کما اشرنا سابقاً فإنّ القرآن الکریم أکد مراراً على مسألة المراحل التکاملیة لنمو الجنین فی رحم الأم ، ودعا الناس کافة إلى مطالعتها بدقة ، واعتبرها إحدى الطرق للوصول إلى معرفة الله ، وکذلک إحدىَ طرق إثبات إمکانیة المعاد .إنّ الآیات الأولى المعنیة بالبحث وبقرینة العبارة الأخیرة منه : ( فَتَبَارَکَ اللهُ أحْسَنُ الْخَالِقْینَ ) تشیر إلى قضیة التوحید ، وبالرغم من أنّ الآیات اللاحقة من نفس سورة « المؤمنون » هذه تدلّ على أنّها تشیر إلى قضیة المعاد أیضاً وبهذا تکون هذه الآیات قد تعرضت إلى مسألة معرفة الله وتوحیده بالاضافة إلى معاد.
وقد تحدثت فی البدایة عن خلق الإنسان من ( سُلالَة مِّنْ طِیْن ) ثم من ( نُطْفَة فِى قَرار مَکِیْن ) ، وبعد ذکر هاتین المرحلتین تنتقل إلى ذکر خمس مراحل أخرى :1 ـ مرحلة « العلقة » حیث تتبدل النطفة إلى دم متخثر فی داخله الکثیر من العروق .2 ـ مرحلة « المضغة » حیث یصبح هذا الدم المتخثر على شکل قطعة من اللحم .3 ـ مرحلة « العظام » حیث تتبدل کل الخلایا اللحمیة إلى خلایا عظمیة .4 ـ یأتی دور مرحلة تغطیة العظام باللحم حیث تغطی العضلات کل العظام: ( کَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْم ).
5 ـ هنا تتغیر لهجة القرآن وتخبرنا عن تحول وخلق مهم وجدید للجنین ، فیقول بتعبیر فیه أسرار وخفایا: ( ثُمَّ أَنْشَأنَاهُ خَلْقاً آخَرَ ) .وعندما تنتهی هذه المراحل السبع یصف القرآن هذه الخلقة العجیبة أجمل وصف بعبارة:( فَتَبارَکَ اللهُ أَحْسَنُ الخَالِقْینَ ) ، وهی عبارة لم تأتِ فی أی آیة أخرى من القرآن ولم تستخدم فی مجال أی موجود آخر .ذکر المفسرون تفاسیر متنوعة فی المراد من العبارة الغامضة: ( الخلق الآخر ) .ویبدو أن أنسبها وأقربها إلى القصد هو بلوغ الجنین مرحلة الحیاة الإنسانیة ، حیث یظهر فیه الحس ویبدأ بالحرکة، ویضع قدماً فی عالم الحیوانات والبشر ، یعبر القرآن عن هذه الطفرة الکبیرة والعجیبة بکلمة « الإنشاء » فی إشارة إلى الطریق الطویل الذی یقطعه الإنسان خلال هذه المدة القصیرة .نقرأ فی حدیث عن الإمام الباقر (علیه السلام) فی تفسیر عبارة: ( ثُمَّ أَنْشَأناهُ خَلْقاً آخَرَ )قوله : «هو نفخ الروح فیه» (1).صحیح أنّ الجنین کائن حی مند لحظاته الأولى ، ولکنه وحتى فترة معینة لا یمتلک أی إحساس وحرکة فی بطن الأم ، ویکون فی الحقیقة أشبه بالنبات منه بالحیوان أو الإنسان ، ولکن بعد مضی عدّة أشهر تُبعثُ فیه الروح الإنسانیة ، ومن هنا جاء فی الروایات الإسلامیة أنّ الجنین لا یستحق قبل بلوغه هذه المرحلة الدیة الکاملة أبد ، أمّا إذا بلغ هذه المرحلة کانت دیته نفس الدیة الکاملة للإنسان (2).التعبیر بـ ( أَحسن الخالقین ) بالرغم من أنّه لا خالق غیر الله إنّما هو لأجل أنّ مفردة « الخلق » لیست فقط بمعنى الإیجاد بعد العدم فحسب ، بل لها معان أخرى منها: « التقدیر » و« الصناعة » و« إعطاء الأشکال الجدیدة للأشیاء الموجودة فی العالم » ، ولا شک أنّ الإنسان یستطیع بما منحه الله من قوى أن یوجد تغییرات کثیرة على مواد هذا العالم المختلفة ، فیصنع من الحدید والفولاذ المصانع والمعامل أو یبنی من المواد الإنشائیة بناءً عظیماً بأحجام مختلفة .إذن فللخلق مفهوم واسع یشمل کل هذه الأمور .ولهذا وَرَد فی القرآن الکریم عن لسان النبی عیسى (علیه السلام) قوله : ( إِنِّى أخْلُقُ لَکُمْ مِّنَ الطِّیْنِ کَهَیْئَةِ الطَّیْرِ فَأَنْفُخُ فِیْهِ فَیَکُونُ طَیْراً بِإِذْنِ اللهِ ).( آل عمران / 49 ) وبالطبع فإنّ الخالق الحقیقی أی ذلک الذی یوجد المادة والصورة وإلیه تعود کل قدرات وخواص الأشیاء هو الله فقط ، ومهمّة غیره من الخالقین وهم الخالقون المجازیون ، هی تغییر الأشکال وتصمیم المواد .
تشیر الآیة الثانیة من الآیات المنظورة إلى مرحلة بدایة ظهور الإنسان أول ، أی عندما کان قطرة ماء حقیر اسمه المنی ، ثم تذکر مرحلة العلقة فقط من بین مراحل نمو الجنین ولا تذکر المراحل الأخرى إلاّ تحت عنوان: ( فَخَلَقَ فَسَوّى ) وهو تعبیر شامل جدّ ، وتشدِّد خاصة على قضیة ولادة الجنس « المذکر » و« المؤنث » وهی من أعقد المظاهر المتعلقة بعلم الأجنة: ( فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَیْنِ الذَّکَرَ والاُْنْثى ) .«سوَّى»: من مادة ( تسویة ) بمعنى التنظیم والتسویة ، ویعتقد البعض أنّها إشارة إلى خلق الروح الذی جاء فی الآیة السابقة بشکل آخر .ویرى البعض أنَّ کلمة « الخلق » إشارة إلى خلق الروح ، وکلمة «سوّى» إشارة إلى تنظیم وتعدیل أعضاء الجسم الإنسانی ، وفسّرها البعض بالتعدیل والتکمیل .لکن الظاهر أنّ تعبیرات الآیة شاملة وواسعة بحیث تستوعب کل ألوان الخلق والتنظیم والتعدیل والتکامل التی تطرأ على العلقة حتى ساعة وضع الحمل (2) .یقول الراغب فی کتاب المفردات : تقال « التسویة » لصیانة الشیء من الأفراط والتفریط من حیث المقدار والنوعیة .
فی الآیة الثالثة یؤکد على نقطة جدیدة أخرى ویقول بعد الإشارة إلى خلق الإنسان من النطفة ( خصیم مُبین ) .وقد وردت تفاسیر متعددة لهذا التعبیر : فقالوا تارة إنّها إشارة إلى مرحلتی « الضعف » و« القوة » لدى الإنسان ، حیث کان یوماً ما نطفة حقیرة ویصبح لاحقاً قویاً ومقتدراً إلى درجة قیامه بالخصومة والضجیج ازاء کل شخص حتى ازاء الله ! .وقالوا تارة إنّها إشارة إلى ملکة النطق والفهم والشعور لدى الإنسان ، فهذه النطفة الحقیرة یصل بها الأمر إلى عدم الاقتصار على النطق فقط ، بل إلى التمتع بالقدرة على الاستدلال المنطقی بانواعه والاقتدار العقلی ، ونحن نعلم أنّ ظاهرة النطق والبیان والمنطق والاستدلال من أهم ظواهر الوجود الإنسانی .وقیل أحیان : إنّ هذا التعبیر إشارة إلى النزاع العجیب الذی یحصل بین الخلایا الذکریة ( الحیامن ) من أجل التسلط والاتحاد بالخلیة الانثویة ( البیضة ) ، لأنّ نطفة الذکر عندما تدخل الرحم تتحرک آلاف الحیامن بسرعة کبیرة لتصل إلى نطفة الأنثى وتتحد معه .وأول حیمن یصل إلیها وینفذ إلى داخلها یسد الطریق على بقیة الحیامن ، لأنّ غشاءً مقاوماً سیحیط بالبیضة ویمنع من نفوذ بقیة الحیامن إلیه ، وبهذا فإنّ البقیة سیهزمون فی هذا الصراع العجیب ویمتصهم الدم ، ولهذا یشیر القرآن الکریم بعد ذکر مرحلة النطفة إلى قضیة ( خصیم مُبین ) (3) .
فی الآیة الرابعة أیضا یرد ذکر الخلقة من التراب ثم النطفة وبعد ذلک مرحلة التسویة والتنظیم ، وفی الآیة الخامسة وهی آخر الآیات یضیف القرآن إلى کل هذا مرحلة « الولادة » وخروج الجنین من بطن الأم على شکل طفل ولید: ( ثُمَّ یُخْرِجُکُمْ طِفْل ) .وکما نعرف فإنّ أهم عجائب الجنین هی نهایة عمره، بالولادة ، أیة عوامل تؤدّی إلى إصدار الأوامر للجنین بالخروج فی لحظة معینة ! وتقلبه عن شکله العادی ( فی الحالة العادیة یکون رأس الجنین إلى الأعلى ووجهه إلى ظهر الأم ) فترسل رأسه إلى الأسفل لتسهیل عملیة ولادته ؟! .فی البدایة یُخرق کیس الماء الذی کان الجنین یسبح فیه ، وتخرج المیاه ویستعد الجنین لدخول الدنیا لوحده .یصیب الأم ألم شدید ، تضغط کل عضلات بطنها وظهرها وجانبیها على الجنین ، وتدفعه إلى الخارج .
إنّ التفاعلات الکیمیائیة والتغییرات الفیزیائیة التی تحصل للجسم أثناء الولادة على درجة من الغرابة والعجب بحیث تحکی جمیعها عن علم وقدرة غیر متناهیین أوجدا هذه البرامج لمثل هذا الهدف المهم .وبهذا نستنتج بوضوح من الآیات المذکورة أنّ النظام المعقد والمذهل لنمو الجنین یُعَدُّ من الآیات والعلامات المهمّة التی تخبر عن وجود العلم والقدرة اللامتناهیة لموجده ، ومن جانب آخر على قدرته على قضیة المعاد والحیاة بعد الموت ، ذلک أنّ الجنین یتخذ کل حین
حیاةً ومعاداً جدید ، ولذلک کان هذا النمو دلیلا على التوحید بقدر ما هو دلیل على المعاد .