لم یکن هنالک أحدٌ عندما تکونت البحار ، کی یرى طریقة تکوینه ، إلاّ أنَّ العلماء یعتقدون أنَّ کُرَتَنا الأرضیة بعد انفصالها عن الشمس کانت حارةً وساخنة ، وبَرَدَت رویداً روید ، کالتفاحةِ الناضجة تعرَّج قشرُها وتجَّعدَ وحصل الانخفاض والارتفاع ، برزت الجبال والودیان والبحار .ومن الممکن أن یرد هذا التساؤل وهو: من أَین جاءت میاه البحار ؟ هنالک رأیان : یعتقد بعضٌ أنّها تکونت نتیجة لتفاعل الاوکسجین والهیدروجین الموجودین فی أعماق الأرض وانبثقت کالینابیع التی تتدفق حالی ، وملأت منخفضات الأرض تدریج .إلاّ أنَّ اشهرَ الآراء هو أنّ السماء غطَّت جوانب الکرة الأرضیة بالغیوم المتراکمة ، وحینما انخفضت حرارتها سالت على هیئة أمطار غزیرة ، وهطل المطر لآلاف السنین ، وغمرت السیولُ کافة أنحاء الکرة الأرضیة بنحو لا یمکن تصوره ، وحصلت البحار ، وحتى أمد طویل کانت أمواجُه تغسل أعماقه وکذلک الصخور والسواحل ، ثم هدأت تدریج ، واستقر على هیئته الحالیة .على أیّة حال فإنّ البحر له تاریخٌ قدیمٌ جدّاً وملىءٌ بالأسرار ، ولکن الأهمُ من ذلک هی البرکات والمنافع التی ینالها الإنسان الیوم من البحار حیث بإمکاننا أن ندرج قسماً منه ، ولا یتسع هذا البحث المختصر لبیانها کله :1 ـ إنَّ البَحر له اهمیةٌ بالغةٌ فی الإبحار وحمل ونقل الناس والسلع التجاریة ، وکما اشرنا فانّ البحار تعتبر اهم وسائل البشر للحمل والنقل . ل سیما الخطوط البحریة التی تمتد بشکل طبیعیٍّ إلى بقاع الأرض کافة ، ویکفینا الالتفات إلى هذه الحقیقة وهی صناعة البواخر العملاقة التی تستطیع أن تستوعب ( خمسمائة الف طن ) من النفط وتنقله إلى أیِّ نقطة فی العالم .وهذا یلزم توفر ( خمس وعشرین الف سیارة ذات حمولة 20 طن ) لحمل هذه البضاعة .
2 ـ المواد الغذائیة ـ ومن أهم الفوائد الاُخرى للبحار هی المواد الغذائیة التی یحصل علیها الإنسان منها.
فمن أجل معرفة أهمیّة هذا الأمر یکفینا العلم بانَّه یتم صیدُ ست وعشرین ملیون طن من الأسماک سنوی ، علماً أنّ هذا الاحصاء یتعلق بثلاثین عاماً مضت ، ومن المسلَّم به أنَّ هذا الرقم قد تضاعف کثیراً فی الوقت الحاضر .ولیس الإنسان وحده بل إنَّ الکثیر من الطیور تحصل على طعامها من البحار أیض ، وهذا بحدِّ ذاته اقتصادٌ فی استهلاک المواد الغذائیة الجافة .فیقول بعض العلماء من خلال الاحصاءات التی قاموا بها : إنَّ الطیور البحریة التی تعیش على الجبال الساحلیة والجزر الصخریة تستهلک لوحدها ملیونین وخمسمائة الف طن من الأسماک سنوی ! .ونعلمُ أیضاً أنَّ جانباً مهماً من علف الدواجن یتم تأمینه من عظام أسماک البحر ، ( نفس هذه الأسماک المصطادة ) ، أی أنّها تتدخل بصورة غیر مباشرة فی تغذیة الإنسان .3 ـ الاعشاب والادویة ـ یحصل من کل هکتار من البحر خمسمائةُ طن من العلف الاخضر ، فی حین أنّ أفضل مزارعنا لا تنتجُ أکثر من أربعة أطنان وفی بعض البلدان یُستَغلُ هذا العلف لتغذیة المواشی ، ویُستَعملُ رماده سماداً للمزارع أیض .ویستخرجون من الاعلاف البحریة مختلف المواد ، کالکحول الجامد والسلولوز والنشاء والمواد الجلاتینیة ، حیث تُستثمر فی الصناعات الکیمیائیة واعداد الطعام ( وبعض الادویة ) .4 ـ المعدن والنفط ـ إنّ البحارَ غنیّةٌ بالمعادن ، ویکمنُ جانبٌ من هذه المعادن فی أعماقه ، ویعومُ الجزء الاعظم منها على سطحه ، ومنها الفلزات التی یمکن استخلاصها من ماء البحر « کالمغنیسیوم » الذی یُستعملُ فی الصناعات ، وکذلک « البوتاسیوم » و« البروم » و« سلفات الصودیوم » وغیره .یقول العلماء إنَّ أکثر من أربعین عنصراً ( عدا ما ذُکر ) موجودٌ فی ماء البحر ، لها قیمةٌ صناعیة جدیرة بالاهتمام ، کما ویعثر على الذهب فی ماء البحر أیض ، غیر أنَّ استخراج الکثیر من الغازات ما زال یحتاج إلى میزانیة هائلة لا یمکن مقارنتها بالاستهلاک ، وقد یأتی الیوم الذی یتمکن فیه الإنسان من أن ینالها من خلال طرق أکثرَ یُسر .وتقوم بعض الشرکات العملاقة بتصنیع أکثر من خمسمائة مادة مختلفة من معادن البحر ، حیث هنالک ملیارات الأطنان من المعادن .ویعتبر النفط وهو من أثمن المستخلصات ـ من هدایا البحر ، لأنَّ الملیارات من الموجودات البحریة توجد فی أعماق البحار العظیمة ، وبما أنّ القارات ارتفعت فیما بعد فقد دُفنت هذه الموجودات تحت الرمال التی تحوَّلت إلى صخور بعد ذلک ، وبقی النفط الناتج عنها فی أعماق الأرض .والملحُ هو أحد اهم المواد المعدنیة التی تُستخرج من البحر ، له دورٌ مهمٌ فی حیاة الإنسان ، وقد ذکروا فی السابق أنّ الملح بلغ من الأهمیّة بحیث إنَّ جنود الروم کانوا یتقاضون رواتبهم على هیئة ملح ، وحتى فی روسیا فقد اندلعت « ثورة الملح » ! بسبب ارتفاع سعره .إنَّ أهم مصادر استخراج الملح هو البحر ، وحتى أنّ بعض المناطق الملحیة الموجودة على الیابسة والتی یبلغ قطرها 800م هی من آثار البحار عندما کانت تغمر جمیع بقاع الأرض .لقد قدَّروا الاستهلاک العالمی للملح بـ 22 ملیون طن سنوی ، بحیث لو أراد الإنسان استهلاک مخزون الملح الموجود على الیابسة لَنفدَ عاجلا أو آجلا فی حین أنّ البحر مصدرٌ لا ینفدُ للملح ، فیمکن أن تؤمِّنَ أملاحُ البحر ما یحتاجه البشر لمدة ملیون وسبعمائة الف سنة .5 ـ افضلُ منتج للطاقة ـ لقد انتبه الإنسان منذ القِدَم إلى هذا الأمر ، وهو إمکانیة انتاج الطاقة من خلال السیطرة على المیاه المتراکمة بسبب المد ، وتنسحب أثناء حدوث الجزر ، فتستغل لتحریک المطاحن وغیره .
وتفید بحوث العلماء المعاصرین أنَّهُ یُمکنُ انتاج الکهرباء بکمیة کبیرة من هذه البحار ، وأنْ یستعانَ بها بصفتها أهم مصدر لانتاج الطاقة ، فالجَزر والمد اللذان یحدثان مرّتین لیلا ونهاراً بتأثیر جاذبیة القمر یقومان برفع وخفض ماء البحار بمقدار کبیر ، وهذا الأمر إضافة إلى مسألة الطاقة التی اُشیر إلیها فهو یؤثر فی سقی المناطق الساحلیة ، لأنَّ مصبات الانهار التی تصب فی البحار تمثلُ بحراً من الماء العذب ، فیندفع ماء الساحل العذب إلى الخلف ویُغطی کثیراً من الأراضی ، لذلک سَخر البشرُ مند القِدَمِ أراضِیَ واسعةً للزراعة من خلال شق الأنهار فی مثل هذه المناطق .ولعلَّ هنالک الملایین من أشجار النخیل فی سواحل الخلیج الفارسی حیث تُسقى بنفس هذه الطریقة فقط ، لأنَّ الماء یتراجع إلى مسافات بعیدة عن الساحل ، فهذا الماء العذب الفرات الذی یجاور الماء المالح الاجاج ولا یختلط معه یعتبر ثروةً عظیمةً لسکان السواحل .6 ـ وسائل الزینة المختلفة ـ من المنافع الاُخرى للبحار التی ذُکُرت بشکل خاص فی الآیات المذکورة هی وسائل الزینة التی تُستخرج من البحر ، کاللؤلؤ الذی ینمو فی نوع خاص من الصدف ، والمرجان الذی هو نوع من الاحیاء البحریة ، ولکن على هیئة اغصان أشجار لها منظر جمیل ومرغوب ، اضافة إلى صفةِ الزینة فهو یُستعملُ فی الطب أیض .7 ـ تلطیف الجو عن طریق البحار ـ لیست الریاح التی تهبُّ من البحار نحو الیابسةِ هی التی تُرطبُ وتُلَطفُ الجَّو فقط ، بل هنالک أنهارٌ عظیمةٌ متحرکة فی قلب محیطات العالم تتحرک من المناطق الحارة إلى المناطق الباردة وبالعکس ، وبصورة عامة لها أثرٌ بالغٌ فی تلطیف الهواء على الکرة الأرضیة .وواحدٌ من أعظمها هو « غولف استریم » ، هذا النهر العظیم الذی یتحرک من سواحل أمریکا الوسطى ویطوی المحیط الأطلسی ، ثم یصل إلى سواحل شمال اورب ، وهذه المیاه تکون حارةً حینما تتحرک من المناطق القریبة من خط الاستواء ، حتى أنّ لونها یختلف أحیاناً عن لون المیاه المجاورة له ، واللطیف أنّ عُرضَ هذا النهر البحری العظیم أی « غولف استریم » نحو مائة وخمسین کیلو متر ، وعمقه عدة مئات من الأمتار(1) ، وتبلغ سرعته فی بعض المناطق حداً بحیث یقطع مائة وستین کیلو متراً فی الیوم ، وتختلف درجة حرارته عن حرارة المیاه المجاورة ب 1015 درجة .إنَّ « غولف استریم » یتسبب فی حصول ریاح حارة ، ویعطی نسبةً کبیرة من حرارته إلى البلدان الواقعة شمال اورب ، فیعمل على تحسین جوِّه ، ولولا هذا الجریان لتعسرت الحیاة کثیراً فی هذه البلدان واستحالت فی بعضه .والعجیب أنّ هذه الأنهار البحریة العظیمة والتی یکمن السبب الرئیس وراء ظهورها فی التفاوت فی درجة حرارة المناطق الاستوائیة والمناطق القطبیة قلیل ما تمتزج بالمیاه المحیطة به ، وتطوی آلاف الکیلو مترات بهذا الشکل ، فهی مصداقٌ لطیفٌ لـ ( مَرَجَ البَحْرَیْنِ یَلْتَقیَانِ * بَیْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ یَبْغِیَانِ ). (2) ( الرحمن / 19 و 20 )8 ـ استثمار ماء البحر طبیاً ـ لا حاجة لتوضیح أنّ ماء البحر له آثارٌ مفیدة لجسم واعصاب الإنسان ، ولهذا ینتشر الیوم وفی معظم مناطق العالم استثمار ماء البحر لعلاج بعض الأمراض الجلدیة والعصبیة ، أو لحفظ الصحة والسلامةِ ، ولو تمَّ القضاء على التلوث الأخلاقی فی هذا المجال لأصبح استثمار ماء البحر مصدراً لسلامة ونشاط الناس .9 ـ المصدر الرئیس للمیاه الجوفیة ـ إنّ أهمَّ وأعظمَ وأکثر فوائد البحر هی الابخرة التی تتصاعد منه ، ثم تؤلفُ الغیوم ، وتساقُ هذه الغیوم نحو المناطق الیابسة والجافة ، فتُحییه ، حیث ذُکرَ ذلک فی فصل الریح والأمطار بشکل مُفصَّل .10 ـ توفیر الماء العذب ـ یتمُّ فی الکثیر من المناطق التی یصعب الحصول على الماء العذب ، تأمین هذه المادة الحیاتیة من خلال تقطیر ماء البحر فتصبح المناطق المهجورةُ مسکونة بسبب ذلک .هذا جانبٌ من منافع وبرکات البحار التی وقف علیها الإنسان حتى هذا الیوم ، ولیس معلوماً ما حجم المنافع التی سینالُها الإنسان فی المستقبل ، وهنا نقف على عظمة هذا التعبیر القرآنی : ( وَسَخَّرَ لَکُمُ البَحْرَ )(3) .
1. وقد ذُکر فی بعض الکتب أنّ عمقَهُ یصل فی بعض المناطق إلى ( 800 م ) ( البحر والعجائب، ص 46 ) .
2. لمزید من التوضیح فی هذا المجال یراجع التفسیر الامثل، ذیل الآیة 19 و 20 من سورة الرحمن.
3. تُراجع کتب: البحر دار العجائب ; وأسرار البحر; وعجائب البحر ; ونشرة المیناء والبحر; رسالة الثقافة، ج 12; وأفضل الطرق لمعرفة الله .
