عندما نتحدث عن الفطرة فالمقصود هو نفس تلک الاحساسات الداخلیة والإدراکیة التی لاتحتاج إلى أی استدلال عقلی .
عندما نشاهد منظراً طبیعیاً جمیلا جدّاً أو زهرة ذات لون ورائحة طیبة نحسُّ بقوة جذب تدفعنا نحوه ، ویسمى هذا الاحساس بالمیل نحو الجمال وحبه ولا نرى أی حاجة هنا للبرهنة على إثبات قولنا هذا.
أجل ، إنّ المیل للجمال یعد من الرغبات المتعالیة للروح الإنسانیة .
إنّ الاندفاع نحو الدین وخاصةً معرفة الله هو أیضاً من هذه الاحساسات الفطریة والداخلیة ، بل هو من أقوى الدوافع فی أعماق طبیعة وروح جمیع البشر .
ولهذا السبب لا نشاهد قوماً أو أمة لا فی الحاضر ولا فی الماضی التاریخی لم تکن تمتلک نوعاً من العقائد الدینیة تتحکم فی فکرها وروحه ، وهذه علامة على أصالة هذا الاحساس العمیق .
وانطلاقاً من أن التوحید الفطری یُطرح فی مجال براهین معرفة الله کبرهان مستقل مع کل آیاته ، لا نرى داعیاً للبحث المسهب حول هذا الموضوع ، فنکتفی بذکر نقطة واحدة ونؤجل المزید من البحث حول هذا الموضوع فی محلّه إن شاء الله .
عندما یذکر القرآن قصص نهضة الأنبیاء العظام فانّه یؤکد فی عدة مواضع على هذه النقطة وهی أنَّ الرسالة الأصلیة للأنبیاء تتمثل بازالة آثار الشرک والوثنیة ( ولیس إثبات وجود الله ، لأنّ هذا الموضوع مخبَّأٌ فی أعماق فطرة کل إنسان ) .
وبتعبیر آخر : إنّهم لم یکونوا بصدد غرس « بذور عبادة الله » فی قلوب الناس ، بل کانوا فی صدد سقایة الغرسة الجدیدة الموجودة واستئصال الأشواک والأدغال الزائدة المضرة التی قد تقتل أو تُذبِل هذه النبتات بصورة تامة فی بعض الأحیان .
وردت جملة: ( أَلاَّ تَعبُدُوا إِلاَّ اللهَ ) أو ( أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إیَاهُ ) فی کلام الکثیر من الأنبیاء فی القرآن الکریم ، وهی عبارات تفید نفی الأصنام ولیس اثبات وجود الله.
کماجاء فی دعوة رسول الإسلام(صلى الله علیه وآله وسلم): (أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إَنَّنِی لَکُمْ مِنْهُ نَذِیرٌ وَبَشِیرٌ).(هود / 2)
ودعوة نوح(علیه السلام): (أن لاَ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّی أَخَافُ عَلَیْکُمْ عَذَابَ یَوْم أَلِیم). (هود/26)
ودعوة یوسف(علیه السلام): (... أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِیَّاهُ ذَلِکَ الدِّینُ الْقَیِّمُ وَلکِنَّ أَکْثَرَ النَّاسِ لاَیَعْلَمُونَ).(یوسف / 40)
ودعوة النبی هود(علیه السلام): (..أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنِّی أَخَافُ عَلَیْکُمْ عَذَابَ یَوْم عَظِیم).(الاحقاف / 21)
وَفضلا عن هذا فَإننا نمتلک فی أعماق نفوسنا أحاسیس فطریة أصیلة أخرى، منها ما نراه فی نفوسنا فی الرغبة الشدیدة للعلم والمعرفة والاطلاع .
فَهل من الممکن أن نشاهد هذا النظام العجیب فی هذا العالم المترامی ، ولا تکون لنا رغبة فی معرفة مصدر هذا النظام ؟
ألیس من الغرابة أن یقضی أحد العلماء مدة عشرین سنة من أجل التعرف على حیاة النمل ، ویثابر عالِم آخر عشرات السنین لمعرفة عادات أوضاع بعض الطیور أو الأشجار أو أسماک البحار بدون أن یکون لدیه دافع لحب العلم ؟ هل یمکن أنّهم لا یریدون معرفة مصدر هذا البحر اللامتناهی الذی یشمل الأشیاء من الأَزلِ إلى الأبد ؟ !
نعم ، هذه دوافع تدعونا إلى « معرفة الله » ، العقل یدعونا إلى هذا الطریق ، العواطف تجذبنا نحو هذا الاتّجاه ، والفطرة تدفعنا إلى هذه الجهة .
کانت هذه خلاصة للمحفزات والدوافع الواقعیة والحقیقیة لظهور الدین ومعرفة الله .