ذکرنا أنّ أحداً لا یستطیع تعیین لحظة الولادة بصورة دقیقة ، وما یتنبأ به الأطباء عموماً أو خصوصاً لإخبار الناس فإنّه ذو طابع تخمینی فقط ، کما تقول الآیة :( اللهُ یَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ کُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِیْضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَکُلُّ شَىء عِنْدَهُ بِمِقْدَار )(1) .(الرعد / 8)
ظاهر الآیة أنّ هذا من العلوم الإلهیّة الخاصة ، وهو العلم بخصائص الجنین من کل الجوانب قبل ولادته ، فهو عزوجل لا یعلم بالجنین من حیث جنسه فقط وإنّما یعلم بکل قابلیاته وأذواقه وصفاته الظاهرة والباطنة ، کما أنّ لحظة ولادته لا یعلمها إلاّ الله ، ومن أجل أن لا نتصور أنّ الزیادة والنقصان تأتیان بدون حساب أو مبرر ، بل إنّ ساعتها وثانیتها ولحظتها محسوبة جمیع ، فقد أضاف قائل :( وکُلُّ شَىء عِنْدَهُ بِمِقْدَار ) .المثیر هو ظهور تغیرّات عجیبة على نظام حیاة الولید فی لحظة ولادته وهی تغیرات ضروریة جدّاً لتکییفه مع المحیط الجدید ، وسوف نشیر إلى اثنتین منها فقط :أ) تغیّر نظام دوران الدم ، فعملیة دوران الدم فی الجنین دوران بسیط ، لأنّه لا یتحرک الدم الملوّث نحو الرئتین من أجل التصفیة ، إذ لا تنفس هناک ، ولهذا کان إثنان من أجزاء قلبه ( البطین الأیمن والأیسر ) الذی یتحمل أحدهما مسؤولیة إیصال الدم إلى الأعضاء والثانی یتحمل مسؤولیة إیصال الدم إلى الرئتین للتصفیة ، على اتصال مع بعضهم ، ولکن بمجرّد أن یولد الجنین تُغلق البوابة بینهما وینقسم الدم إلى قسمین ، قسم یُرسل إلى کل خلایا الجسم لتغذیتها والقسم الآخر إلى الرئتین لتصفیته .أجل ، ما دام الجنین فی بطن الأُم فإنّه یحصل على ما یحتاج من الأوکسجین من دم الاُم ، لکن علیه أن یکتفی ذاتیاً بعد الولادة ویحصل على الاوکسجین بواسطة الرئة والتنفس ، الرئة التی کانت قد خِلُقتْ وأُعدّت مسبقاً بشکل تام فی رحم الأم ، سوف تمارس عملها فجأة بأمر إلهی واحد ، وهذا من العجائب حق .ب) إنسداد عقدة السُرّة وجفافها وسقوطها ( عادةً ما یقطعون عقدة السرة التی تعتبر طریق تغذیة الجنین بواسطة الحبل السری من دم الأم ، ولکن حتى لو لم یقطعوها فإنّها تتیبس وتسقط تدریجی ) .
أی کما أنّ طریق الحصول على الاُوکسجین یتغیر عند الولادة ، فإنّ طریق التغذیة یتغیر أیضاً وبشکل مفاجیء ، ویبدأ الفم والمعدة والأمعاء التی اکتملت فی الفترة الجنینیة ولکنها لم تکن تعمل ، فتبدأ بالعمل فجأة ، وهذه واحدة أخرى من العجائب المهمّة فی خلقة الإنسان .
1. «تغیض» من مادة « غیض » على وزن فیض بمعنى امتصاص السائل أو احتوائه ، ثم جاءت بمعنى النقصان وکذلک بمعنى الفساد ، ولهذا فسر البعض کلمة تغیض فی الآیة أعلاه بمعنى نقصان الجنین والبعض بمعنى الولادة قبل الموعد وهو المعنى المشهور بین المفسرین ، وهو المروی فی حدیث عن الإمام الباقر أو الإمام الصادق (علیهما السلام)، کما أنّ ذیل الآیة یدل على ذلک .
