، الإشارة ، الموازنة ، الجناس ، التسهیم أو الإرسال ، التقسیم ، التمثیل ، الارداف و ... ) (8) .

8 ـ احدى خصائص القرآن من الناحیة الادبیة ، هی الصراحة القاطعة بما یقل نظیره ، اضافة إلى اللطافة والدقّة فی العبارات .

ومن المعلوم أنّ کل إنسان یستمتع بالنبرة الصریحة لأحد الفصحاء ، ذلک لأنّه یبیّن الحقائق بصدق وأمانة وبدون أی تشویه أو تشویش ، ولیس هناک لذة تفوق لذة درک الحقائق .

إنّ التشدق والتحدث بأشکال متعددة ، یدل بوضوح ( إلاّ فی الموارد الاستثنائیة ) على عدم إیمان المتکلم بأقواله ، أو على مخاوفه واحتراسه من حکم المستمعین له ، وفی کلتا الحالتین یحکی ذلک عن ضعف وعجز المتکلم .

وتقترن الصراحة والصدق القاطع بالخشونة فی أغلب الأحیان والمهم فی الأمر أنّ على المتکلم فی الوقت الذی یکون صریحاً فیه أن یهتم بلطافة البیان أیض ، ونشاهد ذلک فی آیات القرآن بشکل واضح .

ومن أهم الجبهات القتالیة للإسلام هی جبهة التوحید والشرک ، وقد استفاد القرآن من أعلى مراتب الصراحة والقاطعیة فی هذا المجال فتارة یقول : ( اِنَّ الّذینَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ یَخْلُقُوا ذُبَابَاً وَلَوِ اِجْتَمَعُوا لَهُ وَاِنْ یَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَیْئاً لاَّ یَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطلُوبُ ). (الحج / 73 )

وتارة اُخرى یقول رداً على عبدة الأوثان الذین احتموا بذریعة اتباع عقائد آبائهم وأشرافهم هروباً من المنطق الصاعق للقرآن : ( بَلْ نَتَّبِعُ مَا اَلْفَیْنَا عَلَیهِ آبَاءَنَا اَوَلَوْ کَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ یَعْقِلُونَ شَیْئاً وَلا یَهْتَدُونَ ). (البقرة / 170 )

وفی موضع آخر یصعد من حدة قاطعیته فی مقابل التوسل بآداب وتقالید الأجداد بقوله على لسان إبراهیم (علیه السلام): ( لَقَدْ کُنْتُم اَنْتُم وَآبَاؤُکُم فی ضَلاَل مُّبِینْ ). (الأنبیاء / 54)

ویقول فی صدد الإیمان بنبی الإسلام (صلى الله علیه وآله) : ( فَلاَ وَرَبِّکَ لاَ یُؤْمِنُونَ حَتَّى یُحَکِّمُوکَ فِیَما شَجَرَ بَیْنَهُم ثُمَّ لاَ یَجِدُوا فی اَنْفُسِهِم حَرَجاً مِّمَّا قَضَیْتَ وَیُسَلِّمُوا تَسْلِیَم ). (النساء / 65 )

وعلى هذا الأساس یعتبر الشرط الأساسی للإیمان الصادق التسلیم ظاهراً وباطناً وسراً وعلانیةً ، إضافة إلى ایجاد الانسجام بین الرغبات الذاتیة والأوامر النبویة الشریفة ، وبالرغم من کل هذه الصراحة والقاطعیة نشهد اللطافة والدقة فی العبارات بصورة کاملة أیض .

ونلاحظ هذه الحدیة أیضاً بشکل واضح فی المباحث الاُخرى ، ذات العلاقة بالمبدأ أو المعاد ، والقوانین الاجتماعیة ، أو المسائل المتعلقة بالحرب والصلح ، أو البحوث الأخلاقیة ، والتی یتطلب شرح کل واحدة منها کتاباً مستقل .

9 ـ المتانة والنزاهة فی البیان : الأشخاص الاُمیون لا یعبأون بعباراتهم عادة وغالباً ما یستعینون بالجمل البعیدة عن الأدب والذوق من أجل التوصل إلى أداء مقاصدهم من الکلمات ، وبالرغم من أنّ القرآن ظهر فی أوساط هذه الفئة من الناس ، إلاّ أنّه لم یتأثر بتلک البیئة على الاطلاق ، وحرص على مراعاة منتهى المتانة والعفة فی تعبیراته وهو ممّا أضفى على فصاحة القرآن وبلاغته طابعاً خاص .

وحینما یتصدى الخطباء والکُتّاب الکبار لحوادث العشق أو مسائل اُخرى مشابهة ، فهم یضطرون لأن یطلقوا العنان لألسنتهم وأقلامهم کیفما شاؤا فیطرحون ألواناً کثیرة ومختلفة من التعابیرالمهیجة والمؤذیة لرسم معالم الصورة الواقعیة للأبطال الحقیقیین فی القصة ، وإمّا أن یسدلوا ستار الغموض والإبهام على جانب من هذه الوقائع ـ مراعاةً للعفة والذوق العام ـ ویتحدثوا مع رقبائهم بشکل مغلق .

والجمع بین هذین الأمرین : أی رسم معالم الواقع بصورة کاملة ، وعدم تلوث القلم واللسان بکل ما یخدش العفة والآداب ، یعتبر أمراً فی منتهى الصعوبة لا یؤدیه إلاّ القلیل .

فکیف یمکن أن نتصور شخصاً اُمیّاً ظهر فی مجتمع متخلف متوحش یحدد المعالم الدقیقة کاملة للأوضاع القائمة ، ثم لا نجد فی تعابیره أدنى معنى یخدش العفة والآداب ; وعلى سبیل المثال حینما یبدأ القرآن فی وصف الوقائع الحساسة لقصة یوسف الواقعیة وماشتملت علیه من معانی الحب والغرام الذی اشتعل فی قلب تلک المرأة الجمیلة المتهورة نجده یستفید من جمیع اُصول الأخلاق والعفاف من دون أی تمویه وتعتیم على الحقائق ، أو إجمال الحوادث فی جو من الابهام والغموض، إنّه لا یدع أی شاردة وواردة فی الحدیث إلاّ وذکرها ولکنه لا یتطرق إلى أدنى انحراف عن اصول العفة فی البیان ، فعلى سبیل المثال یقول فی صدد شرح قصة اختلاء زلیخا بیوسف(علیه السلام) : ( وَرَاوَدَتْهُ الَّتِى هُوَ فِى بَیْتِهَا عَنْ نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الاَبْوابَ وَقَالَتْ هَیْتَ لَکَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ اِنَّهُ رَبِّى اَحْسَنَ مَثْوَاىَ اِنِّهُ لاَ یُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ). (یوسف / 23)

ومن الجدیر بالذکر استعمال القرآن لکلمة « راود » التی تستفاد فی مورد الالحاح فی الطلب من إنسان ما بشیء من الهدوء والمرونة ، وهی تنسجم تماماً مع أداء المعنى المقصود هذا من جهة ، ومن جهة ثانیة ، لا یذکر اسم زلیخا ولا زوجها عزیز مصر بل یقول : ( الَّتی هُو فی بَیْتِه ) من أجل أن یبیّن مروءة یوسف وعدم خیانته لمولاه ، کما یبین فی الوقت ذاته تقواه ، ومقاومته لمن یعیش فی کنفه وتحت إمرته .

ومن جهة ثالثة تشیر جملة ( غَلَّقَتِ الاَبْوَابَ ) التی تفید معنى المبالغة بحکم مصدر باب التفعیل إلى مدى صعوبة الموقف وتلاطم الاحداث التی مرت بها هذه الواقعة .

ومن جهة رابعة توضح جملة ( قَالَتْ هَیْتَ لَکَ ) ذلک الحدیث الأخیر لزلیخا الذی قالته لبلوغ وصال یوسف ، إلاّ أننا نلاحظ هنا مدى رزانته وقوة سبکه المصحوبة بنزاهة البیان وسمو المعنى .

ومن جهة خامسة یشیر کلام یوسف: ( مَعَاذَ اللَّهِ اِنَّهُ رَبِّى اَحْسَنَ مَثْوَاىَ ) راداً على زلیخا مندداً بها وبصرامة، بمعنى اننی لا أقوم بخیانة صاحب البیت الذی أنعم علیَّ وقاسمته هموم العیش ، بالرغم من الأیّام القلیلة لتی قضیتها فی هذا البیت فما بالک أنت وقد قضیت هنا عمراً طویل .

وتوضح الآیات اللاحقة التی یطول شرحها هذه القصة بشکل رائع ، ومن ثم ترسم معالم المقاومة الخیرة ، لعواصف الهوى والتهور وتسلیم الاُمور الذاتیة بید الله تعالى فی هذه المشاهد بشکل ممتع وجمیل .

وفی آیة اُخرى عندما یصف أحاسیس نساء مصر ، حینما دعتهن زلیخا إلى ضیافته لتبرئة نفسه ، یقول فی جملة مختصرة : ( فَلَمَّا رَأَیْنَهُ اَکْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ اَیْدِیَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً اِنْ هَذَا اِلاَّ مَلَکٌ کَرِیمٌ ) . (یوسف / 31)

ویدل تعبیر ( مَلَکٌ کَریمٌ ) على مدى عفَّته ونقائه الفائقین فضلاً عن دلالته على مدى جماله المنقطع النظیر ، وهذا مثل تعبیرنا عن عفة أحد الأشخاص عادة بأنّه مَلَک من الملائکة ، وکذلک توجد على أثر هذه الحوادث جمل تحتوی على قدر کبیر من الفصاحة والجمال ، تدلل على عظمة ومقام یوسف بصورة کاملة ذلک المثل الأعلى فی العفة والطهارة(9) .

10 ـ أمثلة القرآن : یستخدم القرآن أمثلة کثیرة من أجل تبیان الحقائق وهی بأجمعها تجلیات واضحة للفصاحة والبلاغة فی هذا الکتاب الإلهی العظیم ، ممّا یبعث على اعتزاز الإنسان واعجابه الکبیر ، وهی الادوات الدقیقة التی استخدمت فی هذه الأمثلة والاُمور الصغیرة الجذابة الممتعة التی نلاحظها فی کل واحد منه :

وممّا لا یقبل انکاره أساساً هو دور المثال فی توضیح وتفسیر البحوث ، ولهذا السبب لا یمکن الاستغناء عن ذکره فی أی مبحث مهم ، لتوضیح الحقائق وتقریبها من الذهن .

فالمثال الجید والمنسجم مع المعنى المقصود یمکن أن یؤدّی دور أحد الکتب أحیان ، فیوضح المطالب المعقدة ویجعلها قابلة للفهم ، ولهذا یعتبر التمثیل من أحد الفنون التی یعتمد علیها الفصحاء والبلغاء والاُدباء والشعراء فی العالم ; یقول الزمخشری فی الکشاف فی صدد ( المثل ):

المثل فی أصل الکلام معناه المِثْل ویعنی النظیر ... ولضرب الأمثال عندهم والتحدث بالأمثال والنظائر لدى العلماء شأن رفیع ذلک لأنّها ترفع الحجاب عن المعانی الخفیة وتوضح النکات المبهمة بحیث یصبح الأمر المتخیل حقائق ویقع الشیء المتوهم مستیقناً فی محله وتتجلى صورة الغائب على غرار صورة الشاهد ولهذه الجهة أورد الله تعالى أمثالاً کثیرة فی کتابه القرآن المبین وسائر کتبه الاُخرى(10) .

وللأمثلة فوائد عدیدة ، منها أنّها تجعل المسائل العقلیة حسیة وتقرب الطرق البعیدة ، وتوصل فهم المسائل إلى جمیع الناس وبصورة شاملة ، وتصعّد درجة الاطمئنان بالاُمور المطروحة ، ومن ثم المثال المناسب یعتبر رداً صاعقاً على منطق المعاندین ، وقد جمع بعض المحققین أمثال القرآن فی کتاب درس وحلل فیه أکثر من مائة مثال قرآنی .

إنّ أمثلة القرآن معجزة حق ، ویکفی من أجل الوصول إلى هذه الحقیقة ، أن نجعل قسماً منها مورداً للبحث .


1. عیون اخبار الرضا، (وفق نقل تفسیر نور الثقلین، ج 1، ص 43) ونقله أیضاً الکلینی فی الکافی والعلامة المجلسی فی بحار الأنوار .
2. ورد فی تفصیل قصة الولید بن المغیرة وحدیثه بصدد جاذبیة القرآن فی البحوث السابقة .
3. ینقل القرآن هذه التهمة عن المشرکین فی ثلاث آیات فی سور: الأنبیاء ، 5 ; والصافات ، 36 ; والطور ، 30 ; وینفیها الله سبحانه وتعالى عن نبیه بصراحة فی آیتین من سورة یس ، 69 ; والحاقة ، 41 .
4. إثبات الهداة، ج 1 ، هامش ص 223 .
5. المصدر السابق ، ص 222 .
6. بحارالأنوار، ج 17، ص 213.
7. نهج البلاغة، الخطبة 156.
8. أسالیب اعجاز القرآن، ص 52 .
9. لمزید من الاطلاع یُراجع التفسیر الأمثل ذیل الآیة 31 من سورة یوسف.
10. أمثال القرآن، ص 120 .
تمهید :مقتطفات من الأمثلة الاعجازیة للقرآن:
12
13
14
15
16
17
18
19
20
Lotus
Mitra
Nazanin
Titr
Tahoma