نقرأ فی الحدیث المعروف بتوحید المفضّل عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنّه قال :« وانبهک یا مفضل على الریح وما فیه ، ألست ترى رکودها إذا رکدت کیف یحدث الکرب الذی یکاد أن یأتی على النفوس ، ویمرّض الأصحاء وینهک المرضى ، ویفسد الثمار ، ویعفّن البقول ، ویعقّب الوباء فی الأبدان ، والآفة فی الغلات ففی هذا بیان أنّ هبوب الریح من تدبیر الحکیم فی صلاح الخلق .ولو أنّ ملکاً من الملوک قسّم فی اهل مملکته قناطیر من ذهب وفضة ألم یکن سیعظم عندهم ویذهب له به الصوت ؟ فأین هذا من مطرة رواء ؟ إذ یعمر به البلاد ویزید فی الغلاّت أکثر من قناطیر الذهب والفضة فی أقالیم الأرض کله .تأمل نزوله على الأرض والتدبیر فی ذلک فانّه جعل ینحدر علیها من علو لیتفشّى ما غلظ وارتفع منها فیروّیه ولو کان إنّما یأتیها من بعض نواحیها لما علا على المواضع المشرفة منها ویقل ما یزرع فی الأرض وبها یسقط عن الناس فی کثیر من البلدان مؤونة سیاق الماء من موضع إلى موضع ، وما یجری فی ذلک بینهم من التشاجر والتظالم حتى یستأثر بالماء ذوو العزة والقوة ویحرمه الضعفاء . ثم إنّه حین قدّر أن ینحدر على الأرض انحداراً جعل ذلک قطراً شبیهاً بالرش لیغور فی قطر الأرض فیرویها ولو کان یسکبه انسکابا کان ینزل على وجه الأرض فلا یغوُر فیها ثم کان یحطم الزرع القائمة إذا اندفق علیها فصار ینزل نزولا رقیقاً فینبت الحب المزروع وفی نزوله أیضاً مصالح اُخرى فانّه یلین الأبدان ویجلو کدر الهواء فیرتفع الوباء الحادث من ذلک ویغسل ما یسقط على الشجر والزرع من الداء » .ویقول فی جانب آخر من الروایة :« فکّر یا مفضل فی الصحو والمطر کیف یعتقبان على هذا العالم لما فیه صلاحه ، ولو دام واحد منهما علیه کان فی ذلک فساده ، ألا ترى أنّ الأمطار إذا توالت عفنت البقول والخضر واسترخت أبدان الحیوان وخصر الهواء فأحدث ضروباً من الأمراض وفسدت الطرق والمسالک وأنّ الصحو إذا دام جفّت الأرض واحترق النبات وغیض ماء العیون والأودیة فأضرّ ذلک بالناس وغلب الیبس على الهواء فأحدث ضروبا اُخرى من الأمراض فإذا تعاقبا على العالم هذا التعاقب اعتدل الهواء ودفع کل واحد منهما عادیة الآخر فصلحت الأشیاء واستقامت » (1) .ونقرأ فی حدیث آخر عن الإمام السجاد (علیه السلام) :« أنزل من السماء ماءً یعنی المطر ینزله من أعلى لیبلغ قلل جبالکم وتلالکم وهضابکم واوهادکم ثم فرقه رذاذاً ووابلا وهطلا لتنشفه ارضوکم ، ولم یجعل ذلک المطر نازلا علیکم قطعة واحدة فیفسد أرضیکم وأشجارکم وزروعکم وثمارکم » (2) .4 ـ لقد کشفت البحوث الحدیثة للعلماء النقاب عن أسرار جدیدة وبیَّنَتْ التأثیرات المهمّة للریاح فی نزول الأمطار بکیفیة جدیدة حیث یُعتبر التوضیح الآتی نموذجاً منه ( یجب توفر شرطین لتکوین الغیوم وهطول الأمطار ) وهم :1 ـ وجود بخار الماء فی الهواء .2 ـ تشَبُّع الهواء بالبخار وتقطیره .أمّا فیما یتعلق بالشرط الأول فبالرغم من أنّ الهواء لا یخلو على الاطلاق من بخار الماء وتبلغ ادنى نسبة له نحو 50 غراماً فی المتر المکعب ، إلاّ أنّ هذا المقدار من الرطوبة لا یکفی لتکوین الغیوم ونزول الأمطار ، بل یجب امدادها باستمرار ، أی یجب أن یصل هواءٌ جدیدٌ مُحمَّلٌ ببخار الماء بعد تکوین الغیوم ونزول الأمطار تباع ، ویستمر هبوب الریاح ، ویکون انطلاقها أو مسیرتها من البحر أو الغابات الکثیفة کی تتزود من الرطوبة بالمقدار اللازم .وأمّا الشرط الثانی أی الوصول إلى حالة الاشباع وحصول ظاهرة التقطیر ( تعرُّق الهواء وتحول البخار إلى سائل ) فهذا یستلزم برودة الهواء ، کما یحدث فی الشتاء إذ یَتعرق زجاج شبابیک الغرف التی تحتوی على ما یکوّن البخار کالسماور والقدر ... .والعامل الوحید المؤثر فی برودة الهواء والذی یوصله إلى مرحلة تکوین الغیوم والتقطیر هو ارتفاع الهواء وعلوه ، ویحدث ارتفاع الهواء على ثلاثة أشکال أو فی ثلاث حالات ، وینزل فی کل حالة منها مطرٌ خاصٌ وهی : ) اصطدام الهواء بالأجزاء البارزة من الأرض والصعود من وسط الجبال حیث تنتج عنه الأمطار الجبلیة .ب ) حرارة وخفَّةُ الهواء وصعوده السریع اثر اشعة الشمس وملامسة المناطق الحارة وتنتج عنه ( أمطار العواصف ) .
ج ) اصطدام جناحی الهواء الحار والبارد وتقلبهما وتنتج عنه ( الأمطار الغزیرة ) ، وأنَّ الغیوم والأمطار کافة تنشأ عن أحد هذه الحالات الثلاث واهمها النوع الأخیر .اذن فالهواء یرتبط بالغیوم والأمطار فی کل المراحل فهو یتدخل ابتداءً من حمل البخار وایصاله إلى المناطق الجافة ، مروراً وانتهاءً بهزّ الغیوم وانزال المطر ، ولیس من الممکن حصول الغیوم والأمطار بدون الهواء ، والمعروف أنّ الغیوم لیست سوى الهواء ( أی الهواء المحمَّل بالماء ) .وورد فی قسم آخر من هذا البحث : « إنَّ قطرات الأمطار تهطل من الغیوم المتکونة من عدّة طبقات والتی ترتفع أکثر من عشرة کیلو مترات ، وهذه الغیوم العاریة الصاخبة تظهر على هیئة جبال حیث یُغطى القسم الأعلى منها بقضبان الثلج وقطع الجلید وقد تکون ممتلئة بالبرَدِ » .وحتى قبل الحرب العالمیة الاُولى حیث تمکنت الطائرات حینذاک من الارتفاع فوق الغیوم وشاهد الطیارون الستائر المتکونة من الجلید والناشئة من الغیوم المتصاعدة ، لم یکن لأی شخص علمٌ بوجود الجلید والبَرَدِ فی غیوم السماء .« فالصعود المتقلِّب الاطبقی للریاح الرطبة والحارة یؤدّی إلى تکوین جبال عالیة من الغیوم المتجمدة التی تتزامن مع الزوابع الشدیدة وسط الرعد والبرق المتتابعین » (3) .ویمکن أن یعطی هذا التوضیح تفسیراً جدیداً للآیة 43 من سورة النور ویرفع الحجاب عن معجزة علمیة لطیفة للقرآن الکریم ، حیث یقول : ( وَیُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبَال فِیهَا مِنْ بَرَد فَیُصِیْبُ بِهِ مَنْ یَشَاءُ وَیصْرِفُهُ عَن مَّنْ یَشاءُ یَکَادُ سَنَ بَرْقِهِ یَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ )فأیُّ جبل فی السماء توجدُ فیه قطع البَرَدِ ؟ هذا السؤال الذی کان صعباً ومعقداً بالنسبة للکثیرین ، ولهذا فقد ذکروا له عدة تفاسیر .ولکن من خلال الاکتشافات أعلاه یتضح عدم الحاجة إلى التبریر والتقدیر والمجاز وامثال ذلک لتفسیر الآیة المذکورة ، ویتبینُ معنى الآیة فی ظل هذا الأمر (4) .