نقرأ فی قوله تعالى : (اَلَمْ تَرَ اَنَّ اللَّهَ یُزجِى سَحَاباً ثُمَّ یُؤلِّفُ بَیْنَهُ ثُمَّ یَجْعَلُهُ رُکاماً فَتَرَى الوَدْقَ یَخْرُجُ مِن خِلاَلِهِ وَیُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبَال فِیهَا مِنْ بَرَد فَیُصِیبُ بِهِ مَنْ یَشَاءُ وَیَصرِفُهُ عَن مَّن یَشَاءُ یَکَادُ سَنَابَرْقِهِ یَذْهَبُ بِالاَبصَارِ) . (النور / 43)فی هذه الآیة تعابیر مختلفة ، لم تتوضح معانیها بدقة فی الماضی .«یزجی»: مأخوذة من مادة (إزجاء) ومعناها فی الأصل هو الدفع أو التحریک الملائم الهادیء .یقول الراغب فی المفردات : «التزجیة» معناها هو التحریک على سبیل الترتب والتسلسل .واستعمل القرآن الکریم هذه الکلمة لحرکة السفن على أثر هبوب الریاح فی البحر کما رودت فی سورة الاسراء، الآیة 66.«الرکام»: (على وزن غلام) وتعنی الأشیاء الموضوعة فوق بعضه .«وَدْق»: (على وزن شَرق) ، وهی حسب رأی بعض المفسرین بمعنى قطرات المطر ، وحسب رأی البعض الآخر بمعنى البرق .«البَرَد»: على وزن (سَبَد) والمقصود به قطرات المطر المنجمدة، وهی فی الأصل مأخوذة من مادة بَرْد على وزن (فَرْد) وهی البرودة . ولأنّ قطع البَرَد ذات طبیعة باردة وتبعث على برودة الأرض أیضاً اطلقت هذه الکلمة علیها(1) .«جِبال»: جمع جَبَل ، جاء فی (معجم مقاییس اللغة) هو: بمعنى تجمع الشیء مصحوباً بالارتفاع، وورد هذا المعنى فی (التحقیق) أیضاً، وعلیه فالجبل لایراد منه جبال الحصى والرمال فحسب ، بل إنّ کل مرتفع متراکم ومخزون یقال له فی لغة العرب : جبل .واستناداً إلى ما قیل فی هذا المجال نعود إلى الآیة الآنفة الذکر : (وَیُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبَال فِیهَا مِنْ بَرَد) .لم یدرک أحد فی ذلک العصر بدقّة أنّ السحب فی السماء على هیئة جبال بارتفاعات متفاوتة نشاهد قاعدتها غالب . لأننا نراها بصورة لوحة واسعة فی السماء ، لکن عندما نحلق بالطائرة إلى أعلى السحب ، نشاهدها جبالاً وودیاناً ومرتفعات ومنخفضات ، کما نشاهد ذلک على سطح الأرض، وبعبارة اُخرى : إنّ السطح الأعلى للسحب غیر مستو وعلى غرار سطح الأرض یحتوی على تضاریس کثیرة ، وفی کثیر من الأحیان یکون متراکماً على هیئة جبل .ومن أجل أن یتضح مفهوم الجبال فی الآیة أکثر یمکن أن نضیف النکتة الدقیقة والتی ثبتت نتیجة لتطور العلوم وازدهارها وهی :ذکر أحد العلماء فی تحلیله الشخصی ما خلاصته : إنّ السحب المرتفعة عُبّر عنها بجبال الثلج ، فی الآیة التی وقعت مورداً للبحث ; لأنّ العلماء فی تحلیقاتهم الجویة اصطدموا بسحب متکونة من إبَر ثلجیة ، یصدق علیها عنوان (جبال من الثلج) واقع ، ومن الغریب هو ما ذکره بصددها أحد العلماء الروس أثناء شرحه لبعض (السحب المحملة بالأمطار) بأنّها جبال من الثلج ، أو جبال من السحب .هذا کله من جهة ومن جهة اُخرى، ذهب علماء معاصرون فی صدد کیفیة نشوء البَردَ فی السماء إلى القول : إنّ قطرات المطر تنفصل عن السحاب وتصطدم بالمناطق العلیا الباردة للجو فتنجمد ، ولکونها صغیرة جدّاً تقذفها إلى الأعلى من جدید تیارات هوائیة شدیدة مسلطة على تلک المنطقة فتنفذ تلک الحبیبات داخل السحب مرّة اُخرى لتستقر مقابلها صفحة جدیدة من الماء ، تنجمد مرّة ثانیة حینما تنفصل عن السحاب ، ویحدث أحیاناً أن یتکرر هذا الأمر عدّة مرات حتى یصبح حجم البَرَد کبیر ، ولا تقوى التیارات الهوائیة على دفعه إلى الأعلى أو أن تهدأ تلک التیارات بصورة مؤقتة ، فحینئذ یشق طریقه إلى الأرض ویسقط باتجاهها بدون أی مانع ، ویحدث أن یکون کبیراً ثقیلاً فی بعض الأحیان فیلحق اضراراً بالمزارع والبساتین والحیوانات وحتى أفراد البشر أیض .من هنا یتبیّن أنّ وجود بَرَد کبیر الحجم ثقیل الوزن ممکن عندما تتراکم الحبیبات المنجمدة فوق قمم السحب الجبلیة إلى أن تظهر ریاح شدیدة فتقذفها وسط السحب ، وتجمع مقداراً أکثر من الماء ، فتصبح ثقیلة الوزن . وعلى هذا الأساس تعتبر السحب الجبلیة منبعاً مهماً لتکوّن بَرد کبیر الحجم ، سبقت الإشارة إلیه فی الآیة .وتتضح المسألة أکثر فیما لو قلن : إنّ هذه الجبال هی الأکوام المتکونة من الذرات الثلجیة نفسها(2) .والسؤال الوحید الذی یبقى هنا هو : لماذا وجه القرآن الکریم الخطاب إلى النبی (صلى الله علیه وآله)بقوله : (اَلَم تَرَ) فی حین أنّنا نعلم أنّ هذه المسألة لا تقبل الرؤیة على الاطلاق ، وإنّما تمکن ملاحظاتها فی عصرنا فقط من خلال التحلیق بالطائرة ؟والجواب عن هذا السؤال واضح ، ذلک أنّ (اَلَم تَرَ) والجمل المشابهة لها یراد منها (اَلَم تَعْلم) ، ولهذا یقول القرآن مخاطباً النبی فی سورة الفیل الآیة 1: (اَلَمْ تَرَ کَیْفَ فَعَلَ رَبُّکَ بِاَصْحَابِ الفِیلِ)، بالرغم من ولادته (صلى الله علیه وآله) فی عام الفیل (العام الذی هاجم فیه أبرهة مکة المکرمة) وعدم حضوره تلک الواقعة .