6 هل الاعتقاد بالسلطة الغیبیة [497-509]

SiteTitle

صفحه کاربران ویژه - خروج
ورود کاربران ورود کاربران

LoginToSite

SecurityWord:

Username:

Password:

LoginComment LoginComment2 LoginComment3 .
SortBy
 
مفاهیم القرآن
کلام آخر للمودودی [510-514]5 ما هو معنى الإلوهیة وما هو ملاکها؟ [487-496]
لغیر اللّه موجب للشرک؟
لا شک فی أنّ طلب الحاجة من أحد ـ بصورة جدیة ـ إنّما یصح إذا اعتقد طالب الحاجة بأنّه قادر على انجاز حاجته، وهذه القدرة قد تکون قدرة ظاهریة ومادیة، کأن نطلب من أحد أن یسقینا ماءً، ویجعله تحت تصرفنا، وقد تکون القدرة قدرة غیبیة، خارجة عن نطاق المجاری الطبیعیة والقوانین المادیة، کأن یعتقد أحد بأنّ الإمام علیاً ـ علیه السَّلام ـ قلع باب خیبر بالقدرة الغیبیة، کما جاء فی الحدیث.
أو أنّ المسیح ـ علیه السَّلام ـ کان یقدر، بقدرة غیبیة على منح الشفاء لمن استعصی علاجه، دون دواء، أو إجراء عملیة جراحیة.
والاعتقاد بمثل هذه القدرة الغیبیة إن کان ینطوی على الاعتقاد بأنّها مستندة إلى الإذن الإلهی، وإلى القدرة المکتسبة منه سبحانه ، فهی حینئذ لا تختلف عن القدرة المادیة الظاهریة، بل هی کالقدرة المادیة التی لا یستلزم الاعتقاد بها الشرک، لأنّ اللّه الذی أعطى القدرة
_____________________________________ [الصفحة 498] _____________________________________
المادیة لذلک الفرد، هو الذی أعطى القدرة الغیبیة لآخر، دون أن یعد المخلوق خالقاً، وأن یتصور استغناء أحد عن اللّه.
فلو قام أحد بمعالجة المرضى عن طریق السلطة الغیبیة، فقد قام بأمر اللّه وإذنه ومشیئته، ومثل ذلک لا یعد شرکاً، وتمییز السلطة المستندة إلى اللّه عن السلطة المستقلة هو حجر الأساس لامتیاز الشرک عن التوحید، وبذلک یظهر خطأ کثیر ممّن لم یفرقوا بین السلطة الغیبیة المستندة، والسلطة الغیبیة غیر المستندة.
وقالوا: لو أنّ أحداً طلب من أحد الصالحین ـ حیّاً کان أم میتاً ـ شفاء علّته أو رد ضالّته، أو أداء دینه، فهذا ملازم لاعتقاد السلطة الغیبیة فی حق ذلک الصالح وإنّ له سلطة على الأنظمة الطبیعیة، الحاکمة على الکون بحیث یکون قادراً على خرقها وتجاوزها،والاعتقاد بمثل هذه السلطة لغیراللّه عین الاعتقاد بالوهیة ذلک المسؤول،وطلب الحاجة فی هذا الحال یکون شرکاً.
فلو طلب إنسان ظامئ الماء من خادمه فقد اتبع الأنظمة الطبیعیة لتحقّق مطلبه، أمّا إذا طلب الماء من إمام أو نبیّ موارى تحت التراب، أو عائش فی مکان ناء، فإنّ مثل هذا الطلب ملازم للاعتقاد بسلطة غیبیة لهذا النبی، أو الإمام على نحو ما یکون للّه سبحانه ، ومثل هذا عین الاعتقاد بالوهیة المسؤول !!
وممّن صرح بهذا الکلام الکاتب أبو الأعلى المودودی، إذ یقول:
صفوة القول إنّ التصور الذی لأجله یدعو الإنسان الإله، ویستغیثه، ویتضرّع إلیه، هو ـ لا جرم ـ تصوّر کونه مالکاً للسلطة المهیمنة على قوانین الطبیعة وللقوى الخارجة عن دائرة نفوذ قوانین الطبیعة.(1)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . المصطلحات الأربعة: 17.
_____________________________________ [الصفحة 499] _____________________________________
وهذا الکلام صریح فی أنّه جعل الاعتقاد بهذه السلطة المهیمنة ملاکاً للاعتقاد بالإلوهیة، وقد صرّح بذلک فی موضع آخر من کتابه حیث جعل ملاک الأمر فی باب الإلوهیة هو الاعتقاد بأنّ الموجود المسؤول قادر على أن ینفع أو یضر بشکل خارج عن إطار القوانین والسنن الطبیعیة المألوفة، إذ قال:
فالذی یتخذ کائناً ما ولیّاً له ونصیراً وکاشفاً عنه السوء، وقاضیاً لحاجته، ومستجیباً لدعائه، وقادراً على أن ینفعه، کل ذلک بالمعانی الخارجة عن نطاق السنن الطبیعیة، یکون السبب لاعتقاده ذلک ظنّه فیه أنّ له نوعاً من أنواع السلطة على نظام هذا العالم، وکذلک من یخاف أحداً ویتّقیه ویرى أنّ سخطه یجر علیه الضرر، ومرضاته تجلب له المنفعة لا یکون مصدر اعتقاده ذلک وعمله إلاّ ما یکون فی ذهنه من تصور أنّ له نوعاً من السلطة على هذا الکون، ثم إنّ الذی یدعو غیر اللّه ویفزع إلیه فی حاجته بعد إیمانه باللّه العلی الأعلى فلا یبعثه على ذلک إلاّ اعتقاده فیه أنّه له شرکاً فی ناحیة من نواحی السلطة الإلوهیة.(1)
وصریح هذا الکلام هو التلازم بین القدرة على النفع والضرر، والاعتقاد بالسلطة الإلوهیة، وإنّ کل قدرة على النفع والضرر من غیر المجاری الطبیعیة ینطوی على الإلوهیة، بالملازمة.
وهذا جد عجیب من المودودی .
إذا مضافاً إلى أنّ الاعتقاد بالإلوهیة لا یستلزم الاعتقاد بالسلطة فی الطرف الآخر، بل یکفی الاعتقاد بکونه مالکاً للشفاعة والمغفرة کما کان علیه فریق من عرب الجاهلیة، إذ کانوا یعتقدون فی شأن أصنامهم بأنّها آلهتهم، لأنّها مالکة
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . المصطلحات الأربعة: 23، وفی موضع آخر صرح بهذا الاستلزام إذ قال فی ص 30: انّ کلاّ من السلطة والالوهیة تستلزم الأُخرى.
_____________________________________ [الصفحة 500] _____________________________________
شفاعتهم ومغفرتهم، ومعلوم ـ جیداً ـ أنّ مالکیة الشفاعة غیر القول بوجود السلطة التی یراد منها: السلطة على عالم التکوین.
إنّ الاعتقاد بالسلطة الغیبیة الخارجة عن إطار السنن الطبیعیة لا یوجب الاعتقاد بالإلوهیة.
إنّ السلطة على الکون بجمیعه ـ فضلاً عن بعضه ـ إذا کانت بأقدار اللّه تعالى وبإذن منه ـ فهی بنفسها ـ لا تلازم الإلوهیة، فکما أنّ اللّه أعطى لآحاد الناس قدرة محدودة فی أُمورهم العادیة، وفضل بعضهم على بعض فی تلک القدرة، فکذلک لا مانع من أن یعطی لفرد أو أفراد من خیار عباده قدرة تامّة على جمیع الکون، عادیة أو غیر عادیة، وذلک بنفسه لا یستلزم الإلوهیة، والذی یمکن أن یقع علیه الکلام هو البحث عن وجود تلک القدرة وانّه سبحانه هل أعطى ذلک أو لا؟ والقرآن یصرح بذلک فی عدة موارد، منها ما ورد فی شأن یوسف ـ علیه السَّلام ـ :
1. یوسفعلیه السَّلام والسلطة الغیبیة
أمر یوسف ـ علیه السَّلام ـ إخوته بأن یأخذوا قمیصه إلى أبیه ویلقوه على بصره لیرتد بصیراً، کما یقول القرآن الکریم فی هذا الشأن:
(اذْهَبُوا بِقَمِیصِی هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِی یَأْتِ بَصِیراً).(1)
(فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِیرُ ألْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِیراً).(2)
إنّ ظاهر الآیة یعطی أنّ رجوع البصر إلى یعقوب کان بإرادة یوسف، وأنّه لم یکن فعلاً مباشراً للّه سبحانه، وإنّما فعل ما فعله یوسف بقدرة مکتسبة منه سبحانه .
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . یوسف: 93.
2 . یوسف: 96.
_____________________________________ [الصفحة 501] _____________________________________
ولو کان إشفاء یعقوب مستنداً إلى اللّه سبحانه مباشرة بلا دخالة یوسف لما أمر إخوته أن یلقوا قمیصه على وجه أبیهم،
بل یکفی هناک دعاؤه من مکان بعید، ولیس هذا إلاّ تصرّف لولی اللّه فی الکون بإذنه سبحانه .
2. موسى ـ علیه السَّلام ـ والسلطة على الکون
ونظیر هذا نجده فی أنبیاء آخرین کموسى ـ علیه السَّلام ـ،
إذ قیل له: (اضْرِب بِعَصَاکَ الْحَجَرَفَانْفَجََرَتْ مِنْهُ اثْنَتَاعَشْرَةَ عَیْناً)(1) فلو لم یکن لضربه بالعصا عن إرادته،
تأثیر فی تفجّر الماء من الصخر لما أمر به اللّه سبحانه .
وربما یتصور أنّ موسى یضرب بعصاه، ولکن اللّه هو الذی یفجّر الأنهار، فهذا لا یدل على سلطة غیبیة لموسى،
إذ غایة الأمر أنّ اللّه تعالى یفعل تفجیر الأنهار عند ضربه، لکنه ضعیف یرجع إلى لغویة الأمر بالضرب بالعصا،
فإنّ الضرب بالعصا لیس من قبیل الدعاء، حتى یقال إنّه سبحانه یجیب دعوته عند دعائه.
وعلى الجملة لا یمکن أن تنکر مشارکة ضربه بالعصا وإرادته ذاک العمل فی تفجر العیون، وإن کان اذنه سبحانه ومشیئته فوقه، ولا تدل الآیة على أزید من هذا.
ومثله قوله سبحانه :
(فَأَوْحَیْنَا إِلَى مُوْسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاکَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَکَانَ کُلُّ فِرْق کَالطَّوْدِ الْعَظِیمِ).(2)
ودلالة هذه الآیة على ما نرتئیه لا تقصر عن دلالة الآیة السابقة.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . البقرة: 60.
2 . الشعراء: 63.
_____________________________________ [الصفحة 502] _____________________________________
3. أصحاب سلیمانعلیه السَّلام والسلطة الغیبیة
کما أنّ مثل هذه السلطة الغیبیة لم تقتصر على من ذکرنا، بل یثبتها القرآن الکریم لأصحاب سلیمان وحاشیته، فها هو أحد حاشیته یضمن له ـ علیه السَّلام ـ احضار عرش ملکة سبأ قبل أن یقوم من مقامه، وقبل أن ینفض مجلسه، إذ قال سبحانه (قَالَ یَا أَیُّهَا الْمَلأ أَیُّکُمْ یَأْتِینِی بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ یَأْتُونِی مُسْلِمِینَ * قَالَ عِفْرِیتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنا آتِیکَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِکَ وَإِنِّی عَلَیْهِ لَقَوِیٌّ أَمِینٌ).(1)
بل ویضمن له آخر من حواشیه أن یحضر العرش المذکور فی أقل من طرفة عین، إذ قال:
(قَالَ الَّذِی عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْکِتَابِ أَنَا آتِیکَ بِهِ قَبْلَ أَنْ یَرْتَدَّ إِلَیْکَ طَرْفُکَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّی)(2).
ولم یتبیَّن ـإلى الآن ـ ما المراد من هذا العلم الذی کان یحمله قائل هذاالقول به:(أَنَا آتِیکَ بِهِ قَبْلَ أَنْ یَرْتَدَّ إِلَیْکَ طَرْفُکَ)(3).
وسواء أکان المراد من ذلک هو العلم بخواص الأشیاء الغریبة وکیفیة معالجتها واحضارها من مکان بعید فی أقل من طرفة عین، أم کان المراد منه غیره.
وعلى أیِّ تقدیر فلیس هذا العلم من سنخ العلوم الفکریة التی تقبل الاکتساب وتنال بالتعلّم، وهذا یکفی فی عد عمله خارقاً للنوامیس العادیة والسنن الطبیعیة المکشوفة الرائجة.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . النمل: 38 ـ 39.
2 . النمل: 40.
3 . ذکر المفسرون هناک أقوالاً واحتمالات فراجع المیزان: 15/363.
_____________________________________ [الصفحة 503] _____________________________________
وربما یحتمل أنّه إذا کان عمله مستنداً إلى علمه بغرائب خواص الأشیاء المستورة على الناس لا یخرج عن کونه عملاً طبیعیاً، وإن کان یعد غریباً، ولعله کان له علم بغرائب الخواص، وفیه ـ مع أنّه احتمال غیر مدعم بدلیل ـ لا یخرج عمل العامل عن کونه قرین المعجزات وعدیل الکرامات التی لا یقدر علیها إلاّ أولیاء اللّه سبحانه .
وقد احتمل بعض فی باب المعجزات أن یکون عمل الآتی بها، مستنداً إلى علمه بالسنن الطبیعیة التی لم یقف علیها أحد من الناس، فیتصرف فی الطبیعة لإحاطته بتلک القوانین غیر المعروفة، ولیس هذا من العلوم الفکریة التی تقبل الاکتساب والتعلّم، وهذا یکفی فی عدّه معجزة أو کرامة.
4. سلیمان والسلطة الکونیة
ویصرح القرآن کذلک بسلطة خارقة لسلیمان ـ علیه السَّلام ـ فی سور مختلفة:
1. انّه کان لسلیمان سلطة على الجن والطیر حتى أصبحت من جنوده:
(وَحُشِرَ لِسُلَیْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الّجِنِّ وَالأِنسِ وَالطَّیْرِ ...)(1).
2. انّه وهب السلطة على عالم الحیوانات حتى أنّه کان یخاطبهم ویتهددهم ویطلب منهم تنفیذ أوامره:
(وَتَفَقَّدَ الطَّیْرَ فَقَالَ مَا لِیَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ کَانَ مِنَ الْغائِبِینَ * لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِیداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَیَأْتِیَنِّی بِسُلْطَان مُبِین)(2).
3. وانّه سُلِّط على الجن فکانوا یعملون بأمره وإرادته:
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . النمل: 17.
2 . النمل: 20 ـ 21.
_____________________________________ [الصفحة 504] _____________________________________
(وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ یَعْمَلْ بَیْنَ یَدَیْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ... یَعْمَلُونَ لَهُ مَا یَشاءَ).(1)
4. وانّه سُلِّط على الریح أیما تسلیط:
(وَلِسُلَیْمَانَ الرِّیحَ عَاصِفَةً تَجْرِی بِأَمْرِهِ).(2)
وعلى أی تقدیر فأیة سلطة أعظم وأوضح من هذه السلطة على عالم التکوین التی کانت لسلیمان، والجدیر بالذکر أنّ بعض الآیات صرحت بأنّ کل هذه الأُمور غیر العادیة کانت تتحقّق له بأمره.
5. المسیحعلیه السَّلام والسلطة الغیبیة
ومثله ما صدر عن عیسى المسیح ـ علیه السَّلام ـ من تصرّف یکشف عن وجود سلطة خارقة للعادة، إذ کان یخلق من الطین کهیئة الطیر، وینفخ فیه فیکون طیراً یتحرک ویطیر، أو یعالج ما استعصی من الأمراض والعلل دونما آلة أو دواء، کما یحدّثنا القرآن الکریم، حیث یقول:
(أَنِّی أَخْلُقُ لَکُمْ مِنَ الطِّینِ کَهَیْئَةِ الطَّیْرِ فَأَنْفُخُ فِیهِ فَیَکُونُ طَیْراً بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأکْمَهَ وَالأبْرَصَ وَأُحْیِی الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُکُمْ بِمَا تَأْکُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِی بُیُوتِکُمْ إِنَّ فِی ذَلِکَ لآیَةً لَکُمْ إِنْ کُنْتُمْ مُؤْمِنینَ).(3)
والجدیر بالذکر أنّ اللّه یصرح فی آیة أُخرى بأنّ هذه التصرفات کانت نتیجة فعل عیسى نفسه، الکاشف عن سلطته نفسه (وإن کانت مستندة إلى اللّه م آلاً)، إذ یقول تعالى:
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . سبأ: 12.
2 . الأنبیاء: 81.
3 . آل عمران: 49.
_____________________________________ [الصفحة 505] _____________________________________
(وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّینِ کَهَیئَةِ الطَّیْرِ بِإذْنی فَتَنْفُخُ فِیهَا فَتَکُونُ طَیْراً بِإِذْنِی وَتُبْرِئُ الأکْمَهَ وَالأبْرَصَ بِإِذْنِی وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِی).(1)
ولما کان صدور هذه الآیات منه مستنداً إلى اللّه تعالى من غیر أن یستقل عیسى بشیء منها کرر جملة بإذن اللّه فی کل مورد، لکیلا یضل فیه الناس فیعتقدوا بالوهیته، لصدور تلک الآیات منه، ولأجل ذلک قیّد المسیح کلَّ آیة یخبر بها عن نفسه کالخلق وإحیاء الموتى بـ (إِذن اللّه) ثم ختم الکلام فی آیة أُخرى بقوله:
(إِنَّ اللّهَ رَبِّی وَرَبُّکُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِیمٌ).(2)
وظاهر قوله: (إِنَّی أَخْلُقُ لَکُمْ) صدور هذه الآیات منه فی الخارج، ولم یکن الهدف منه مجرّد الاحتجاج والتحدّی، ولو کان المراد ذلک لکان حق الکلام تقییده بقوله: إن سألتم أو أردتم.
على أنّ ما یحکیه اللّه سبحانه عنه ویخاطبه به یوم القیامة، یدل على وقوع هذه الآیات أتم دلالة، حیث قال:
(وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّینِ کَهَیئَةِ الطَّیْر بِإِذْنی فَتَنْفُخُ فِیهَا فَتَکُونُ طَیْراً بِإِذْنِی وَتُبْرِئُ الأکْمَهَ وَالأبْرَصَ بِإِذْنِی وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى).
وها هنا یبرز سؤال، وهو: إذا کان الإخبار عن الغیب آیة من آیاته المعجزة، فلماذا لم یقیّده بـ إذن اللّه کما قید الآیات الأُخر بهذا القید، مع أنّ الإتیان بکلِّ آیة من آیات الرسل مقیّد بإذن اللّه سبحانه حیث یقول:
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . المائدة: 110.
2 . آل عمران: 51.
_____________________________________ [الصفحة 506] _____________________________________
(وَمَا کَانَ لِرَسُول أَنْ یَأْتِیَ بِ آیَة إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ)؟.(1)
والإجابة عن هذا السؤال واضحة: فإنّ الإخبار عن ما یأکله الناس ویدّخرونه فی بیوتهم لیس کالخلق والإحیاء وإبراء الأکمه والأبرص، فإنّ القلوب الساذجة تقبل وتتوهم الوهیة خالق الطیر ومحیی الموتى ومبرئ الأکمه والأبرص بأدنى وسوسة ومغالطة، بخلاف الوهیة من یخبر عن المغیّبات فإنّها لا تذعن لاختصاص الغیب باللّه سبحانه، بل تعتقده أمراً یناله کلّ مرتاض أو کاهن، ولأجل ذلک لم یر حاجة إلى تقییده بـ إذن اللّه.(2)
سؤال آخر هو: انّ قوله سبحانه :(أَنِّی أَخْلُقُ لَکُمْ مِنَ الطِّینِ کَهّیئَةِ الطَّیْرِ فَأَنْفُخُ فِیهِ فَتَکُونُ طَیْراً بِإِذْنِ اللّهِ) مشتمل على أُمور:
1. خلق هیئة الطیر من الطین.
2. النفخ فی تلک الهیئة .
3. صیرورتها طیراً بإذن اللّه .
وما هو فعل عیسى ـ علیه السَّلام ـ إنّما هو الأوّلان، والثالث خارج عن فعله، بل هو فعل اللّه بقرینة تقیید الثالث بإذن اللّه دون الأوّل والثانی، وعلى الجملة: للخلق معنیان:
أ. الإیجاد من العدم.
ب. التقدیر .
والمتعیّن فی المقام هو المعنى الثانی، والإیجاد من العدم إنّما یتصوّر فیما لم تکن
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . غافر: 78.
2 . المیزان: 3/218.
_____________________________________ [الصفحة 507] _____________________________________
هنا مادة متحولة، والمفروض وجود الطین فی المقام، وما صدر عن عیسى هو التقدیر، أعنی: تقدیر الطین کهیئة الطیر، وبقی الثالث وهو صیرورته طیراً حقیقیاً، فهو فعل اللّه یتحقق بإذنه سبحانه ، فلم یبق هنا فعل غیر عادی یصح استناده إلى المسیح ـ علیه السَّلام ـ .
أمّا الجواب، فنقول:
أوّلاً: أنّا لا نسلم بأنّ قوله تعالى: (بإذن اللّه) راجع إلى الأمر الثالث، بل من المحتمل جداً رجوعه إلى الأُمور الثلاثة، والشاهد علیه أنّه قیّد الأمر الأوّل من سورة المائدة بهذا القید حیث قال سبحانه :
(وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّینِ کَهَیئَةِ الطَّیْرِ بِإِذْنی فَتَنفُخُ فِیهَا فَتَکُونُ طَیْراً بِإِذْنِی).(1)
وعلى ذلک فلا یدل تقیید الأمرالثالث بإذن اللّه على أنّ الأمرین الأوّلین فعل عیسیعلیه السَّلام والأمر الثالث فعل اللّه سبحانه، بل الکلّ فعله ـ علیه السَّلام ـ من جهة، وفعل اللّه من جهة أُخرى.
وثانیاً: لو سلمنا بذلک التکلّف فی خلق الطیر، فماذا یمکن أن یقال فی إبراء الأکمه والأبرص وإحیاء الموتى، التی هی من أفعال اللّه، کصیرورة الطین طیراً، فقد نسبه اللّه إلى نفسه، وقال: (وَأُبْرِئُ الأکْمَهَ وَالأبْرَصَ وَأُحْیِی الْمَوْتَى بِإِذْنِاللّهِ)(2) حتى أنّ اللّه سبحانه نسبها إلى المسیح وخاطبه بها وقال: (وَتُبْرئُ الأکْمَهَ وَالأبْرَصَ بِإِذْنِی وَ إذْتُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِی).(3)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . المائدة: 110.
2 . آل عمران: 49.
3 . المائدة: 110.
_____________________________________ [الصفحة 508] _____________________________________
على أنّ اللّه یصف طائفة من ملائکته أیضاً بهذه السلطة فیقول عن جبرئیل بأنّه: (شَدِیدُ الْقُوَى).(1).
أی قواه العلمیة کلّها شدیدة فیعلم ویعمل(2) وکیف لا یکون ذا قوة وقد اقتلع قرى قوم لوط فرفعها إلى السماء ثم قلبها،
ومن شدة قوته صیحته على قوم ثمود حتى هلکوا(3) ولو کان المراد من شدید القوى هو جبرئیل، فقد وصفه اللّه فی موضع آخر بقوله: (ذِی قُوَّة عِنْدَ ذِی الْعَرشِ مَکِین)(4)، ومن هذا هو شأنه فله السلطة الغیبیة بإذنه سبحانه على الکون.
وهل هناک سلطة غیبیة أظهر من هذه التی یثبتها القرآن الکریم لفریق من عباد اللّه وأولیائه، فإذا کان الاعتقاد بالسلطة الغیبیة لأحد ملازماً للاعتقاد بالوهیته لزم أن یکون جمیع هؤلاء: آلهة من وجهة نظر القرآن ، بل لا بد من القول بأنّ تحصیل مثل هذه السلسلة الغیبیة أمر ممکن لأشخاص آخرین ـ حتى غیر الأنبیاء ـ عن طریق العبادة.
فالعبادة التی یتصور أغلبیة الناس أنّ آثارها تنحصر فی جلب رضاء اللّه، ودفع غضبه فقط، تمنح الروح قدرة عظیمة، وبعداً أعمق من ذلک.
فالعبادة ذات تأثیر جد عظیم فی الباطن، والروح.
إذ الانتهاء عن المحرمات، والمکروهات، والتزام الواجبات والمستحبات، والإخلاص فیها ذات أثر عظیم، وعمیق،
فی تقویة الروح، وتجهیزها بقدرة خاصة خارقة للقوانین والسنن بحیث تکون الروح منشأ لآثار خارقة للعادة.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . النجم: 5.
2 . مجمع البیان: 5/173.
3 . مفاتیح الغیب للرازی: 7/702.
4 . التکویر: 20.
_____________________________________ [الصفحة 509] _____________________________________
وهذا هو ما أشارت إلیه أحادیث صحاح منها : ما روی فی الحدیث القدسی عن قوله تعالى:
ما تقرّب إلیّ عبد بشیء أحب إلیّ مما افترضت علیه، وانّه لیتقرّب إلیّ بالنافلة حتى أحبه، فإذا أحببته کنت سمعه الذی یسمع به، وبصره الذی یبصر به، ولسانه الذی ینطق به، ویده التی یبطش بها.(1).
فالحق: أنّ السلطة الغیبیة التی أعطاها سبحانه لخیار عباده لیتصرفوا فی الکون بإذنه ومشیئته، ویخرقوا قوانین الطبیعة فی مجالات خاصّة لا تستلزم الاعتقاد بالإلوهیة، ولا یکون صاحبها نداً وشریکاً للّه تعالى.
نعم، الاعتقاد بالسلطة الغیبیة المستقلّة من دون أن تکون مستندة إلیه سبحانه هو الموجب للاعتقاد بالإلوهیة، وقد قال سبحانه فی هذا الصدد:
(وَمَا کَانَ لِرَسُول أَنْ یَأْتِی بِ آیَة إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ).(2).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . أُصول الکافی: 1/352. روى هذا الحدیث بإسناد صحیح، وظهور الروایة فی أنّ العبادة تخلق للنفس قدرة خارقة مما لا ینکر واحتمال أنّ المقصود منها أنّ فعل العبد یکون محفوفاً برضا اللّه سبحانه ، وانّه لا یفعل ولا یترک إلاّ ما فیه رضاه، احتمال مرجوح جداً، فإنّ الحرکة على طبق رضاه طیلة الحیاة، لیست أثر خصوص فعل الصلوات فرائضها ونوافلها، بل هی قبل کل شیء إثر الإیمان باللّه وثوابه وعقابه، لا الإقبال على الفرائض والنوافل، ولو کان لهذه الأفعال تأثیر فی تلک الحرکة فلیکن للصوم والحج والجهاد، تأثیر أیضاً فلماذا لم یذکرها. فعلم أنّ للصلاة فریضتها ونافلتها، تأثیراً فی تقویة النفس والروح ورفعها إلى حد یقدر معه الإنسان ، على أن یکون مظهراً للّه سبحانه فی بصره وسمعه، وبطشه وتکلمه، فیبصر ببصره، ویسمع بسمعه، ما لا یبصر ولا یسمع بغیره.
2 . الرعد: 38.
_____________________________________ [الصفحة 510] _____________________________________
کلام آخر للمودودی [510-514]5 ما هو معنى الإلوهیة وما هو ملاکها؟ [487-496]
12
13
14
15
16
17
18
19
20
Lotus
Mitra
Nazanin
Titr
Tahoma