ینقل السید قطب فی تفسیره فی ظلال القرآن قصة عجیبة من حیاته ، وذلک فی ذیل قوله تعالى: (اَمْ یَقُولُونَ افتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَة مِّثْلِهِ) . (یونس / 38)
یقول : اذکر حادثاً وقع لی وکان علیه معی شهود ستة ، وذلک منذ نحو خمسة عشر عام ... کنّا ستة مسلمین على ظهر سفینة مصریة تمخر عباب المحیط الأطلسی إلى نیویورک ، من بین 120 راکباً وراکبة أجانب لیس فیهم مسلم ... وخطر لنا یوم الجمعة أن
نقیم صلاة الجماعة فی المحیط على ظهر السفینة ! والله یعلم أنّه لم یکن بنا أن نقیم الصلاة لذاتها أکثر ممّا کان بنا حماسة دینیة إزاء مبشر کان یقوم بمزاولة عمله على ظهر السفینة ، وحاول أن یزاول تبشیره معن ! ... وقد یسَّر لنا قائد السفینة وکان انجلیزی ـ أن نقیم صلاتن ، وسمح لبحارة السفینة وطهاتها وخدمته وکلهم نوبیون مسلمون ـ أن یصلی معنا من لا یکون فی (الخدمة) وقت الصلاة ! وقد فرحوا بهذا فرحاً شدید ، إذ کانت المرة الاُولى التی تقام فیها صلاة الجماعة على ظهر السفینة ... وقمت بخطبة الجمعة وإمامة الصلاة ، والرکاب الأجانب معظمهم متحلقون یرقبون صلاتنا، وبعد الصلاة جاءنا کثیرون منهم یهنئوننا على نجاح (القدّاس) ! فقد کان هذا أقصى ما یفهمونه من صلاتن ! ولکن سیدة من هذا الحشد ـ عرفنا فیما بعد أنّها یوغسلافیة مسیحیة هاربة من جحیم تیتو وشیوعیته ! ـ کانت شدیدة التأثر والانفعال تفیض عیناها بالدمع ولا تتمالک مشاعرها جاءت تشد على أیدینا بحرارة ، وتقول :ـ فی انجلیزیة ضعیفة ـ أنّها لا تملک نفسها من التأثر العمیق بصلاتنا هذه وما فیها من خشوع ونظام وروح ! ... ولیس هذا موضع الشاهد فی القصة ... ولکن ذلک کان فی قوله : أی لغة هذه التی یتحدث بها (قسیسکم) ! فالمسکینة لا تتصور أن یقیم (الصلاة) إلاّ قسیس أو رجل دین ـ کما هو الحال عندها فی مسیحیة الکنیسة ! وقد صححنا لها هذا الفهم ! وأجبناه : فقالت : إنّ اللغة التی یتحدث بها ذات ایقاع موسیقی عجیب ، وإن کنت لم أفهم منها حرف ... ثم کانت المفاجأة الحقیقیة لنا وهی تقول : ولکن هذا لیس الموضوع الذی أرید أن أسأل عنه ... إنّ الموضوع الذی لفت حسی ، هو أن (الإمام) کانت ترد فی أثناء کلامه بهذه اللغة الموسیقیة ـ فقرات من نوع آخر غیر بقیة کلامه ! نوع أکثر موسیقیة وأعمق ایقاع ... هذه الفقرات الخاصة کانت تحدث فیَّ رعشة وقشعریرة ! إنّها شیء آخر ! کما لو کان الإمام ـ مملوءاً من روح القدس ! حسب تعبیرها المستمد من مسیحیته ! وتفکرنا قلیل ، ثم أدرکنا أنّها تعنی الآیات القرآنیة التی وردت فی أثناء خطبة الجمعة وفی أثناء الصلاة ! وکانت مع ذلک ـ مفاجأة لنا تدعو إلى الدهشة ، من سیدة لا تفهم مما نقول شیئاً(1) !