لا یوجد بحث کثیر فی القرآن الکریم عن طفولةِ الرسول الأکرم (صلى الله علیه وآله) إلاّ سورة الضحى حیث نقرأ فیه : ( أَلَمْ یَجِدْکَ یَتِیماً فَآوَى * وَوَجَدَکَ ضَالاًّ فَهَدَى * وَوَجَدَکَ عَائِلاً فاَغنَى) .(الضحى / 7 ـ 8)

فی الآیة الاُولى إشارة إلى یُتمِ الرسول الأکرم (صلى الله علیه وآله) حیث جاء فی التاریخ أیضاً أن الرسول الأکرم (صلى الله علیه وآله) عندما کان فی بطن اُمه توفی والدهُ ( عبد الله ) ، وفی السنة السادسة من عُمرهِ الشریف توفیت والدتُهُ فتکفّله جدُهُ ( عبد المطلب ) .

وفی السنة الثامنة من عمرهِ توفی جدُّهُ ، فاحتضنه عمُّهُ ( أبو طالب ) وآثرهُ على أولادهِ ونفسهِ .

وفی الآیة الثالثة إشارة واضحة إلى فقر الرسول (صلى الله علیه وآله) فی بدایة عمره الشریف فمنَّ الله سبحانه وتعالى علیه بإلقاء محبته فی قلب خدیجة (علیها السلام) فتزوج منها واغدقت علیه ثروتها واعانته على حیاته ودعوته .

وأمّا فی الآیة الثانیة فیقول تعالى : ( وَوَجَدَکَ ضَالاً فَهَدَى ) وفسّرهُ أحد المفسرین بمعنى عدم معرفة الحق .

وقال آخرون : إنّ مفهوم الآیة هو أنّک کنت ضالاً لا تعرف الحق ونحن هدیناک إلیه .

وقال بعضهم : إنّ المراد بکلمة « ضال » هو ( غافل ) عن الأحکام والکتب السماویة ، ولکن بعضهم یذهب إلى الضلالة الظاهریة فی الطفولة حیث ضاع الرسول (صلى الله علیه وآله) مرة أو مرات عدیدة عند أبواب مکة أو فی أماکن اُخرى . والله سبحانه هداهُ إلى أحضان مملوءة بالمحبّة فأرجعه إلى أحضان ( عبد المطلب ) و( أبی طالب ) و ( حلیمة السعدیة ) التی کانت اُمُهُ فی الرضاعة .

وقد بیّنا شرح هذه الآیة فی المجلد السابع من رسالة القرآن فی بحث تنزیه الأنبیاء ، وفی التفسیر الأمثل فی ذیل هذه الآیة آراء مختلفة وأفضل التفاسیر هو ما ذکر أعلاه .

وعلى أیّة حال فإنّ هذه الآیات تُبیّن مراحل طفولة الرسول الأکرم (صلى الله علیه وآله) .

ومن أبرز خصائص الرسول (صلى الله علیه وآله) فی هذه المرحلة أنّه لم یتعلم القراءة والکتابة عند استاذ قط ، ولربّما یبدو لأول وهلة أنّه نقص ما، ولکنه من النقاط المهمّة والقویة فی شخصیة الرسول الأکرم (صلى الله علیه وآله) ، لأنّه عندما جاء القرآن الکریم بعباراته ومعارفه الراقیة لم یشک أحد فی کون القرآن منزل من الله سبحانه من نتاج فکر إنسان اُمی .

وقد أکدت سورة العنکبوت هذا المفهوم بقوله تعالى : ( وَمَاکُنتَ تَتلُوا مِن قَبلِهِ مِن کِتَاب وَلاَ تَخُطُّهُ بِیَمینِکَ اِذاً لاّرتَابَ المُبطِلُونَ ) (العنکبوت / 48)

لاشک أنّ النبیّ (صلى الله علیه وآله) لو درس على یدی استاذ ما فی تلک البیئة التی یُعد عدد المتعلمین فیها قلیل جدّاً لکان من المستحیل علیه أن یأتی بمثل هذا القول الجلی ، ولجابهه بعض الأفراد المطلعین على مجریات الأحداث بهذه الحجّة القویة متهمین إیّاه بالکذب والافتراء .

وحتى لو کان الرسول الأکرم (صلى الله علیه وآله) یعرف القراءة والکتابة فإنّ من المسلّمات أیضاً أنّ هذا القرآن لا یمکن أن یأتی به عقل بشری، فعدم معرفة الرسول القراءة والکتابة دلیل قاطع على هذا المعنى .

وفی آیتین من القرآن الکریم جاء تصریح واضح أیضاً:(الَّذِینَ یَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِیَّ الاُمِّیَّ) و (فآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِیِّ الاُمِّیِّ). (الأعراف / 157 ـ 158)

وفی آیة اُخرى ضمنت ذلک المعنى بقوله تعالى : ( هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الاُمّیّینَ رَسُولاً مِّنهُم ). (الجُمعة / 2)

ونحن نعرف أنّ أشهر تفسیر لکلمة « أُمیّ » هو من لا یقرأ ولا یکتب وحاله کحال الذی یخرج من بطن أُمه لم یر استاذاً ولا مدرسة .

وفسّر البعض کلمة « أُمیّ » بأنّه من قام من بین الاُمة والنّاس لا من بین الطغاة والجبابرة .

وبعضهم یذهب إلى أنّه من وُلد فی مکة المکرمة لأنّ أحد أسمائه ( أم القُرى ) أو من قام من مکة ، وتخلتف الروایات بهذا الصدد ولکن لا مانع فی ذلک لو احتملنا أنّ کلمة « أُمیّ » تتضمن معنى المفاهیم الثلاثة ( لا یقرأ ولا یکتب ) ، وقام من بین الأمة ، وولد فی منطقة مکة .

وقد حاول بعض المستشرقین المخالفین أن یسلبوا هذه الخصیصة من الرسول (صلى الله علیه وآله)حیث زعموا أنّه کان رجلاً غیر ( أمی )، ولو أنّه کان کما یدعون فکیف خفی ذلک على بیئة لا یمکن أَن یخفى فیها شیء على أحد ، بل إنّها لیس لها القدرة على انکار ذلک .