نقرأ فی قوله تعالى : (فَمَنْ یُرِدِ اللَّهُ اَنْ یَهدِیَهُ یَشْرَحْ صَدرَهُ لِلإِسلاَمِ وَمَنْ یُرِد اَنْ یُضِلَّهُ یَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَیِّـقاً حَرَجاً کَاَنَّمَا یَصَّعَّدُ فِى السَّماءِ کَذَلِکَ یَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجسَ عَلَى الَّذِینَ لاَ یَؤْمِنُونَ ) . (الأنعام / 135)
وربّ سؤال یتبادر إلى الذهن وهو:
ماهی العلاقة بین الصعود إلى السماء وضیق الصدر ؟وهو سؤال لم یجد له المفسرون الأوائل جواباً دقیق .قال کثیر منهم : إنّ المقصود من ذلک هو کما أنّ الصعود إلى السماء أمر عسیر أو محال کذلک تحصیل الإیمان بالنسبة إلى الکفار المعاندین والجهلاء المتعصبین(1) .فی حین أنّ الأعمال الشاقة والمستحیلة کثیرة على وجه الأرض فلیس هناک مبرر للتشبیه ، إضافة إلى أنّ هذا التفسیر بحاجة إلى تقدیر : وهو أنّ الإیمان یشابه الصعود إلى السماء ، فی حین أنّ القرآن یقول : (یَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَیِّقاً حَرَجاً کَاَنَّمَا یَصَّعَّدُ فِى السَّماءِ ) .وقالوا فی بعض المواضع : شبَّه الله الکافر فی نفوره من الإیمان وثقله علیه بمنزلة من تکلف ما لا یطیقه ، کما أنّ صعود السماء لایطاق(2) ، ولا یخفى عدم تناسب هذا التفسیر مع محتوى الآیة أیض .أمّا بالنظر إلى الاکتشافات الأخیرة فإنّ للآیة المتقدمة تفسیراً آخر یناسب هذا المعنى من کل الجهات وهو :لقد ثبت الیوم أنّ الهواء المحیط بأطراف الکرة الأرضیة مضغوط بصورة کاملة فی الأماکن المجاورة لسطح الأرض ویلائم تنفس الإنسان ویناسبه ، لأنّه یحتوی على الاوکسجین الکافی ، وکلما ابتعدنا عن سطح الأرض أصبح الهواء أقل کثافة فیغدو التنفس شاقاً جدّاً على ارتفاع عشرة کیلو مترات عن سطح الأرض بدون استخدام الإنسان نقاب الاوکسجین ، ویصاب بحالة من الضیق الحاد فی التنفس ، وکلما ارتفع إلى الأعلى أکثر ،
ازدادت حدّة الضیق فی تنفسه حتى یصل إلى الوقت الذی یغمى علیه لقلّة الاوکسجین .إذن توجد هناک علاقة وثیقة بین ضیق النفس والصعود إلى السماء ، ولم تتبلور هذه الحقیقة فی ذهن أی شخص فی ذلک العصر(3) . بید أنّها قد تبلورت فی اذهان الجمیع فی یومنا هذ ، فقد سبق لنا أن سمعنا هذا الحدیث من مضیّفی الطائرة عدة مرات أثناء سفرنا به ، بأنّ الهواء الموجود داخلها ینظم بجهاز خاص ، فاذا حدث خلل فیه ، فحینئذ ینبغی الاستفادة من نقاب الاوکسجین ، لتستغل الطائرة سرعتها وتصل إلى الطبقات السفلى للجو الأکثر ضغط .کما أنّ العلاقة بین هذا المعنى وبین تفسیر الآیة واضحة جلیة .وهی فی الواقع تشبیه المعقول بالمحسوس ، فقد شبّه الجمود الفکری والتعصب واللجاجة وقصر نظر الضالین المعاندین فی اعتناقهم للإسلام ، بضیق التنفس الناجم عن قلة حصول الاوکسجین بالنسبة للشخص الذی یصعد إلى السماء .ونُنهی هذا البحث بمقولة للمراغی فی تفسیره هذه الآیة ، إذ یقول: «سُبحانک ربّی نطق کتابک الکریم بقضیة لم یتفهم سرها البشر ، ولم یفقه معرفة کنهها إلاّ بعد أن مضى على نزولها نحو أربعة عشر قرن ، وتقدم فن الطیران ، الآن علم الطیارون بالتجربة صدق ما جاء فی کتابک ، ودلّ على صحة ما ثبت فی علم الطبیعة من اختلاف الضغط الجوی فی مختلف طبقات الهواء ، وقد عُلم الآن أنّ الطبقات العلیا أقل کثافة من الطبقات التی هی أسفل منه ، وأنّه کلما صعد الإنسان إلى طبقة أعلى شعر بالحاجة إلى الهواء وبضیق فی التنفس نتیجة لقلة الهواء الذی یحتاج إلیه ، حتى لقد یحتاجون أحیاناً إلى استعمال جهاز التنفس لیساعدهم على السیر فی تلک الطبقات ، وهذه الآیات وأمثالها لم یستطع العلماء أن یفسروها تفسیراً جلیاً لأنّهم لم یهتدوا لسرّه ، وجاء الکشف الحدیث وتقدُّم العلوم فأمکن شرح مغزاها وبیان المراد منها بحسب ما أثبته العلم ، ومن هذا صح قولهم ، «الدین والعلم صِنوان لا عَدوّان» ، وهکذا کلما تقدم العلم أرشد إلى إیضاح قضایا خفی أمرها على المتقدمین من العلماء والمفسرین »(4) .