التوحید الاستدلالی: البرهان الثانی [139-151]

SiteTitle

صفحه کاربران ویژه - خروج
ورود کاربران ورود کاربران

LoginToSite

SecurityWord:

Username:

Password:

LoginComment LoginComment2 LoginComment3 .
SortBy
 
مفاهیم القرآن
التوحید الاستدلالی: البرهان الثالث [152-156]التوحید الاستدلالی: البرهان الأوّل [129-138]
الأُفول والغروب
یدلّ على وجود مسخّر
(وَکَذَلِکَ نُرِیَ إِبْرَاهِیمَ مَلَکُوتَ السَّماوَاتِ وَالأرْضِ وَلِیَکُونَ مِنَ الْمُوقِنِینَ *فَلَمَّا جَنَّ عَلَیْهِ اللَّیْلُ رَأَى کَوْکَباً قالَ هَذَا رَبِّی فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِینَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّی فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ یَهْدِنِی رَبِّی لأکُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّینَ * فَلَمَّا رَأى الْشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبّی هَذَا أَکْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ یَا قَوْمِ إِنِّی بَرِیءٌ مِمَّا تُشْرِکُونَ *إِنِّی وَجَّهْتُ وَجْهِیَ لِلَّذِی فَطَرَ السَّماوَاتِ وَالأرْضَ حَنِیفاً وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِکِینَ *وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّی فِی اللّهِ وَقَدْ هَدَانی وَلا أَخَافُ مَا تُشْـرِکُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ یَشَاءَ رَبِّی شَیْئاً وَسِعَ رَبِّی کُلَّ شَیْء عِلْماً أَفَلا تَتَذَکَّرُونَ *وَکَیْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَکْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّکُمْ أَشْرَکْتُمْ بِاللّهِ مَا لَمْ یُنَزِّل بِهِ عَلَیْکُمْ سُلْطَاناً فَأَیُّ الْفَرِیقَیْنِ أَحَقُّ بِالأمْنِ إِنْ کُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِینَ آمَنُوا وَلَمْ یَلْبِسُوا إیْمَانَهُمْ بِظُلْم أُوْلَئِکَ لَهُمْ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَتِلْکَ حُجَّتُنَا آتَیْنَاهَا إِبْرَاهِیمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَات مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّکَ حَکِیمٌ عَلِیمٌ).(1)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الأنعام: 75 ـ 83.
_____________________________________ [الصفحة 140] _____________________________________
قبل أن نبیّن هدف هذه الآیات لابد من الإشارة إلى عدّة نقاط تساعد على فهم مفاد هذه الآیات :
1. الملکوت و الملک تهدفان إلى معنى واحد غیر انّه أُضیف إلى الأوّل الواو والتاء لأجل المبالغة والتوکید على غرار جبروت و طاغوت الذی یرجع أصلهما إلى جبر وطغیان.
وحیث إنّ معنى الملک هو المالکیة والحاکمیة لذلک فمن الطبیعی أن یکون معنى الملکوت هو ذلک المعنى نفسه مع المبالغة والتأکید .
وسوف نوضح عند شرح استدلال إبراهیم ـ علیه السَّلام ـ کیف أبطل الخلیل: حکومة الکواکب والشمس والقمر ومشارکتها فی تدبیر نظام الکون والحیاة الإنسانیة. وبالتالی أعلن عن اعتقاده بأنّه لیس للکون سوى مدبّر واقعی واحد تجری أُمور العالم تحت إرادته خاصّة.
2. استفاد بعض المفسرین من العبارات التالیة: رأى کوکباً، فلما رأى القمر وما یماثلهما أنّ إبراهیم ـ علیه السَّلام ـ قال هذه العبارات عندما وقع نظره ـ لأوّل مرّة ـ على تلک الکواکب إذ أنّه لم یکن قد رآها قبل ذلک.
وتؤید بعض الروایات هذا الرأی حیث تقول: إنّ أُم إبراهیم ـ علیه السَّلام ـ أخفته منذ بدء طفولته فی الغار، خوفاً علیه من بطش طاغیة زمانه نمرود، وکان هذا أول خروجه من الغار، والتحاقه بمجتمعه، وقومه، وأوّل خطوة له فی مطالعة ما حوله والتحقیق فیما یراه.
غیر أنّ هاهنا احتمالاً آخر هو أنّ إبراهیم ـ علیه السَّلام ـ کان قد رأى الشمس والقمر والکواکب من قبل، ولکنَّه لم ینظر إلیها بنظرة الباحث المدقّق، وکان هذا أوّل
_____________________________________ [الصفحة 141] _____________________________________
مطالعته الباحثة للکون، وأوّل نظره إلى ما حوله بنظرة المحقق المتأمّل واستفادته هذه المطالب التوحیدیة من ذلک.
3. تشهد عبارة (یَا قَوْمِ إِنِّی بَرِیءٌ مِمَّا تُشْرِکُونَ) أنّ إبراهیم بدأ تحقیقه هذا بین أبناء قومه الذین کانوا یعبدون هذه الکواکب باعتقاد أنّها أرباب وتشهد أنّهم کانوا معه، فی کل المراحل الثلاث من التحقیق، المذکورة فی الآیات ، یرون تحقیقه، ویشاهدون بحثه، للوقوف على الرب الحقیقی ویسمعون کلامه طوال ذلک البحث والتأمّل.
ولو کان الأمر على غیر هذا لما صح توجیه الخطاب إلى قومه مرّة واحدة فیقول: (یَا قَوْمِ إِنِّی بَرِیءٌ مِمَّا تُشْرِکُونَ) ، لأنّ الهدف من جعل قومه موضعاً لخطابه هو ضم قومه إلیه فی الاعتقاد الصحیح، ودفعهم إلى ترک الشرک، وهذا التکلیف إنّما یکون صحیحاً إذا سمعوا منطقه وحدیثه المبرهن.
4. عندما کانت تقع عینا إبراهیم على الکوکب أو القمر أو الشمس کان یقول: (هَذَا رَبِّی) .
إنّ هذه الجملة لا تعنی ـ بالمرّة ـ وللأدلة التی سنذکرها ، إذعاناً قلبیاً بربوبیة هذه النجوم بل کان الهدف هو طرح النظریة هذه لیتضح ویوضح ـ بعد ذلک ـ بطلانها أو صحتها.
وهذا أسلوب متعارف وشائع فی عملیات البحث والتحقیق العلمی.
فالباحث عن علّة حادثة ما یستعرض فی مخیلته جمیع الاحتمالات والفروض الواحد تلو الآخر، ویعمد إلى مطالعة کل واحد من هذه الفروض والاحتمالات فیفترض کونه هو العلة ولو للحظة واحدة، ولا یترکه إلى غیره ما لم تتضح النتیجة
_____________________________________ [الصفحة 142] _____________________________________
وما لم یثبت بطلان الفرض. فإذا ثبت بطلان الفرض ترکه وانتقل إلى دراسة الفرض الآخر، وهکذا یتحکم نوع من الروح الباحثة على کل هذه الفروض دون أن یکون فی البین أیُّ إذعان وتصدیق.
هذا مضافاً إلى أنّ قوله تعالى: (وَکَذَلِکَ نُرِیَ إِبْرَاهِیم ...) یفید أنّ إبراهیم کان مشمولاً بالعنایة الإلهیة الخاصة فی کل المواقف، وکان ـ علیه السَّلام ـ یستمد منه تعالى العون، والمدد، وکان اللّه سبحانه یرید لإبراهیم أن یقف على معنى مالکیة اللّه وحاکمیته المطلقة عبر طی مراحل من استعراض مجموعة من الفرضیات عن حاکمیة الکواکب والنجوم وإبطالها، وأن یطمئن ـ من خلال دلیل رافع للشک ـ إلى أنّ أمر الإنسان بید اللّه ولیس بید هذه الأجرام النوریة الأسیرة فی قبضة القوانین الطبیعیة، الخاضعة للسنن الکونیة.
مع هذا البیان لا یکون قول إبراهیم ـ علیه السَّلام ـ : (هَذَا رَبِّی) بمعنى الإذعان والتصدیق القلبی.
وبعبارة أُخرى: کان اللّه تعالى یرید لإبراهیم أن یکون ـ بمشاهدته لملکوت السماوات والأرض وتعلّق هذه الموجودات بالقدرة الإلهیة ـ من الموقنین، کما صرح بذلک القرآن الکریم بعد أن کان من المؤمنین.
وهذا الکلام لا یعنی ـ بالطبع ـ أنّ إبراهیم کان إلى ذلک الحین خالیاً من هذا الیقین عاریاً عنه. کلا بل کان یعلم بفطرته السلیمة أنّ الرب الحقیقی للکون والإنسان هو اللّه الخالق لا غیر، ولکنّه أُرید له أن یقف على ذلک الأمر الذی کانت الفطرة تدعو إلیه عن طریق الاستدلال، لیزداد یقیناً إلى یقین.
ولم یکن هذا بالأمر الجدید فی شأن إبراهیم ـ علیه السَّلام ـ ، بل تکرر منه مثل هذا فی أمر المعاد، وبعث الإنسان والحیاة أیضاً.
_____________________________________ [الصفحة 143] _____________________________________
ولک أن تراجع فی هذا الصدد تفسیر قوله سبحانه :
(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِیمُ رَبِّ أَرِنِی کَیْفَ تُحْیِی الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَکِنْ لِیَطْمَئِنَّ قَلْبِی قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الْطَّیْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَیْکَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى کُلِّ جَبَل مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ یَأْتِیَنَکَ سَعْیاً وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِیزٌ حَکِیمٌ).(1)
کل هذا مضافاً إلى أنّ بحث إبراهیم وتحقیقه تم فی حین کان قومه مشرکین یعبدون تلک الکواکب والنجوم، فهو کان فیهم وکانوا معه، وحیث إنّ أحد أهدافه ـ علیه السَّلام ـ فی هذا التحقیق کان إرشاد قومه وهدایتهم إلى طریق الحق والصواب، وذلک یقتضی أن یقبل الموجّه والمرشد الفکرة الباطلة بنحو موقت ثم یعمد إلى إبطالها بالدلیل وإقامة البرهان،
لذلک لم یکن بد لإبراهیم من اتخاذ هذا الاسلوب المعقول والمنطقی فی الإرشاد والهدایة والتوجیه.
5. الظاهر أنّ الآیات المبحوثة تفید أن إبراهیم ـ علیه السَّلام ـ قام بجمیع مراحل بحثه ـ المذکورة فی الآیات ـ
تباعاً وفی موقف واحد بحیث طلع القمر على أثر أُفول النجم، وطلعت الشمس على أثر غیاب القمر .
ومثل هذا الفرض أی ملازمة طلوع القمر مع أُفول النجم یحصل ـ فی الأکثر ـ مع کون النجم المذکور هو الزهرة.
لأنّ کوکب الزهرة ـ نظراً لضیق مداره ـ لا یمکن أن یبتعد عن الشمس أکثر من 47 درجة، ولهذا فهو یلازم الشمس دائماً، وقد یظهر فی السماء قبل طلوع الشمس، ولکن لا یلبث أن یختفی بعید طلوع الشمس، وقد یظهر بعد غروب
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . البقرة: 260.
_____________________________________ [الصفحة 144] _____________________________________
الشمس فی جهة المغرب ولا یلبث أن یغیب من الأُفق بسرعة.
فعلى هذا یقارن غروب الزهرة طلوع القمر فی النصف الثانی من الشهر فی اللیالی 17 و 18 و 19.
لأجل هذا لا یستبعد أن یکون المراد بالکوکب المذکور فی الآیة هو کوکب الزهرة(1).
ذلک مضافاً إلى أنّ الصابئة الذین کانوا یقطنون فی العراق وکان النبی إبراهیم یعیش بینهم کانوا ینسبون تدبیر الظواهر والحوادث الأرضیة إلى السیارات السبع (ومنها الزهرة) وکانوا یحترمون هذه الکواکب فقط دون بقیة الکواکب، هذا على العکس من الهندوس الذین کانوا ینسبون تدبیر الموجودات والوقائع الأرضیة إلى الثوابت من الکواکب ویحترمونها خاصة.
6. تکشف آیة: ( إِنِّی وَجَّهْْتُ وَجْهِیَ لِلَّذِی فَطَرَ السَّموَاتِ وَالأرْضِ) عن أنّ مسألة خالقیة اللّه لم تکن موضع بحث وحوار بین إبراهیم وقومه . فهو وقومه ـ أیضاً ـ کانوا یعتقدون بأنّه لا خالق للکون غیر اللّه، بل کان البحث والجدل یدور حول من هو مدبّر الظواهر والحوادث الأرضیة؟
هل هو اللّه الخالق؟
أم أنّ بعض أُمور تدبیر الموجودات الأرضیة قد فوض إلى بعض المخلوقات
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . وقد أثر عن أئمّة أهل البیت ـ علیهم السَّلام ـ أنّ هذا الکوکب کان الزهرة، من ذلک قول الإمام علی بن موسى الرضا ـ علیه السَّلام ـ : أنّ إبراهیم ـ علیه السَّلام ـ وقع إلى ثلاثة أصناف صنف یعبد الزهرة وصنف یعبد القمر وصنف یعبد الشمس ، فلما رأى الزهرة قال هذا ربی على الاستنکار والاستخبار فلما أفل الکوکب قال: لا أحب الآفلین، لأنّ الأُفول من صفات المحدث لا من صفات القدیم. راجع توحید الصدوق: 74 ـ 75.
_____________________________________ [الصفحة 145] _____________________________________
کما کان یظن ویعتقد قوم إبراهیم فی العراق، ویتصورون أنّ تدبیر الحوادث الأرضیة فوِّض إلى القمر والشمس وغیرهما من الکواکب ؟
إذن فمصب البحث لم یکن إثبات الصانع، أو توحید ذاته تعالى، أو توحید الخالقیة، بل کان تعیین المدبّر الحقیقی للظواهر الأرضیة.
وبتعبیر آخر : فإنّ مصب البحث کان هو التوحید الافعالی، لأنّ البحث فی إرجاع تدبیر الکون، کله أو بعضه، إلى بعض المخلوقات من فروع التوحید فی الأفعال.
وقد کان قوم إبراهیم ـ علیه السَّلام ـ مشرکین فی مسألة التدبیر هذه. وکان إبراهیم یرید أن یدعوهم إلى التوحید فی هذه المسألة ویدفعهم إلى الاعتقاد بوحدانیة المدبّر .
لهذا السبب جاء فی نهایة آیة (وَجَّهْتُ وَجْهِیَ) قوله: (وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِکِینَ)تلویحاً إلى أنّه یعتقد بوحدانیة المدبّر على خلاف ما علیه أبناء قومه المشرکین فی قضیة التدبیر .
7. یستدل إبراهیم بأُفول هذه الأجرام الثلاثة على أنّ هذه الأجرام لا تصلح لأن تکون هی المدبّر لشؤون الأرض وحوادثها، وعلى الأخص: الإنسان .
وهنا ینطرح سؤال هو : کیف ولماذا استدل الخلیل بأُفول هذه الأجرام على عدم کونها مدبّرة، أو مشارکة فی التدبیر ؟!
إنّ الجواب على هذا السؤال یمکن أن یتم فی صور مختلفة على أنّ کل صورة من هذه الصور مفیدة فی حد ذاتها.
_____________________________________ [الصفحة 146] _____________________________________
هذا بالإضافة إلى أنّ تعدد تفسیر منطق إبراهیم فی إبطال مدبّریة الکواکب یکشف عن تعدّد أبعاد مفاهیم القرآن وکثرتها، بحیث یصلح کل بعد منها لفریق من الناس المختلفی المدارک. وإلیک التفسیرات المتعددة المتنوّعة لهذا الاستدلال:
ألف. لمّا کان الهدف من اتخاذ الرب هو أن یبلغ الموجود الضعیف فی ظل اتصاله بالقدرة الربانیة إلى الکمال المطلوب، لذلک ینبغی (بل ویتحتم) أن یکون هذا الرب والمربی قریباً من مربوبیه بحیث یکون عالماً بأحوالهم مطّلعاً على احتیاجاتهم، ولا یکون بعیداً عنهم، مفارقاً لهم، غیر حاضر لدیهم ولا شاهداً لأوضاعهم.
أمّا ذلک الموجود الذی یکون بعیداً عن مربوبیه، ساعة أو ساعات، ویکون نائیاً عنهم بالمرة بحیث یحجب عنهم أنواره، وبرکاته، فکیف یصلح أن یکون مربیاً لتلک الموجودات المربوبة ورباً للکائنات الأرضیة؟!
من أجل هذا کان أُفول هذه الکواکب، وغیبتها علامة على غربتها عن الکائنات الأرضیة وانقطاع الصلة بینها وبین هذه الموجودات، وشاهداً على أنّ لهذه الکائنات مدبّراً غیر هذه الکواکب .. مدبّراً عاریاً عن أی نقص منزّهاً عن أی عیب .
ب. انّ طلوع وغروب الأجرام السماویة وحرکتها المنتظمة فی مدارات لا تتغیر لدلیل قاطع على أنّها خاضعة لموجود آخر فوقها، وأنّها مسخَّرة لقدرة علیا سخَّرها لإرادته، وجعلها محکومة لقوانین خاصة تابعة لمشیئته.
ومن المعلوم أنّ المسخَّر لا یمکن أن یکون مدبّراً مطلقاً، وأنّ الخضوع لقوانین منتظمة آیة ضعف هذه الکواکب، وعلامة واضحة على أنّها لا یمکن أن تحکم على الوجود ، أو تدبّر شؤون الأرض.
_____________________________________ [الصفحة 147] _____________________________________
وأمّا استفادة الکائنات الأرضیة من نور هذه الأجرام فلیست دلیلاً على ربوبیة هذه الأجرام، بل هی شاهد آخر على أنّ هذه الأجرام تأتمر بأوامر قدرة علیا، وتخضع لمشیئة مقام أعلى، وأنّها بالتالی لا تقوم تجاه الأرض إلاّ بما حملت من تکالیف.
ج. ما هو الهدف من حرکة هذه الموجودات، ونعنی النجوم والکواکب هل الهدف هو السیر من النقص إلى الکمال،
أم العکس؟
أمّا الثانی فلیس قابلاً للتصوّر، وعلى فرض التصوّر فلا معنى لأن یسیر الرب من الکمال إلى النقص، والعدم .
إذن لابد أن یکون الأوّل هو الصحیح على حین أنّ ذلک الأمر، أی السیر من النقص إلى الکمال، أفضل شاهد على وجود مربّ آخر، یوصل هذه الموجودات الضعیفة الناقصة فی الحقیقة، القویة فی الظاهر، إلى مرحلة الکمال الأفضل.
وفی الحقیقة فإنّ ذلک المربّی هو الرب الحقیقی الذی یجر هذه الأجرام وما سواها وما دونها نحو الکمال الذی تسیر إلیه.
هذا ویمکن تفسیر وتصویر استدلال النبی إبراهیم ـ علیه السَّلام ـ أشکال أُخرى، بعضها بعید عن روح استدلاله
ـ علیه السَّلام ـ .
وإلیک بعض هذه التفسیرات:
1. انّ الأُفول والغروب فی الأجرام والکواکب علامة الحرکة.
والحرکة ملازمة للتغیّـر فی المتحرّک.
_____________________________________ [الصفحة 148] _____________________________________
والتغیّـر دلیل على حدوث المتحرّک، لأنّ الموجود المتحرّک یصل بعد الحرکة إلى کمال کان فاقداً له قبل ذلک.
لأجل هذا تکون الحرکة ملازمة للحدوث.
ومن البیّـن أنّ الموجود الحادث لکونه غیر أزلی، وغیر أبدی لا یمکنه أن یکون رباً.
ونقائص هذا الاستدلال واضحة:
أوّلاً: إذا کان الأُفول والغروب علامة الحدوث، فإنّ الطلوع والشروق هو أیضاً علامة الحدوث، فلم استدل الخلیل ـ علیه السَّلام ـ بالأُفول والغروب فقط فی حین أنّ الغروب والطلوع من حیث الدلالة على الحدوث سواء؟!
ثانیاً: إذا کان قوم إبراهیم یعتقدون فی شأن الأجرام السماویة بأنّها آلهة واجبة الوجود تنتهی إلیها سلسلة الممکنات صح أن یقال حینئذ أنّ الحدوث لا یلائم ولا یوافق شأنها قطعاً، لأنّها فی هذا الفرض، أی کونها آلهة واجبة الوجود تحتل مکان علّة العلل ولابد أن تکون علّة العلل أزلیة أبدیة.
ولکن قوم إبراهیم کانوا یعتبرون هذه الکواکب مخلوقة للّه، وغایة ما کانوا یعتقدون فی حقّها أنّ أمر تربیة الموجودات الأرضیة وأمر تدبیرها قد فوّض إلیها تفویضاً على النحو الذی مر معناهن.
وفی مثل هذه الحالة لایضیر الحدوث بها، کما لا تشترط الأبدیة والأزلیة فی شأنها.
وبناء على هذا لا ربط لطرح مسألة الحدوث وعدم الأبدیة والأزلیة ببرهان إبراهیم الذی عرضه على قومه.
_____________________________________ [الصفحة 149] _____________________________________
2. إذا کانت الحرکة دلیل الحدوث فهی دلیل الإمکان أیضاً، بدلیل أنّ کل حادث ممکن أیضاً وکل ممکن لا بد أن ینتهی ـ من حیث الوجود ـ إلى موجود آخر، منزّه عن صفة الإمکان، واجب الوجود ـ حسب الاصطلاح العلمی ـ أی غیر مستمد وجوده من غیره.
وإشکال هذا الاستدلال بیّـن أیضاً: لأنّ قوم إبراهیم لم یعتبروا الکواکب ـ قط ـ إلهاً خالقاً یرتبط به وجود العالم لیکون إمکانه دلیلاً على بطلان اعتقادهم وفساد مذهبهم.
3. یعتبر الحکیم صدر المتألّهین استدلال النبی إبراهیم مرتبطاً بإثبات الصانع .. وذهب إلى أنّه ناظر إلى برهان الحرکة، وهو البرهان الذی یتوسّل به علماء الطبیعة لأثبات وجود خالق لهذا الکون، على أساس أنّ الحرکة الشاملة فی الکون تدلّ على محرّک(1).
فقد تصور صدر المتألّهین لأدلة ثبت بطلانها على أثر الاکتشافات المهمة التی تمت فی عالم الفلک والفضاء أنّ حرکة الأجرام السماویة لا تعود إلى طبیعتها، کما أنّ ذلک لیس قسریاً، إنّما هی حرکة نابعة من شوق وإرادة فی هذه الکواکب والأجرام غیر ناشئة عن الغضب أو الشهوة، لأنّ هذه الأجرام أسمى ـ کما فی نظره
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . من الطبیعی أن یستدل کل فریق بما یناسب تخصّصه العلمی على وجود اللّه، وهکذا فعل علماء الطبیعة الذین یبحثون عن خواص المادة وأحوالها، فهم استدلوا على وجود اللّه بالحرکة فقالوا: لا بد لهذا العالم المتحرّک من محرّک، ولابد أن ینتهی هذا المحرک إلى محرک غیر متحرّک لنتخلص من ورطة الدور والتسلسل، وفی هذا الصدد یقول الحکیم السبزواری صاحب المنظومة فی المنطق والفلسفة: ثم الطبیعی طریق الحرکة یأخذ للحق سبیلاً سلکه أی أنّ العالم الطبیعی والناظر فی الأجسام الطبیعیة یسلک طریق الحرکة لإثبات وجوداللّه.
_____________________________________ [الصفحة 150] _____________________________________
ـ من أن تکون حرکتها ناشئة عن الغضب أو الشهوة.
وإذا تبیّـن أنّ حرکتها هکذا فلابد أن یکون الغایة التی تتحرک نحوها أمراً قدسیاً، فإن کان ذلک واجب الوجود ثبت بذلک وجود اللّه الصانع وإن لم یکن کذلک فلابد أن ینتهی إلى واجب الوجود حتماً، دفعاً للتسلسل والدور.
وهکذا أثبت صدر المتألّهین وجود الوعی لدى هذه الأجرام، واستدل من حرکتها على وجود الصانع .. وبذلک تصوّر أنّ استدلال إبراهیم کان لإثبات الصانع.
وإلیک نص ما کتبه صدر المتألّهین فی کتابه المبدأ والمعاد قال:
وللطبیعیین طریق خاص فی الوصول إلى هذا المقصد أی إثبات وجود الصانع وهو أنّهم قالوا فی بیانه: إنّ الأجسام الفلکیة حرکتها ظاهرة، وهی لیست طبیعیة ولا قسریة، بل نفسانیة شوقیة لابد لها من غایة.
وإذ لیست الغایة غضبیة ولا شهویة لتعالیها عنهما .. ولا الغایة الأجسام التی تحتها أو فوقها .. ولا النفوس التی لشیء منها ـ کما ستطلع على بیان الجمیع بالبرهان إن شاء اللّه ـ .
فتعین أن یکون غایتها أمراً قدسیاً مفارقاً عن المادة بالکلیة تکون ذا قوة غیر متناهیة، لا تکون تحریکاته لها على سبیل الاستکمال. . فإن وجب وجوده فهو المقصود، وإن لم یجب فینتهی إلى ما یجب وجوده دفعاً للدور والتسلسل .
وهذه الطریقة هی التی سلکها واعتمد علیها مقدم المشّائین ، وأُشیر إلیها فی الکتاب الإلهی حکایة عن الخلیل(1).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . المبدأ والمعاد: 11 ، والأسفار: 6/44.
_____________________________________ [الصفحة 151] _____________________________________
ولکن هذا الرأی وهذا الاستدلال مضافاً إلى أنّه ثبت بطلانه ـ کما قلنا ـ لبطلان أدلّته، وثبت أنّ حرکة الأجسام الفلکیة لیست حرکة واعیة، توجیه بعید عن هدف إبراهیم ـ علیه السَّلام ـ ، لأنّه ـ کما قیل ـ لم یکن الخلیل ـ علیه السَّلام ـ فی مقام إثبات الصانع و إبطال الإلحاد، بل هو فی مقام استنکار الشرک وإبطال فکرة الشریک للّه فی التدبیر .
کلمة أخیرة حول هذه الآیات
وآخر ما یمکن قوله حول هذه الآیات هو أن نقول:
إنّ هذه الآیات تتحدث مباشرة عن محاربة الشرک فی التدبیر ولکنّها تتعلّق ـ بصورة غیر مباشرة ـ بإثبات الصانع أیضاً، بتقریب أنّ أُفول هذه الکواکب یدلّ على کونها مسخّرة وأنّ هناک مسخّراً هو الذی خلقها وسخّرها.
وفی هذه الصورة لا یمکن أن تکون هی مدبّرة، إنّما التدبیر لذلک الخالق الذی خلقها وسخّرها.
وفی هذه الحالة یکون أُفول وغیاب هذه الأجرام حین کونها دلیلاً على عدم ربوبیتها دلیلاً قاطعاً وشاهداً واضحاً على ربوبیة مسخّرها ومالک أمرها.
_____________________________________ [الصفحة 152] _____________________________________
التوحید الاستدلالی: البرهان الثالث [152-156]التوحید الاستدلالی: البرهان الأوّل [129-138]
12
13
14
15
16
17
18
19
20
Lotus
Mitra
Nazanin
Titr
Tahoma