فی الآیات أعلاه تتجسدُ هذه الحقیقة جیداً بأنَّ الله تعالى قد تکفَّلَ برزق جمیع الموجودات الحیّة ، وایصاله إلیها أینما کانت ، ولکن یبرز هذا السؤال وهو : لماذا ماتت وتموت مجامیعُ من الناس جوعاً الآن وعلى طول التاریخ ؟ أَلَمْ یُؤَمَّنُ رزقُه ؟! .فی الرد على هذا التساؤل یجب أخذ النقاط الآتیة بنظر الاعتبار : أول : إنَّ تأمین وضمان الرزق لا یعنی اعدادَه للإنسان العاقل والمکلَّف وارساله إلى بیته ، أو وضعهِ فی فمه کاللقمة ، بل قد اعدت الأرضیة اللازمة ، وسعیُ الإنسان واجتهاده یعتبر شرطاً لتحقیق هذه الأرضیة وایصالها إلى مرحلة الفعل ، حتى مریم ((علیها السلام)) عندما کانت فی ذلک الوضع الصعب وفی تلک الصحراء القاحلة حیث هیأ لها اللهُ تعالى رزقها رطباً جنیاً على جذع النخلة أمرها بأنْ تسعى وخاطبه : ( وهُزِّى الَیْکِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ ).ثانیاً: لو أنَّ الناسَ فی الماضی والمستقبل ـ یقومون بهضم حقوق الآخرین ویسلبون أرزاقهم ظلماً فهذا لیس دلیلا على عدم تأمین البارىء تعالى للرزق ، وبتعبیر آخر : إضافة إلى مسألة السعی والاجتهاد فإنّ وجود العدالة الاجتماعیة یعتبر سراً فی التوزیع العادل للأرزاق ، وإذا قیل : لماذا لا یمنع اللهُ ظلمَ الظالمین ؟ نقول : إنَّ أساس حیاة البشر یقوم على الحریة ولیس على الاجبار والاکراه کی یخضع الجمیع للامتحان ، وإلاّ فلا یحصل التکامل « فتأمل جید » . ثالثاً: هناک مصادر کثیرة لتأمین طعام البشر على هذه الکرة الأرضیة ولکن یجب أن تکتشفَ وتُستخدمَ بذکائهم ومعرفتهم ، وإذا قصَّر الإنسان فی هذا المجال فالذنبُ ذنبهُ .لا یجب أن ننسى أنّ بعض مناطق افریقیا التی یموت شعبها جوعاً تعتبر من اغنى مناطق العالم ، إلاّ أنّ العوامل المدمرّة التی أشرنا إلیها آنفا جعلتهم یهیمون فی لیل مظلم .نختتم هذا البحث المختصر بحدیث عن الإمام علی (علیه السلام) ورد فی نهج البلاغة ، یقول :«انظروا إلى النملةِ فی صِغرِ جُثتها ولطافةِ هیئتها لا تکادُ تُنالُ بلحظِ البَصرِ ولا بمُستدرکِ الفکَرِ کیفَ دبَّت على أرضه ، وصُبَّت على رزقها تنقُلُ الحبَّةَ إلى جحرِها وتُعِدُّها فی مستقره ، تجمعُ فی حَرِّها لبرده ، وفی وِردِه ، لصدرِها»(1).