من المعلوم لدینا أنّ مسلمی العالم یعتقدون من خلال ما استلهموه من القرآن والأحادیث الإسلامیة المعتبرة أنّ نبی الإسلام هو خاتم الأنبیاء ، وأنّ الدین الإسلامی هو الدین الخالد ، ومع التسلیم بهذا الاعتقاد یبرز هذا السؤال وهو : کیف یمکن الحفاظ على بقاء الأحکام والمقررات الثابتة والخالدة مع حدوث التغییرات المستمرة للحیاة الاجتماعیة للجنس البشری ، وکیف یتم حصول المتطلبات المتغیرة مع وجود قوانین ثابتة ؟
إنِّ القوانین القرآنیة عالجت هذه المشکلة وذلک من خلال تصنیف القرآن لهذه القوانین إلى صنفین : الصنف الأول منها هی القوانین الکلیة التی أصلها ثابت، ومصداقها وموضوعها الخارجی فی تغیر وتبدل مع مرور الزمن ، والصنف الثانی منها هی القوانین الخاصة والجزئیة بالاصطلاح وهی غیر قابلة للتغییر .
وتوضیح ذلک : یُؤخذ من خلال ما خاطب به القرآن المؤمنین بقوله : (یَااَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا اَوفُوا بِالعُقُودِ). (المائدة / 1)
هذه هی إحدى الاُصول العامه السائدة على مرِّ العصور والأزمنة ، وإن کان موضوعها ومصداقها فی حالة تغیر وتبدل ، فمثلاً ظهرت مع مرور الزمن سلسلة من الارتباطات الحقوقیة الجدیدة والاتفاقیات المستحدثة بین أوساط الناس لم یسبق لها وجود فی عصر نزول القرآن ، فعلى سبیل المثال لم یکن یبدو للعیان شیء اسمه «التأمین» ، أو أنواع الشرکات المختلفة فی ذلک الزمن ، والتی تحققت فی عصرنا هذا حسب حصول المتطلبات الیومیة ، بیدَ أنّ القانون العام الآنف الذکر قد شمل کل هذه الأمور ، فأی شکل من أشکال الاتفاقیات والمعاملات الجدیدة والعقود والمواثیق الدولیة ، التی تظهر على مسرح الوجود حسب المتطلبات إلى نهایة العالم وتکون منسجمة مع الاتفاقیات الإسلامیة تقع ضمن هذا الشمول ، ونجد قسطاً وافراً من هذه القوانین فی الإسلام بصورة عامة والقرآن بصورة خاصة .
ولننظر فی قوله عزّ من قائل : (وَمَا جَعَل عَلَیکُم فِى الدِّینِ مِن حَرَج) . (الحج / 78)
بناءً على ذلک إذا تعذّر أداء إحدى التکالیف الإسلامیة فی ظروف خاصة فإنّها تخرج من دائرة الوجوب والإلزام تلقائی ، فیتبدل الوضوء فی ظروف قاسیة إلى التیمم ، والصلاة من وقوف إلى الصلاة من جلوس ، والصلاة من جلوس إلى الصلاة فی حالة الاضطجاع ، ویتبدل صوم الأداء إلى صوم القضاء ، ویرتفع الحج فی مثل هذه الظروف .
وقد وردت إشارات إلى «قاعدة لاضرر» فی موارد خاصة من آیات قرآنیة متعددة تدل على خطر الأمور التی تلحق الضرر والأذى بشکل أو بآخر ، ولذلک تحدد وتضیق دائرة الأحکام والمقررات التی بینت على شکل حکم عام حینما تصل إلى موارد الضرر والحرج .
یقول القرآن فی موضوع النساء المطلقات : (وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ). (الطلاق / 6)
ویقول فی موضع آخر : (وَلاَ تُمِسکُوهُنَّ ضِراَر). (البقرة / 231)
ویقول فی مورد الوصیة : (مِن بَعدِ وَصیَّة یُوصَى بِهَا اَو دَین غَیرَمُضَار). (النساء/ 12)
ویقول فی مورد الشهود وکتاب السندات : (وَل یُضَارَّ کَاتِبٌ وَل شَهِیدٌ). (البقرة/282)
إنَّ هذه القاعدة المطروحة بشکل أکثر تفصیلا فی الروایات الإسلامیة تعتبر من القواعد المهمّة التی تقوم بتطبیق الأحکام الإسلامیة (من خلال التغیرات الطارئة على الموضوعات) ، على الاحتیاجات والضروریات الواقعیة لکل زمان ، وقد تمّ شرح ذلک فی کتب «القواعد الفقهیة» ، وعلى أی حال فإنّ من الشواهد الاُخرى لهذا المدعى هی : «قاعدة العدل والانصاف» ، وقاعدة : «عدم تکلیف مالا یطاق» ، وقاعدة : «المقابلة بالمثل» ، فی المسائل المتعلقة بالجنایات والقصاص والاضرار المالیة ، وکلها لها جذور قرآنیة ، وخلاصة الکلام : إنطلاقا من «خاتمیة نبوة نبی الإسلام (صلى الله علیه وآله) وفقاً للآیة 40 من سورة الأحزاب» واستمراریة القرآن الکریم ، فإنّ القوانین القرآنیة طرحت من الدقة بمکان بحیث لم تسنح لظروف الزمان وتحولات الظروف والمتطلبات البشریة التی عفا علیها الدهر وعلاها غبار الزمن الغابر .
وفی الوقت التی کانت تسد الاحتیاجات القانونیة لعصر النبی (صلى الله علیه وآله) الذی هو عصر نزول القرآن کانت ناظرة أیضاً إلى الأزمنة والقرون الآتیة ، ومن الأمثلة الرائعة والجلیة هو مانلاحظه فی الآیة المتضمنة لمفهوم (إعداد القوى) وتعبئتها حفاظاً على بیضة الإسلام والمسلمین : (وَاَعِدُّوا لَهُم مَّااستَطَعتُم مِّن قُوّة وَمِن رِّبَاطِ الخَیلِ تُرهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّکُمْ). (الانفال / 60)
فمن جهة یضع بصماته على المستلزمات الضروریة لذلک العصر ویتحدث عن الخیول المُجرَّبة ، ولکن من جهة اُخرى یُنوِّه إلى أصل عام یتوافق مع ذلک العصر ، ومع کل عصر حتى قیام الساعة ، وهذا الأصل هو تهیئة شتى أنواع القوى والقدرات التی تشمل کافة الوسائل القدیمة والحالیة والمستقبلیة .
وأروع ماورد فی هذه الآیة هو هذا المعنى : إنّ الغایة من کل هذه الأمور هو إلقاء الرعب فی قلوب الأعداء لیقف ذلک حاجزاً دون وقوع الاعتداء والحرب ، لا أن یؤدّی ذلک إلى مزید من إراقة الدماء .