الفصل الثامن [375-423]

SiteTitle

صفحه کاربران ویژه - خروج
ورود کاربران ورود کاربران

LoginToSite

SecurityWord:

Username:

Password:

LoginComment LoginComment2 LoginComment3 .
SortBy
 
مفاهیم القرآن
الفصل التاسع [425-426]الفصل السابع [331-373]
اللّه و التوحید الافعالی
2. التوحید فی التدبیر والربوبیة
_____________________________________ [الصفحة 376] _____________________________________
التوحید فی التدبیر والربوبیة
1. وجود الشرک فی التدبیر بین الوثنیین.
2. هل للرب معان مختلفة؟
3. نتیجة هذا البحث.
4. القرآن لا یعترف بمدبّر سواه.
5. التدبیر لا ینفک عن الخلق والإیجاد.
6. وحدة النظام دلیل على وحدة المدبّر .
7. النتیجة.
8. ما معنى المدبّرات فی القرآن ؟
9. الجواب عن ذلک.
10. هل الحسنة والسیئة من اللّه؟
11. ما معنى الآیة التی تنسب الحسنة إلى اللّه والسیئة إلى الإنسان؟
12. التوفیق بین هذه الآیات.
_____________________________________ [الصفحة 377] _____________________________________
التوحید فی التدبیر والربوبیة
یستفاد ـ بجلاء ـ من التدبّر فی الآیات القرآنیة ومن مطالعة عقائد وثنیّی العرب المذکورة فی کتب الملل والنحل أنّ مسألة التوحید فی الخالقیة کانت موضع اتفاق وإجماع بینهم، وأنّ الانحراف إنّما کان فی التوحید فی التدبیر و التوحید فی العبادة وبعبارة أوضح کان الأغلب متفقین على أنّ لهذا العالم خالقاً واحداً لا غیر .
وقد ذکرت هذه الحقیقة فی الکتاب العزیز مکرراً، ونحن نذکر هنا طائفة من تلک الآیات:
(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ منْ خَلَقَ السَّموَاتِ وَالأرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَیَقُولُنَّ اللّهُ فَأنَّى یُؤْفَکُونَ)(1).
(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّموَاتِ وَالأَرْضَ لَیَقُولُنَّ اللّهُ)(2).
(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّموَاتِ وَالأَرْضَ لَیَقُولُنَّ اللّهُ)(3).
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . العنکبوت: 61.
2 . لقمان: 25.
3 . الزمر: 38.
_____________________________________ [الصفحة 378] _____________________________________
(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّموَاتِ وَالأَرْضَ لَیَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِیزُ الْعَلِیمُ)(1).
(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَیَقُولُنَّ اللّهُ فَأَنَّى یُؤْفَکُونَ)(2).
أجل لقد کان الاعتقاد بوجود مبدأین خالقین لهذا العالم فی عقیدة زرادشت، أحدهما یزدان والآخر أهریمن أمراً مشهوراً وإن کانت عقیدة زرادشت نفسه فی هذه المسائل یکتنفها غموض کبیر.
على أنّ عقیدة الزرادشتیین فی هذه القضیة لیست هی وحدها التی تحیط بها هالة من الإبهام والغموض بل عقیدة البراهمة والبوذیین والهندوس فی قضیة وحدة الخالق هی أیضاً غیر واضحة.
وحیث إنّ البحث والتحقیق فی عقائد تلک الطوائف خارج عن إطار بحثنا هذا لذلک نواصل بحثنا الأساسی.
***
من خلال مراجعة الآیات السالفة یتضح لنا أنّ وثنیّی جزیرة العرب الذین کانوا یعیشون قبل نزول القرآن أو بعده لم یکونوا یعانون من أی انحراف أو إشکال فی مسألة التوحید فی الخالقیة وإن لم یکن إدراکهم للتوحید فی الخالقیة على غرار ما شرحه ووضّحه القرآن الکریم(3)، ولکنّهم کانوا یعتقدون ـ إجمالاً ـ بأنّه لیس للکون سوى خالق واحد هو موجد السماوات والأرض وخالقها، بید أنّ بعضهم ولیس جمیعهم کان یشرک فی قضیة التدبیر لهذا العالم أو کانوا یعتقدون
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الزخرف: 9.
2 . الزخرف: 87.
3 . لأنّ الشرک فی التدبیر الذی نسمّیه شرکاً فی الربوبیة وکان رائجاً بینهم، یرجع إلى الشرک فی الخالقیة کما سیوافیک بیانه.
_____________________________________ [الصفحة 379] _____________________________________
بأنّ اللّه ـ بعد أن خلق الکون ـ فوّض تدبیر بعض أُمور الکون إلى واحد أو أکثر من خیار خلقه واعتزل هو عن أمر التدبیر .
هذه المخلوقات المفوض إلیها أمر التدبیر کانت فی نظر معتقدی هذه النظریة عبارة عن الملائکة و الجن و الکواکب
و الأرواح المقدسة و ... و ... التی کان کل واحد منها مدبّراً لجانب من جوانب الکون ـ على حد زعمهم ـ !!
ولأجل أن نقرن قولنا بالأدلة والبراهین نلفت نظر القارئ الکریم إلى أدلّة وجود مثل هذا الشرک فی عصر نزول القرآن الکریم .
فبملاحظة هذه الأدلّة سیذعن القارئ بأنّ وجود الشرک فی المدبّریة فی عصر الرسالة وقبل ذلک لم یکن موضع تردید وشک، وأنّ ما قد یتصوّر ـ أحیاناً ـ بأنّ عرب الجاهلیة أو من تقدّمهم من الأقوام السالفة کانوا یعتبرون الأصنام مجرد شفعاء عند اللّه لا أکثر لیس تصوراً ینطبق على کل الموارد فی عالم الوثنیة، بل هو
(أی الاعتقاد بمجرد شافعیة الأصنام لا أکثر) اعتقاد فریق من العرب الجاهلیین ولم یکن اعتقاد جمیعهم.
وجود الشرک فی التدبیر بین الوثنیّین
1. انّ أوضح برهان على أنّ بعض الفرق منهم کان یعتقد بتعدّد المدبّر هو قصة احتجاج إبراهیم ـ علیه السَّلام ـ
مع عبدة الکواکب والنجوم.
فقد کانت هذه الفرق تعبد الشمس والقمر والکواکب بعنوان أنّهارب مدبّر ولیس باعتقاد أنّها خالقة،إذ کانوا یتصوّرون أنّ هذه الأجرام هی المتصرفة فی النظام السفلی من العالم، وأنّ أمر تدبیر هذا الکون فوّض إلیها فهی أرباب هذا العالم دون اللّه.
_____________________________________ [الصفحة 380] _____________________________________
ولأجل هذا الاعتقاد نجد إبراهیم ـ علیه السَّلام ـ یبطل ربوبیتها عن طریق الإشارة إلى أُفولها وغروبها.
ولنفکر ـ هنا ـ ملیاً فی استدلال النبی العظیم إبراهیم ـ علیه السَّلام ـ لنرى أی أمر کان یقصد إثباته أو نفیه من خلال الاستدلال بأُفول هذه الکواکب والأجرام وغروبها.
فإذا کانت هذه الأجرام ـ حسب اعتقاد قوم إبراهیم ـ هی المدبّرة للموجودات الأرضیة ومنها الإنسان فإنّ المدبّریة ـ بحکم أنّ نظام المدبّر یکون فی اختیار المدبّر ـ تقتضی أن یعیش المدَبَّر فی ظل إشراف المدَبِّر وعنایته، وینمو ویتربّى ویتقدم نحو الکمال.
هذا ویقتضی بقاء هذه الکواکب والأجرام على اتصال دائم بالعالم السفلی الذی یقع تحت تدبیرها لیمکن التدبیر والتصرف .
بید أنّ هذا الاتصال الدائم یتنافى مع الأُفول والغروب وما تتصف به هذه الأجرام والکواکب من غیبة وجهل، ولأجل هذا عد النبی إبراهیم ـ علیه السَّلام ـ الأُفول والغروب دلیلاً واضحاً وقاطعاً على عدم کون هذه الأجرام، مدبّرة للموجودات الأرضیة.
ولو کان هؤلاء یعبدون هذه الأجرام بعنوان أنّها أجرام مقدسة توجب عبادتها القربى إلى اللّه لما تکون غیبتها عن صفحة السماء فی غیر أوقات عبادتها دلیلاً على بطلان نظریتهم، بل یکون حضورها ووجودها حین عبادة الناس لها کافیاً لأن تصبح موضع عبادة، ولا یلزم وراء ذلک أن تکون حاضرة ـ فی کل
_____________________________________ [الصفحة 381] _____________________________________
الأوقات ـ متمثلة أمام عبدتها بحیث ینظرون إلیها فی کل حین، لأجل هذا استعمل الخلیل ـ علیه السَّلام ـ لفظة رب فی کل الموارد التی حمل فیها على عبادة الکواکب والأجرام فقال مستفهماً: (هذا ربی) ؟!!
و رب فی لغة العرب هو المتصرّف والمدبِّر الذی یدبِّر الشیء ویدیره ویتحمل أمر تربیته ویتصرف فیه، وهذه القصة ـ مع ملاحظة کل خصوصیاتها ـ دلیل على وجود الشرک الربوبی فی عصر إبراهیم ـ علیه السَّلام ـ .
إنّ الشرک فی الربوبیة یشبه إلى حد بعید قصة من یرید أن یحصل على بیت لنفسه، فیهیّئ کمیة کبیرة من المواد الإنشائیة ویجعلها تحت تصرف البنّاء والعامل، ویطلب منهم أن یبنوا له البیت الذی یرید، ففی هذه الصورة تکون المواد الإنشائیة من صاحب العمل، ولکن تنسیق هذه المواد وتشغیلها والتصرف فیها یتعلّق بالبنّاء والمعمار والعمال الذین أوکل إلیهم بناء البیت المذکور على نحو ما یریدون وکیفما شاءوا.
هذا هو أوضح مثال للشرک الربوبی، ولقد کان القائلون بربوبیة الملائکة والجن والأرواح المقدسة یعتقدون بأنّ موجودات هذا العالم من القمر و الشمس إلى الحیوان و الإنسان إلى الشجر والحجر إنّما هی المواد الإنشائیة لهذا العالم، وإنّ اللّه فوّض أمر التصرف فی هذه المواد ـ بعد أن خلقها ـ إلى هذه الأرباب ثم راحت تشتغل بتدبیر الکون والتصرف فیه بالاستقلال وبمطلق الاختیار.
لقد کان هذا الفریق یعتقد أنّ مقام الخلق غیر التدبیر وأنّ الذی یرتبط باللّه إنّما هو الخلق والإیجاد الابتدائی من العدم، ولکن حیث إنّ الخلق غیر التدبیر، فالتدبیر یتعلّق بموجودات أُخرى غیر اللّه، أعنی: الموجودات المتصرفة لهذا العالم والتی فوض إلیها تدبیر عالم الطبیعة،ولیس للّه أیة مشارکة فی أمر تدبیر الکون وإدارته وتنظیم شؤونه، وتصریفه والتصرف فیه.
_____________________________________ [الصفحة 382] _____________________________________
2. لقد دخلت الوثنیة فی مکة ونواحیها أوّل ما دخلت فی صورة الشرک فی الربوبیة، فقصة عمرو بن لحی دلیل واضح على أنّ أهل الشام کانوا یعتبرون الأوثان والأصنام مدبّرة لجوانب من الکون.
یکتب ابن هشام فی هذا الصدد:
کان عمرو بن لحی أول من أدخل الوثنیة إلى مکة ونواحیها، فقد رأى فی سفره إلى البلقاء من أراضی الشام أُناساً یعبدون الأوثان، وعندما سألهم عمّـا یفعلون قائلاً: ما هذه الأصنام التی أراکم تعبدونها؟
قالوا: هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا، ونستنصرها فتنصرنا.
فقال لهم: أفلا تعطوننی منها فأسیر به إلى أرض العرب فیعبدوه.
وهکذا استحسن طریقتهم واستصحب معه إلى مکة صنماً کبیراً باسم هبل، ووضعه على سطح الکعبة المشرّفة،
ودعا الناس إلى عبادتها.(1)
إذن فاستمطار المطر من هذه الأوثان والاستعانة بها یکشف عن أنّ بعض المشرکین کانوا یعتقدون بأنّ لهذه الأوثان مشارکة فی تدبیر شؤون الکون وحیاة الإنسان .
على أنّه ینبغی أن لا یتصوّر أحد بأنّهم کانوا یعتبرون هذه الأصنام الحجریة والخشبیة هی ذاتها المتصرّفة والمدبِّرة للکون لیقال: لیس هناک من جاهل ـ فضلاً عن عاقل ـ یقول بأنّ هذه الأصنام الجامدة تکون منشأ کل هذه الآثار والحوادث،
بل الحق أنّهم کانوا یعتقدون بأنّ هذه الأصنام الخشبیة تمثّل صور الآلهة المدبّرة لهذا العالم التی فوّض إلیها إدارة الکون وتصریفه والتصرف فیه، ولکن حیث إنّ هذه الآلهة المزعومة لم تکن فی متناول أیدیهم،
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . سیرة ابن هشام : 1/79.
_____________________________________ [الصفحة 382] _____________________________________
وحیث کانت عبادة الموجود البعید عن متناول الحس واللمس صعب التصور لدیهم عمدوا إلى تجسید تلک الآلهة وتصویرها فی أوثان وأصنام ورسوم وأجسام وقوالب من الخشب أو الحجر أو المعدن وراحوا یعبدون الصور والتماثیل عوضاً عن عبادة أصحابها الحقیقین (وهی الآلهة المزعومة).
ویمکنک أیها القارئ الکریم أن تقف على مفصل هذه الأُمور فی الفصل التاسع، عند البحث عن التوحید فی العبادة.
3. یکتب المفسرون الإسلامیون أنّ ودّاً و سواعاً و یغوث و یعوق و نسراً کانوا من عباد اللّه الصالحین، وکان یتبعهم فی ذلک فریق من قومهم، ولمّا ماتوا ظن فریق بأنّهم لو نظروا إلى صورهم وتماثیلهم لأمکنهم أن یعبدوا اللّه بنحو أفضل باعتقاد أنّ صورهم تذکرهم باللّه، وبمرور الزمن تحولت هذه الفکرة إلى عبادة تلک الصور والتماثیل ذاتها.
وإلیک نص ما کتبه صاحب مجمع البیان فی هذا الصدد:
عن محمد بن کعب أنّ هذه أسماء قوم صالحین کانوا بین آدم و نوح علیمها السَّلام، فنشأ قوم بعدهم یأخذون مأخذهم فی العباد، فقال لهم إبلیس: لو صوّرتم صورهم کان أنشط لکم وأشوق إلى العبادة، ففعلوا، فنشأ بعدهم قوم فعبدوهم، فمبدأ عبادة الأوثان کان ذلک الوقت.(1)
یقول المحقّق المعاصر الأُستاذ جواد علی فی کتاب: المفصّل الذی کتبه
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . مجمع البیان: 10/364 طبع صیدا.
_____________________________________ [الصفحة 384] _____________________________________
حول تاریخ العرب قبل الإسلام، ویقع فی ثمانیة مجلدات ضخمة استقصى فیها أحوال العرب فی کل جوانب الحیاة ومجالاتها.
یقول عن اعتقادهم بالنسبة إلى معبوداتهم المزعومة:
إنّ معارفنا عن الأساطیر العربیة الدینیة قلیلة جداً، وهذا ممّا حمل بعض المستشرقین على القول بأنّ العرب لم تکن لهم أساطیر دینیة عن آلهتهم، کما کان عند غیرهم من الأُمم کالیونان والرومان والفرس وعند بقیة الآریین، وإذا لم تصل إلینا نصوص دینیة جاهلیة عن العرب، صعب علینا تکوین فکرة صحیحة عن مفهوم الدین عند العرب، وعن کیفیة عبادتهم لآلهتهم، وعن کیفیة تصوّرهم للآلهة.
فکلمات مثل ود وسعد(1) وهی أسماء لبعض آلهتهم تفیدنا فی فهم عبادة الجاهلین وتفکیرهم فی تلک الآلهة.(2)
5. لم یکن المتنوّرون والطبقة المثقّفة یعتقدون بمدبّر غیر اللّه، بل کانوا یعتبرون الأصنام شفعاء توجب عبادتها الزلفى عند اللّه، والقربى لدیه، ویدل على هذا الأمر آیات إلیک بعضها:
(مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِیُقَرِّبُونَا إِلَى اللّهِ زُلْفَى).(3)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . التی تکون لها معان تشیر إلى صفة الآلهة، إذ الأوّل یشیر إلى أنّه إله المحبة والثانی یشیر إلى أنّه إله السعادة.
2 . المفصل فی تاریخ العرب قبل الإسلام: 6/19.
3 . الزمر: 3.
_____________________________________ [الصفحة 385] _____________________________________
(قُلْ مَنْ یَرْزُقُکُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ أَمَّن یَمْلِکُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَمَنْ یُخْرِجُ الْحَیَّ مِنَ الْمَیِّتِ وَیُخْرِجُ الْمَیِّتَ مِنَ الْحَىِّ وَمَنْ یُدَبِّرُ الأمْرَ فَسَیَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ).(1)
ولکن مع الاعتراف بهذا المطلب لابد من القول ـ بصراحة ـ بأنّ مفاد هذه الآیة لا یمثل اعتقاد الجمیع، بل کان ثمت فریق من الوثنیین یعتقدون فی حق آلهتهم ومعبوداتهم المزعومة بأنّها تملک بعض القوى الغیبیة، وأنّها تتصرف فی عالم الطبیعة والکون على غرار ما یفعل الآلهة، خاصة وأنّهم کانوا قد اختاروا معبوداتهم وآلهتهم المزعومة من صفوف الملائکة والجن والأرواح المقدسة.
صحیح أنّ وثنیة العرب الجاهلیین کانت تصرفاً خاطئاً وباطلاً ولم تکن تستند إلى قاعدة فکریة، ولم تکن على نمط وثنیة الیونانیین والروم والفرس التی کانت تقوم على أساس فلسفی، ولکن بعض أُولئک العرب کانوا فی نفس الوقت یعتقدون بربوبیة الأوثان، وهذا ما یستفاد من عدة آیات فی هذا المجال.
ولکن قبل أن نعمد إلى نقل نصوص هذه الآیات نرى لزاماً علینا أن نعرف بدقة ماذا تعنیه لفظة رب التی اشتق منها الربوبیة.
یقول اللغوی العربی المعروف ابن فارس:
الرب: المالک، الخالق، الصاحب; والرب المصلح للشیء یقال: رب فلان ضیعته إذا قام على إصلاحها; والرب، المصلح للشیء، واللّه جل ثناؤه الرب، لأنّه مصلح أحوال خلقه; والراب، الذی یقوم على أمر الربیب.(2)
ویکتب الفیروزآبادی قائلاً:
رب کل شیء: مالکه ومستحقه وصاحبه...
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . یونس: 31.
2 . مقاییس اللغة: 2/381.
_____________________________________ [الصفحة 386] _____________________________________
رب الأمر: أصلحه.(1)
وجاء فی المنجد:
الرب: المالک، المصلح، السید.(2)
وما یشابه هذا المعنى فی کتب اللغة والقوامیس الأُخرى.
هل للرب معان مختلفة؟
إنّ وظیفة کتب اللغة والقوامیس هی ضبط موارد استعمال اللفظة، سواء أکان المستعمل فیه هو الذی وضع علیه اللفظة أم لا، وأمّا تعیین الأوضاع وتمییز الحقائق عن المجازات فخارج عما ترتئیه کتب اللغة.
وهذا هو نقص ملحوظ ومشهود بوضوح فی کتب اللغة ومعاجمها، إذ ما أکثر ما یجد الإنسان عدة معانی متباینة ومتمایزة للفظة واحدة حتى أنّه لیتصور ـ فی أوّل وهلة ـ أنّ الواضع العربی جعل هذه اللفظة على عشرة معان فی عشرة أوضاع، ولکن بعد التحقیق والدراسة یتبیّن أنّه لیس لهذه اللفظة سوى معنى واحد لا غیر، وأمّا بقیة المعانی المذکورة فهی من شعب المعنى الأصلی.
ومن المصادفات أنّ لفظة رب تعانی من هذا المصیر حتى أنّ کاتباً کالمودودی تصور أنّ لهذه اللفظة خمسة معان ـ فی الأصل ـ، وذکر لکل معنى من المعانی الخمسة شواهد من القرآن الکریم .
ولا شک فی أنّ لفظة رب استعملت فی الکتاب العزیز واللغة فی الموارد التالیة التی لا تکون إلاّ صورة موسعة ومصادیق متعددة لمعنى واحد لا أکثر ،
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . قاموس اللغة مادة الرب.
2 . المنجد مادة ربب.
_____________________________________ [الصفحة 387] _____________________________________
وإلیک هذه الموارد والمصادیق:
1. التربیة مثل رب الولد، ربّاه.
2. الإصلاح والرعایة مثل ربّ الضیعة.
3. الحکومة والسیاسة مثل فلان قد رب قومه، أی ساسهم وجعلهم ینقادون له.
4. المالک کما جاء فی الخبر عن النبی ـ صلَّى الله علیه وآله وسلَّم ـ : أربّ غنم أم ربّ أبل.
5. الصاحب مثل قوله: رب الدار، أو کما یقول القرآن الکریم : (فَلْیَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَیْتِ).(1)
لا ریب أنّ هذه اللفظة قد استعملت فی هذه الموارد وما یشابهها ولکن جمیعها یرجع إلى معنى واحد أصیل، وما هذه المعانی سوى مصادیق وصور مختلفة لذلک المعنى الأصیل، وسوى تطبیقات متنوعة لذلک المفهوم الحقیقی الواحد، أعنی: من فوّض إلیه أمر الشیء المربی من حیث الإصلاح والتدبیر والتربیة.
فإذا قیل لصاحب المزرعة إنّه ربها، فلأجل أنّ إصلاح أُمور المزرعة مرتبط به وفی قبضته.
وإذا أطلقنا على سائس القوم، صفة الرب، فلأنّ أُمور ذلک القوم مفوّض إلیه فهو قائدهم، ومالک تدبیرهم ومنظم شؤونهم.
وإذا أطلقنا على صاحب الدار ومالکه اسم الرب، فلأنّه فوّض إلیه أمر تلک الدار وإدارتها والتصرف فیها کما یشاء.
فعلى هذا یکون المربی والمصلح والرئیس والمالک والصاحب وما یشابهها
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الإیلاف: 3.
_____________________________________ [الصفحة 388] _____________________________________
مصادیق وصور لمعنى واحد أصیل یوجد فی کل هذه المعانی المذکورة، وینبغی أن لا نعتبرها معانی متمایزة ومختلفة للفظة الرب، بل المعنى الحقیقی والأصیل للفظة هو: من بیده أمر التدبیر والإدارة والتصرف، وهو مفهوم کلّی ومتحقّق فی جمیع المصادیق والموارد الخمسة المذکورة (أعنی: التربیة والإصلاح والحاکمیة والمالکیة والصاحبیة).
فإذا أطلق یوسف الصدیق ـ علیه السَّلام ـ لفظ الرب على عزیز مصر، حیث قال: (إِنَّهُ رَبِّی أَحْسَنَ مَثْوَایَ)(1) ، فلأجل أنّ یوسف تربّى فی بیت عزیز مصر وکان العزیز متکفّلاً لتربیته وقائماً بشؤونه.
وإذا وصف عزیز مصر بکونه رباً لصاحبه فی السجن فقال: (أَمَّا أَحَدُکُمَا فَیَسْقِی رَبَّهُ خَمْراً)(2)، فلأنّ عزیز مصر کان سید مصر وزعیمها ومدبّر أُمورها ومتصرّفاً فی شؤونها ومالکاً لزمامها.
وإذا وصف القرآن الیهود والنصارى بأنّهم اتّخذوا أحبارهم أرباباً، إذ یقول:
(اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِن دُونِ اللّهِ)(3)،
فلأجل أنّهم أعطوهم زمام التشریع واعتبروهم أصحاب سلطة وقدرة فیما یختص باللّه.
وإذا وصف اللّه نفسه بأنّه رب البیت، فلأنّ إلیه أُمور هذا البیت مادّیها ومعنویّها، ولا حق لأحد فی التصرف فیه سواه.
وإذا وصف القرآن اللّه بأنّه (رَبُّ السَّمَاواتِ وَالأرْضِ)(4)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . یوسف: 23.
2 . یوسف: 41.
3 . التوبة: 31.
4 . الصافات: 5.
_____________________________________ [الصفحة 389] _____________________________________
وأنّه (رَبُّ الشِّعْرَى)(1) وما شابه ذلک، فلأجل أنّه تعالى مدبّرها ومدیرها والمتصرّف فیها ومصلح شؤونها والقائم علیها، وبهذا البیان نکون قد کشفنا القناع عن المعنى الحقیقی للرب، الذی ورد فی مواضع عدیدة من الکتاب العزیز .
***
إنّ الشائع بین الوهابیین تقسیم التوحید إلى:
1. التوحید فی الربوبیة.
2. التوحید فی الإلوهیة.(2)
قائلین: إنّ التوحید فی الربوبیّة بمعنى الاعتقاد بخالق واحد لهذا الکون کان موضع اتفاق جمیع مشرکی عهد الرسالة.
وأمّا التوحید فی الإلوهیة فهو التوحید فی العبادة الذی یعنی منه أن لا یعبد سوى اللّه، وقد انصب جهد الرسول الکریم على هذا الأمر .
والحق أنّ اتفاق جمیع مشرکی عهد الرسالة فی مسألة التوحید الخالقی لیس موضع شک، ولکن تسمیة التوحید الخالقی بالتوحید الربوبی خطأ واشتباه.
وذلک لأنّ معنى الربوبیة لیس هو الخالقیة کما توهم هذا الفریق، بل هو ـ کما أوضحنا وبیّنّا سلفاً ـ ما یفید التدبیر وإدارة العالم، وتصریف شؤونه ولم یکن هذا ـ کما بیّنّا ـ موضع اتفاق بین جمیع المشرکین والوثنیین فی عهد الرسالة کما ادّعى هذا الفریق.
نعم کان فریق من مثقفی الجاهلیین یعتقدون بعدم مدبّر سوى اللّه ولکن
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . النجم: 49.
2 . سیوافیک معنى الالوهیة فی الفصل التاسع، ونبین خطأهم فی تفسیرها.
_____________________________________ [الصفحة 390] _____________________________________
کانت تقابلهم جماعات کبیرة ممّن یعتقدون بتعدّد المدبّر والتدبیر، وهی قضیة تستفاد من الآیات القرآنیة مضافاً إلى المصادر المتقدمة.
هنا نلفت نظر الوهابیّین الذین یسمّون التوحید فی الخالقیة بالتوحید فی الربوبیة إلى الآیات التالیة، لیتضح لهم أنّ الدعوة إلى التوحید فی الربوبیّة لا تعنی الدعوة إلیالتوحید فی الخالقیة، بل هی دعوة إلى التوحید فی المدبّریة والتصرف، وقد کان بین المشرکین فی ذلک العصر من کان یعانی انحرافاً وشذوذاً فی التوحید الربوبی، ویعتقد بتعدّد المدبّر رغم کونه معتقداً بوحدة الخالق.
ولا یمکن ـ أبداً ـ أن نفسر الرب فی هذه الآیات بالخالق والموجد، وإلیک بعض هذه الآیات :
أ. (بَل ربُّکُمْ رَبُّ السَّمواتِ والأرْضِ الَّذِی فَطَرَهُنَّ).(1)
فلو کان المقصود من الرب هنا هو الخالق والموجد، لکانت جملة (الَّذِی فَطَرَهُنَّ) زائدة بدلیل أنّنا لو وضعنا لفظة الخالق مکان الرب فی الآیة للمسنا عدم الاحتیاج ـ حینئذ ـ إلى الجملة المذکورة،أعنی: (الَّذِی فَطَرَهُنَّ)، بخلاف ما إذا فسر الرب بالمدبِّر والمتصرف، ففی هذه الصورة تکون الجملة الأخیرة مطلوبة، لأنها تکون ـ حینئذ ـ علّة للجملة الأُولى، فتعنی هکذا: أنّ خالق الکون هو المتصرف فیه وهو المالک لتدبیره والقائم بإدارته.
ب. (یَا أیُّهَا النَّاسُ اعْبُدْوا رَبَّکُمْ الَّذِی خَلَقَکُمْ).(2)
فإنّ لفظة الرب فی هذه الآیة لیست بمعنى الخالق، وذلک على غرار ما
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الأنبیاء: 56.
2 . البقرة: 21.
_____________________________________ [الصفحة 391] _____________________________________
قلناه فی الآیة المتقدّمة المشابهة لما نحن فیه، إذ لو کان الرب بمعنى الخالق لما کان لذکر جملة (الَّذِی خَلَقَکُمْ) وجه، بخلاف ما إذا قلنا بأنّ الرب یعنی المدبر، فتکون جملة (الَّذِی خَلَقَکُمْ) علّة للتوحید فی الربوبیة، إذ یکون المعنى حینئذ هو: أنّ الذی خلقکم هو مدبِّرکم.
ج. (قُلْ أَغَیْرَ اللّهِ أَبْغِی رَبّاً وَهُوَ رَبُّ کُلِّ شَیْء).(1)
وهذه الآیة حاکیة عن أنَّ مشرکی عصر الرسالة کانوا على خلاف مع الرسول الکریم ـ صلَّى الله علیه وآله وسلَّم ـ فی مسألة الربوبیة على نحو من الأنحاء، وأنّ النبی الأعظم کان مکلّفاً بأن یفنّد رأیهم ویبطل عقیدتهم ولا یتخذ غیر اللّه رباً على خلاف ما کانوا علیه، ومن المحتم أنّ خلاف النبی مع المشرکین لم یکن حول مسألة التوحید فی الخالقیة بدلیل أنّ الآیات السابقة تشهد فی غیر إبهام بأنّهم کانوا یعترفون بأنّه لا خالق سوى اللّه تعالى، ولذلک فلا مناص من الإذعان بأنّ الخلاف المذکور کان فی غیر مسألة الخالقیة، ولیست هی إلاّ مسألة تدبیر الکون، بعضه أو کلّه.
د. (أَلَسْتُ بِرَبِّکُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا یَوْمَ الْقِیَامَةِ إِنَّا کُنَّا عَنْ هَذا غَافِلِینَ).(2)
فقد أخذ اللّه فی هذه الآیة ـ من جمیع البشر ـ الإقرار بالتوحید الربوبی، وکانت علّة ذلک هی ما ذکره من أنّه سیحتج على عباده بهذا المیثاق یوم القیامة، کما یقول:
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الأنعام: 164.
2 . الأعراف: 172.
_____________________________________ [الصفحة 392] _____________________________________
(أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَکَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَکُنَّا ذُرِّیَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِکُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ)(1).
إذا تبیَّن هذا فنقول: إنّ نزول هذه الآیة فی بیئة مشرکة دلیل ـ ولا شک ـ على وجود فریق معتد به فی تلک البیئة کانوا یخالفون هذا المیثاق، فإذا کانت الربوبیة بمعنى الخالقیة استلزم ذلک أن یکون فی تلک البیئة من یخالفون النبی فی الخالقیة، ولکن الفرض هو عدم وجود أی اختلاف فی مسألة توحید الخالقیة فی عصر الرسالة، فلم یکن المشرکون فی ذلک العصر مخالفین فی هذه المسألة لیعتبروا مخالفین للمیثاق المذکور، فلا محیص ـ حینئذ ـ من أنّ الخلاف کان ـ آنذاک ـ
فی مسألة تدبیر العالم وإدارة الکون.
وبهذا التقریر یکون معنى الرب فی الآیة المبحوث هنا هو المدبّر .
هـ . (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ یَقُولَ رَبِّیَ اللّهُ وَقَدْ جَاءَکُمْ بِالْبَیِّنَاتِ مِنْ رَبِّکُمْ)(2).
تتعلّق هذه الآیة بمؤمن آل فرعون الذی کان یدافع عن النبی موسى ـ علیه السَّلام ـ وراء قناع الصحبة والصداقة لآل فرعون ، ویسعى تحت ستار الموافقة معهم أن یدفع الخطر عن ذلک النبی العظیم، وأمّا دلالتها على کون الرب بمعنى المدبّر فواضحة، لأنّ فرعون ما کان یدّعی الخالقیة للسماء والأرض ولا الشرکة مع اللّه سبحانه فی خلق العالم وإیجاده، وهذه حقیقة یدلّ علیها تاریخ الفراعنة أیضاً،وفی هذه الصورة یجب أن یکون المراد من دعوة النبی موسى بقوله:
(ربی اللّه)هو حصر التدبیر فی اللّه سبحانه لا مسألة الخلق، ولو کانت تتعلّق بمسألة الخلق والإیجاد لما کان بینه وبین فرعون أی خلاف ونزاع، إذ المفروض اعتراف فرعون بخالقیة اللّه ـ کما أسلفنا ـ هذا مضافاً إلى أنّ اللّه تعالى یقول
فی الآیة السابقة
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الأعراف: 173.
2 . غافر: 28.
_____________________________________ [الصفحة 393] _____________________________________
لهذه الآیة:
و. (ذَرُونِی أَقْتُلْ مُوسَى وَلْیَدْعُ رَبَّهُ إِنِّی أَخَافُ أَنْ یُبَدِّلَ دِینَکُمْ)(1).
فإنّ التوحید فی الخالقیة لم یکن موضع خلاف لتکوین دعوة موسى لبنی إسرائیل سبباً لأی تبدّل وتبدیل.
ومن هذا البیان یتضح المراد من قول فرعون: (أَنَا رَبُّکُمُ الأعْلَى)(2).
ز. (فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمواتِ وَالأرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِن دُونِهِ إِلَهاً)(3).
إنّ الفتیة الذین فرّوا من ذلک الجو الخانق الذی أوجدته طواغیت ذلک الزمان کانوا جماعة یسکنون فی مجتمع یعتقد بالوهیة غیر اللّه، ولکن الوهیة غیر اللّه ـ فی ذلک المجتمع ـ لم تکن فی صورة تعدّد الخالق، خاصة وأنّ واقعة أهل الکهف حدثت بعد میلاد السید المسیح حیث کانت عقول البشریة وأفکارها قد تقدّمت فی المسائل التوحیدیة بشکل ملحوظ وحظیت من الرقی بمقدار معتد به، ولم یکن یعقل ـ فی ظل هذا الرقی الفکری ـ وجود مجتمع منکر لخالقیة اللّه، أو مشرک فیها، فلابد أن یقال أنّ شرکهم یرجع إلى أمر آخر وهو الاعتقاد بتعدّد المدبّر .
ح. انّ البرهان الواضح على أنّ مقام الربوبیة هو مقام المدبّریة ولیس الخالقیة کما یتوهم، هو الآیة المتکررة فی سورة الرحمن:
(فَبِأَىِّ آلاَءِ رَبِّکُمَا تُکَذِّبَانِ) .
فقد وردت هذه الآیة فی السورة المذکورة 31 مرة ، وجاءت لفظة رب جنباً
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . غافر: 26.
2 . النازعات: 24.
3 . الکهف: 14.
_____________________________________ [الصفحة 394] _____________________________________
إلى جنب مع لفظة الآلاء التی تعنی النعم، وغیر خفی أنّ قضیة النعمة مع التذکیر بمقام ربوبیة اللّه لحیاة البشر وحفظها من الفناء أنسب وأکثر انسجاماً، إذ ذکر النعم (التی هی من شعب التربیة الإلهیة التی یولیها سبحانه للبشر ) یناسب موضوع التربیة والتدبیر الذی تندرج فیه إدامة النعم وإدامة الإفاضة.
ط. لقد اقترنت مسألة الشکر مع لفظة الرب فی خمسة موارد فی القرآن الکریم، والشکر إنّما یکون فی مقابل النعمة التی هی سبب بقاء الحیاة الإنسانیة ودوامها وحفظها من الفناء وصیانتها من الفساد، ولیست حقیقة تدبیر الإنسان إلاّ إدامة حیاته وحفظها من الفساد والفناء.
وإلیک هذه الموارد:
(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّکُمْ لَئِنْ شَکَرْتُمْ لأزِیدَنَّکُمْ وَلَئِنْ کَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِی لَشَدِیدٌ).(1)
(قَالَ رَبّی أَوْزِعْنِی أَنْ أَشْکُرَ نِعْمَتَکَ الَّتِی أَنْعَمْتَ عَلیَّ وَعَلَى وَالِدَیَّ).(2)
(قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّی لِیَبْلُوَنِی ءَأَشْکُرُ أَمْ أَکْفُرُ وَمَنْ شَکَرَ فَإِنَّمَا یَشْکُرُ لِنَفْسِهِ).(3)
(قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِی أَنْ أَشْکُرَ نِعْمَتَکَ الَّتِی أَنْعَمْتَ عَلَیَّ وَعَلَى وَالِدَیَّ).(4)
(کُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّکُمْ وَاشْکُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَیِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ).(5)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . إبراهیم: 7.
2 . النمل: 19.
3 . النمل: 40.
4 . الأحقاف: 15.
5 . سبأ: 15.
_____________________________________ [الصفحة 395] _____________________________________
ی. وممّا یدلّ على ما قلنا قوله سبحانه :
(فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّکُمْ إِنَّهُ کَانَ غَفَّاراً * یُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَیْکُمْ مِدْراراً *وَیُمْدِدْکُمْ بِأَمْوَال وَبَنیِنَ وَیَجْعَلْ لَکُمْ جَنَّات وَیَجْعَل لَکُمْ أَنْهَاراً).(1)
ومثله فی سورة هود الآیة 52.
وهکذا: یلاحظ القارئ الکریم کیف جعلت إدارة الکون وتدبیر شؤونه تفسیراً للرب: فهو الذی یرسل المطر، وهو الذی یمدد بالأموال والبنین، وهو الذی یجعل الجنات، وهو الذی یجعل الأنهار، وکلّ هذه الأُمور جوانب وصور من التدبیر .
نتیجة هذا البحث
من هذا البحث الموسّع یمکن أن نستنتج أمرین:
1. أنّ ربوبیة اللّه عبارة عن مدبِّریته تعالى للعالم لا عن خالقیته.
2. دلّت الآیات المذکورة فی هذا البحث على أنّ مسألة التوحید فی التدبیر لم تکن موضع اتفاق بخلاف مسألة
التوحید فی الخالقیة، وانّه کان فی التاریخ ثمّت فریق یعتقد بمدبّریة غیر اللّه للکون کله أو بعضه،
وکانا یخضعون أمامها باعتقاد أنّها أرباب. وبما أنّ الربوبیة فی التشریع غیر الربوبیة فی التکوین،
فیمکن أن یکون بعض الفرق موحداً فی الثانی، ومشرکاً فی القسم الأوّل، فالیهود والنصارى تورّطوا فی الشرک الربوبی
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . نوح: 10 ـ 12.
_____________________________________ [الصفحة 396] _____________________________________
التشریعی،لأنّهم أعطوا زمام التقنین والتشریع إلى الأحباروالرهبان وجعلوهم أرباباً من هذه الجهة، فکأنّه فوَّض أمرالتشریع إلیهم!!.(1)
فها هو القرآن یقول عنهم:
(اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابَاً مِن دُونِ اللّهِ).(2)
(وَلا یَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِن دُونِ اللّهِ).(3)
فی حین أنّ الشرک فی الربوبیة لدى فریق آخر ما کان ینحصر بهذه الدائرة بل تمثل فی اسناد تدبیر بعض جوانب الکون، وشؤون العالم إلى الملائکة والجن والأرواح المقدسة أو الأجرام السماویة، وإن لم نعثر ـ إلى الآن ـ على من یعزى تدبیر کل جوانب الکون إلى غیر اللّه، ولکن مسألة الشرک فی الربوبیة تمثّلت فی الأغلب فی تسلیم بعض الأُمور الکونیة إلى بعض خیار العباد والمخلوقات.
إنّ الآیات الدّالّة على هذه النتیجة ـ فی الحقیقة ـ أکثر من أن یمکن سردها هنا، لهذا نکتفی بما ذکرنا من الآیات تارکین للقارئ الباحث التفتیش عنها فی القرآن الکریم .
القرآن لا یعترف بمدبِّر سواه
ینص القرآن الکریم ـ بمنتهى الصراحة ـ على أنّ اللّه سبحانه هو المدبِّر الوحید للعالم، وینفی أی تدبیر مستقل یکون مظهراً لربوبیة غیر اللّه .
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . سوف یوافیک فی الفصل العاشر أنّ التقنین والتشریع من أفعاله سبحانه ، لا یشترک فیها غیره.
2 . التوبة: 31.
3 . آل عمران: 64.
_____________________________________ [الصفحة 397] _____________________________________
(إِنَّ رَبَّکُمْ اللّهُ الَّذِی خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِی سِتَّةِ أَیَّام ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ یُدَبِّرُ الأمرَ مَا مِنْ شَفِیع إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِکُمْ اللّهُ رَبُّکُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَکَّرُونَ).(1)
(اللّهُ الَّذِی رَفَعَ السَّموَاتِ بِغَیْرِ عَمَد تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ کُلٌّ یَجْرِی لأِجَل مُسَمّىً یُدَبِّرُ الأمْرَ یُفَصِّلُ الآیاتِ لَعَلَّکُمْ بِلِقَاءِ رَبِّکُمْ تُوقِنُونَ).(2)
ففی هاتین الآیتین وما شابههما تستدعی الجمل التالیة التأمّل أکثر من أی شیء:
1. ثم استوى على العرش.
2 یدبّر الأمر.
3. ما من شفیع إلاّ بإذنه.
فنقول توضیحاً لهذه الجمل: ینتقل القرآن الکریم فی هاتین الآیتین ـ بعد ذکر مسألة خلق السماوات والأرض ـ إلى مسألة الاستیلاء على العرش، والهدف من ذلک هو الإشعار بأنّ زمام الکون ـ بعد خلقه ـ بیده تعالى، ولم یفوّضه إلى غیره، فهو الآخذ بزمام العالم کما هو خالقه، دون إهمال أو إیکال أو تفویض.
إنّ الاستیلاء على العرش (والمعنی به مطلق عالم الوجود) کنایة عن السیطرة الکاملة والتسلّط التام على کل أجزاء الکون، وتمام عالم الممکنات.
وفی هاتین الآیتین والآیات المشابهة لهما(3) طرح القرآن ـ بعد موضوع الاستیلاء على العرش ـ موضوع تدبیر العالم لیفید بأنّ المدبِّر هو تعالى، ولیس سواه من مدبِّر .
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . یونس: 3.
2 . الرعد: 2.
3 . مثل: الأعراف: 54، السجدة: 4، الحدید: 4.
_____________________________________ [الصفحة 398] _____________________________________
ثم إنّ النکتة فی ذکر شفاعة الشفیع بإذنه سبحانه بعد مسألة حصر التدبیر باللّه سبحانه هو أنّ المراد منه ـ فی المقام ـ هو الشفیع التکوینی، أعنی: نظام العلة والمعلول الحاکم على عالم الطبیعة،فتشیر الآیة إلى أنّ تأثیر أیّة علّة فی العوالم العلویة أو السفلیة منوطة بالإذن الإلهی کما أسلفنا.
ولأجل ذلک صرح بأنّه ما من شفیع أی وسیط مادیاً کان أم مجرداً إلاّ من بعد إذنه لکی یفید بأنّ مدبّریة اللّه المطلقة لا تنافی الاعتقاد بنظام العلیة فی عالم الطبیعة، إذ أنّ وجود هذا النظام العلّی السببی نفسه مظهر من مظاهر تدبیر اللّه، وناشئ عن إرادته العلیا ،فالمدبِّر الأصیل والمستقل لیس إلاّ هو وحده، ولا تدبیر لسواه إلاّ بأمره ومشیئته، وإنّما أطلق لفظ الشفیع على نظام العلیة، لأنّه من الشفع بمعنى الزوج، فکأنّ نظام العلیة یتسبب فی إیجاد آثاره وظواهره بالإنضمام إلى إرادة اللّه ومشیئته، فکل علّة مشفوعة إلى إرادته وإذنه سبحانه تکون مؤثرة.
ولو أُرید من الشفیع الشفاعة التشریعیة، فهو أیضاً داخل فی إطار تدبیره سبحانه، فلا یشفع شفیع فی الدنیا والآخرة فی حق عباده إلاّ بإذنه سبحانه .
***
وربما یتصور البعض أنّ القرآن الکریم طرح مسألة التوحید فی الربوبیة دون أن یقیم علیها أی برهان، فی حین أنّ القرآن أثبت هذا المطلب بالبراهین الواضحة القاطعة.
وإلیک فیما یلی بعض هذه الأدلة.
_____________________________________ [الصفحة 399] _____________________________________
1. التدبیر لا ینفک عن الخلق
إنّ النقطة الأساسیة فی خطأ المشرکین تتمثل فی أنّهم قاسوا تدبیر عالم الکون بتدبیر أُمور عائلة أو مؤسسة وتصوروا أنّهما من نوع واحد.
إنّ تدبیره سبحانه لهذا العالم لیس کتدبیر حاکم البلد بالنسبة إلى مواطنیه أو رب البیت بالنسبة إلى أهله حیث إنّ ذاک التدبیر یتم بإصدار الأوامر، فی حین أنّ التدبیر الإلهی هو إدامة الخلق والإیجاد، وقد سبق أنّ الخالقیة منحصرة باللّه سبحانه.
فالفریق الذی یعتقد بأنّ اللّه تعالى هو الخالق الوحید یجب علیه أیضاً أن یعتقد بأنّه تعالى هو المدبّر الوحید لکون التدبیر خلقاً بعد خلق وهو فعل اللّه خاصة.
توضیح ذلک: أنّ النظام الإمکانی ـ بحکم کونه فقیراً ممکناً ـ فاقد للوجود الذاتی، فإنّ فقره هذا لیس منحصراً فی وجوده فی بدء تحقّقه، وإنّما یستمر هذا الفقر معه فی جمیع الأزمنة والأمکنة، کما أنّ فقره لیس منحصراً فی أصل وجوده،
فحسب بل هو محتاج حتى فی علاقاته وروابطه وتأثیراته مع الموجودات الأُخرى وانسجامه مع مجموع العالم.
ولیس التدبیر إلاّ إفاضة الوجود وإعطاء القدرة على التأثیر للشیء الممکن، ثمّ إنّ وجود النظام الإمکانی کما أنّه مفاض علیه من جانب اللّه سبحانه، فکذلک تدبیره وإدارة وجوده تقوم به سبحانه ولیس هذا إلاّ نوع من الخلق.
وإذ لیس هناک من خالق سواه سبحانه، فلیس هناک مدبِّر سواه أیضاً، وبذلک یستلزم الاعتراف بوحدة الخالق،
الاعتراف بوحدة المدبِّر .
_____________________________________ [الصفحة 400] _____________________________________
فإنّ تدبیر الوردة لیس إلاّ تقوّمها من المواد السکریة فی الأرض ثم تولیدها الأوکسجین فی الهواء،
إلى غیر ذلک من عشرات الأعمال الفیزیائیة والکیمیائیة فی ذاتها، ولیس هذا إلاّ شعبة من الخلق.
ومثلها، الجنین منذ تکونه فی رحم الأُم، فهو لم یزل یمر بالتفاعلات حتى یخرج من بطن الأُم، ولیست هذه التفاعلات
إلاّ شعبة من عملیة الخلق وفرع منه وإیجاد بعد إیجاد.
ویمکن تقریر هذا المطلب بصورة أُخرى بأن نقول:
إنّ التدبیر مأخوذ من مادة دبّر أی تابع وواصل وعقب، وحقیقة التدبیر لیست إلاّ لأنّ خالق العالم جعل الأسباب والعلل بحیث تأتی المعالیل والمسببات دبر الأسباب وعقیب العلل بحیث تأتی أجزاء الکون وراء بعضها تباعاً وبحیث یؤثر
بعضها فی البعض الآخر حتى یصل کل موجود إلى کمإله المناسب وهدفه المطلوب، فإذا کان المراد من التدبیر هو هذا،
فهو بعینه عبارة عن مسألة الخلق، ومع هذا کیف یجوز أن نعتقد بأنّ التدبیر مغایر للخلق ونعتبرهما أمرین مختلفین.
ولذا یذکر القرآن الکریم ـ بعدذکر مسألة الخلق للسماوات والأرض ـ مسألة تسخیر الشمس والقمر(1)الذی هومن التدبیر، ومن هذا الطریق یوقفنا القرآن الکریم على حقیقة التدبیر الذی هو نوع من الخلق.
وحدة النظام دلیل على وحدة المدبِّر
فی البحث السابق تحدّثنا عن وحدة نظام الکون، وأثبتنا بوضوح أنّ مطالعة کل صفحة من صفحات هذا الکتاب التکوینی العظیم تقودنا إلى نظام موحد،
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الأعراف: 54، الرعد: 3.
_____________________________________ [الصفحة 401] _____________________________________
وکأنّ أوراق الکتاب التکوینی ـ على غرارالکتاب التدوینی ـ شد بعضها إلى بعض بید واحدة،وأُخرجت فی صورة واحدة.
إنّ القوانین والسنن الحاکمة على الموجودات الطبیعیة کلیة وشاملة بحیث لو أُتیح لأحد أن یکتشف بالتجربة سنة فی نقطة خاصة من نقاط الکون أمکنه أن یکتشف قانوناً کلیاً وشاملاً، ویهتدی إلى سنة کونیة عمومیة وهذا هو أفضل دلیل على وحدة النظام الحاکم على العالم الطبیعی.
إنّ وحدة النظام الکونی وعمومیة السنن والقوانین الطبیعیة تقودنا إلى موضوعین:
1. أنّه لیس للعالم إلاّ خالق واحد، وتوضیح ذلک هو ما قرأته فی الفصل السابق.
2. انّه لیس للعالم إلاّ مدبِّر واحد.
وبعبارة أُخرى، فإنّ وحدة النظام والسنن الکونیة لدلیل واضح على صحة ما قإله القرآن الکریم .
(أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَکَ اللّهُ رَبُّ العَالَمِینَ)(1).
إنّ جملة: (لَهُ الْخَلْقُ) إشارة إلى التوحید فی الخالقیة.
وجملة: (وَالأمْرُ) إشارة إلى التوحید فی التدبیر الذی هو نوع من الحاکمیة على عالم الوجود .
وهنا ینطرح سؤال هو: کیف تدل وحدة القوانین وعمومیتها على وحدة المدبِّر ؟
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الأعراف: 54.
_____________________________________ [الصفحة 402] _____________________________________
وجواب ذلک واضح: إذ عندما یحکم على الکون نوعان من الرأی والحاکمیة یکون من الطبیعی والحتمی عدم وجود أی أثر لهذا النظام الواحد، انّ وحدة النظام لا تتحقّق ولا تکون إلاّ إذا کان الکون بأجمعه تحت نظر حاکم ومدبِّر واحد، ولو خضع الکون لإدارة حاکمین ومنظمین ومدبِّرین لما کان للنظام الموحد أی أثر .
لأنّ تعدّد المدبِّر والمنظِّم ـ بحکم اختلافهما فی الذات أو بعض الجهات منها ـ یستلزم بالضرورة الاختلاف فی التدبیر والإدارة، ویستلزم تعدّد التدبیر ـ بالضرورة ـ فناء النظام الموحد، وغیابه.
وبعبارة أُخرى: انّ المدبِّرین إن کانا متساویین من کل الجهات لم تصدق هناک اثنینیة قهراً، وإن تعدّد المدبِّر یعنی ـ بالضرورة ـ اختلاف المدبِّرین من جهة أو جهات، ومعلوم أنّ اختلافاً ـ کهذا ـ یؤثر لا محالة فی تدبیر المدبِّر .
***
ویمکن بیان هذا البرهان بصورتین:
1. أن نلتفت ـ فی بیان البرهان ـ إلى الجوانب الإیجابیة فیه ونقول: إنّ ترابط أجزاء الکون، وتأثیرها فی بعضها یدلّ على خضوعها لحاکمیة حاکم واحد على جمیع العالم یقودها تحت نظام واحد وخطة واحدة.
وقد أکد فی أحادیث أئمّة أهل البیت ـ علیهم السَّلام ـ على هذه النقطة أحیاناً، إذ یقول أحدهم وهو:
_____________________________________ [الصفحة 403] _____________________________________
فلما رأیت الخلق منتظماً، والفلک جاریاً، واختلاف اللیل والنهار والشمس والقمر، دل صحة الأمر والتدبیر وائتلاف الأمر على أنّ المدبِّر واحد.(1)
2. وربما أُشیر إلى الجوانب السلبیة فی هذا البرهان وأنّ تعدّد التدبیر یوجب فساد النظام الکونی.
وقد استند القرآن الکریم على هذا الجانب، إذ قال:
(لَوْ کَانَ فِیهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا یَصِفُونَ).(2)
وربما ورد فی بعض نصوص أهل بیت الرسالة الإشارة إلى کلاالجانبین فی هذا البرهان،إذ یقول أحدهم ـ علیهم السَّلام ـ فی جواب هشام الذی سأل عن دلیل وحدانیة الرب:
اتصال التدبیر وتمام الصنع، کما قال اللّه عزّ وجل: (لَوْ کَانَ فِیهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتَا).(3)
النتیجة
1. انّ وحدة النظام ووحدة الکون وشمول السنن لجمیع أجزاء هذا العالم وعمومیة القوانین الطبیعیة کل ذلک یمکن أن یکون أفضل دلیل على وحدة الخالق، وکذا وحدة المدبِّر.
2. أنّ هذا البرهان یمکن أن یبین فی صورتین، وکلا الصورتین اللّتین هما ـ فی الحقیقة ـ برهان واحد وردا فی القرآن الکریم .
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . توحید الصدوق: 244.
2 . الأنبیاء: 22.
3 . توحید الصدوق: 250 وسیوافیک الاستدلال بهذه الآیة بشکل آخر .
_____________________________________ [الصفحة 404] _____________________________________
ما معنى المدبِّرات فی القرآن ؟
فإذا کانت الظواهر الطبیعیة ولیدة عللها التی هی الموجدة والمدبِّرة لهذه الظواهر بنحو من الأنحاء، فکیف ینسجم هذا مع حصر المدبّریة المطلقة فی اللّه تعالى؟
فإنّ التدبیر الطبیعی عبارة عن تکفّل شیء لشیء آخر، فإنّ کل علة فی هذا النظام الکونی متکفّلة لوجود معلولها وسبب لاستمرار بقائه ودوامه، وبمقتضى ذلک تکون کل علة مدبّراً، وعند ذلک فکیف ینحصر التدبیر فی اللّه سبحانه؟
مضافاً إلى أنّ القرآن الکریم یعترف بسلسلة من المدبِّرات ویقول:
(فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً).(1)
(وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَیُرْسِلُ عَلَیْکُمْ حَفَظَةً).(2)
ولا شک أنّ هؤلاء الحفظة لو کانوا یراقبون البشر ویحفظونه من الشرور والأخطار، فإنّ من الحتمی أن یعدوا مدبِّرین له بنحو ما؟
الجواب
قد سبق منّا ـ عند البحث عن التوحید فی الخالقیة ـ أنّ التوحید فی الأفعال لیس بمعنى تعطیل فاعلیة الأسباب والعلل وإحلال اللّه تعالى محلها للتأثیر فی الظواهر مباشرة، لأنّ هذا عین ما اختارته الأشاعرة، الذی أبطلناه.
بل التوحید فی الأفعال ـ سواء أکان فی الخالقیة أم فی التدبیر ـ إنّما هو
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . النازعات: 5.
2 . الأنعام: 61.
_____________________________________ [الصفحة 405] _____________________________________
بمعنى أنّه لا یوجد فی الکون مؤثر مستقل سواه، وإنّ تأثیر سائر العلل إنّما هو على وجه التبعیة لإرادته سبحانه ومشیئته، والاعتراف بمثل هذه المدبّرات لا یمنع من انحصار التدبیر الاستقلالی فی اللّه سبحانه، ومن لیس له إلمام بألفباء المعارف والمفاهیم القرآنیة یواجه حیرة کبیرة تجاه طائفتین من الآیات ، إذ کیف یمکن أن تنحصر بعض الشؤون والأفعال کالشفاعة، والمالکیة، والرازقیة والعلم بالغیب والإحیاء فی بعض الآیات باللّه سبحانه بینما تنسب هذه الأفعال فی آیات أُخرى إلى غیر اللّه من عباده، فکیف ینسجم ذلک الانحصار مع هذه النسبة؟
وإلیک نماذج من هاتین الطائفتین من الآیات :
1. یعد القرآن ـ فی بعض آیاته ـ قبض الأرواح فعلاً للّه تعالى، ویصرح بأنّ اللّه هو الذی یتوفّی الأنفس حین موتها إذ یقول ـ مثلاً ـ :
(اللّهُ یَتَوفّی الأنْفُسَ حِینَ مَوْتِهَا).(1)
بینما نجده یقول فی موضع آخر، ناسباً التوفّی إلى غیره:
(حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَکُمْ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا).(2)
***
2. یأمر القرآن ـ فی سورة الحمد ـ بالاستعانة باللّه وحده إذ یقول:
(وَإِیَّاکَ نَسْتَعِینُ).
فی حین نجده فی آیة أُخرى یأمر بالاستعانة بالصبر والصلاة إذ یقول:
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الزمر: 42.
2 . الأنعام: 61.
_____________________________________ [الصفحة 406] _____________________________________
(وَاسْتَعِینُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ).(1)
***
3. یعتبر القرآن الکریم الشفاعة حقاً مختصاً باللّه وحده، إذ یقول:
(قُلْ للّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِیعاً).(2)
بینما یخبرنا ـ فی آیة أُخرى ـ عن وجود شفعاء غیر اللّه کالملائکة:
(وَکَمْ مِنْ مَلَک فِی السَّمواتِ لا تُغْنِی شَفَاعَتُهُمْ شَیْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ یأْذَنَ اللّهُ).(3)
***
4. یعتبر القرآن الاطّلاع على الغیب والعلم به منحصراً فی اللّه، حیث یقول:
(قُلْ لا یَعْلَمُ مَنْ فِی السَّمواتِ وَالأرْضِ الْغَیْبَ إِلاَّ اللّهُ).(4)
فیما یخبر الکتاب العزیز فی آیة أُخرى عن أنّ اللّه یختار بعض عباده لاطّلاعهم على الغیب، إذ یقول:
(وَمَا کَانَ اللّهُ لِیُطْلِعَکُمْ عَلَى الْغَیْبِ وَلَکِنَّ اللّهَ یَجْتَبِی مِنْ رُسُلِهِ مَنْ یَشَاءُ).(5)
***
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . البقرة: 45.
2 . الزمر: 44.
3 . النجم: 26.
4 . النمل: 65.
5 . آل عمران: 179.
_____________________________________ [الصفحة 407] _____________________________________
5. ینقل القرآن عن إبراهیم ـ علیه السَّلام ـ قوله بأنّ اللّه یشفیه إذا مرض حیث یقول:
(وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ یَشْفِینِ).(1)
وظاهر هذه الآیة هو حصر الإشفاء من الأسقام فی اللّه سبحانه ، فی حین أنّ اللّه یصف القرآن والعسل بأنّ فیهما الشفاء أیضاً، حیث یقول:
(فِیهِ[العسل] شِفَاءٌ لِلنّاسِ).(2)
(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ).(3)
***
6. إنّ اللّه تعالى ـ فی نظر القرآن ـ هو الرازق الوحید حیث یقول:
(إِنَّ اللّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِینُ).(4)
بینما نجد القرآن یأمر المتمکنین وذوی الطول بأن یرزقوا من یلوذ بهم من الضعفاء إذ یقول:
(وَارْزُقُوهُمْ فِیهَا وَاکْسُوهُمْ).(5)
***
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الشعراء: 80.
2 . النحل: 69.
3 . الإسراء: 82.
4 . الذاریات: 58.
5 . النساء: 5.
_____________________________________ [الصفحة 408] _____________________________________
7. الزارع الحقیقی ـ حسب نظر القرآن ـ هو اللّه کما یقول:
(أَفَرَأَیْتُمْ ما تَحْرُثُونَ * ءَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ).(1)
فی حین أنّ القرآن الکریم ـ فی آیة أُخرى ـ یطلق صفة الزارع على الحارثین إذ یقول:
(یُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِیَغِیظَ بِهِمُ الْکُفَّارَ).(2)
***
8. إنّ اللّه هو الکاتب لأعمال عباده إذ یقول:
(وَاللّهُ یَکْتُبُ ما یُبَیِّتُونَ).(3)
فی حین یعتبر القرآن الملائکة ـ فی آیة أُخرى ـ بأنّهم المأمورون بکتابة أعمال العباد، إذ یقول:
(بَلَى وَرُّسُلُنَا لَدَیْهِمْ یَکْتُبُونَ).(4)
***
9. وفی آیة ینسب تزیین عمل الکافرین إلى نفسه سبحانه یقول:
(إِنَّ الَّذِینَ لا یُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ زَیَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ).(5)
وفی الوقت نفسه ینسبها إلى الشیطان :
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 .الواقعة: 63 ـ 64.
2 . الفتح: 29.
3 . النساء: 8.
4 . الزخرف: 81.
5 . النمل: 4.
_____________________________________ [الصفحة 409] _____________________________________
(وَإِذْ زَیَّنَ لَهُمْ الشَّیْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَکُمُ الْیَوْمَ).(1)
وفی آیة أُخرى نسبها إلى آخرین وقال:
(وَقَیَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَیَّنُوا لَهُمْ ما بَیْنَ أَیْدِیِهِمْ).(2)
***
10. مر فی هذا البحث حصر التدبیر فی اللّه حتى إذا سئل من بعض المشرکین عن المدبّر لقالوا: هو اللّه، ، إذ یقول فی الآیة 31 من سورة یونس:
(وَمَنْ یُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَیَقُولُونَ اللّهُ).
بینما اعترف القرآن بصراحة فی آیات أُخرى بمدبّریة غیر اللّه حیث یقول:
(فَـالْمُدَبِّراتِ أَمْراً).(3)
فمن لم یکن له إلمام بمعارف القرآن یتخیّل لأوّل وهلة أنّ بین تلک الآیات تعارضاً، غیر أنّ الملمّین بمعارف الکتاب العزیز یدرکون أنّ حقیقة هذه الأُمور أعنی: الرازقیة، والإشفاء و ... و، قائمة باللّه على نحو لا یکون للّه فیها أی شریک، فهو تعالى یقوم بها بالأصالة وعلى وجه الاستقلال فی حین أنّ غیره محتاج إلیه سبحانه فی أصل وجوده وفعله، فما سواه تعالى یقوم بهذه الأفعال والشؤون على نحو التبعیة وفی ظل القدرة الإلهیة.
وبما أنّ هذا العالم هو عالم الأسباب والمسببات، وأنّ کل ظاهرة لا بد أن تصدر وتتحقّق من مجراها الخاص بها المقرر لها فی عالم الوجود ینسب القرآن هذه
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الأنفال: 48.
2 . فصلت: 25.
3 . النازعات: 5.
_____________________________________ [الصفحة 410] _____________________________________
الآثار إلى أسبابها الطبیعیة دون أن تمنع خالقیة اللّه من ذلک، ولأجل ذلک یکون ما تقوم به هذه الموجودات فعلاً للّه فی حین کونها فعلاً لنفس الموجودات غایة ما فی الأمر أنّ نسبة هذه الأُمور إلى الموجود الطبیعی نفسه إشارة إلى الجانب المباشری، فیما یکون نسبتها إلى اللّه إشارة إلى الجانب التسبیبی.
ویشیر القرآن إلى کلا هاتین النسبتین فی قوله سبحانه :
(وَ مَا رَمَیْتَ إِذْ رَمَیْتَ وَلَکِنَّ اللّهَ رَمَى).(1)
ففی حین یصف النبی الأعظم بالرمی، إذ یقول بصراحة (إذْ رَمَیْتَ)نجده یصف اللّه بأنّه هو الرامی الحقیقی، وذلک لأنّ النبی إنّما قام بما قام بالقدرة التی منحها اللّه له، فیکون فعله فعلاً للّه أیضاً، بل یمکن أن یقال: إنّ انتساب الفعل إلى اللّه (الذی منه وجود العبد وقوته وقدرته) أقوى بکثیر من انتسابه إلى العبد بحیث ینبغی أن یعتبر الفعل فعلاً للّه لا غیر، ولکن شدة الانتساب هذه لا تکون سبباً لأن یکون اللّه مسؤولاً عن أفعال عباده، إذ صحیح أنّ المقدمات الأوّلیة للظاهرة مرتبطة باللّه وناشئة منه إلاّ أنّه لما کان الجزء الأخیر من العلة التامة هو إرادة الإنسان ومشیئته بحیث لولاها لما تحقّقت الظاهرة یعد هو مسؤولاً عن الفعل.
وحدة المدبِّر فی العالم
إنّ القرآن استدل على وحدة المدبِّر فی العالم ببرهان ذی شقوق، وقد جاء البرهان ضمن آیتین تتکفل کل واحدة منهما بیان بعض الشقوق من البرهان، وإلیک الآیتین:
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الأنفال: 17.
_____________________________________ [الصفحة 411] _____________________________________
(لَو کانَ فِیهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا یَصِفُونَ).(1)
(وَمَا کَانَ مَعَهُ مِنْ إِله إذاً لَذَهَبَ کُلُّ إِله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضَهُمْ عَلَى بََعْض سُبْحَانَ اللّهِ عَمَّا یَصِفُونَ).(2)
وإلیک مجموع شقوق البرهان:
إنّ تصوّر تعدّد المدبِّر لهذا العالم یکون على وجوه:
1. أن یتفرد کل واحد من الآلهة المدبِّرة بتدبیر مجموع الکون باستقلاله بمعنى أن یعمل کل واحد ما یریده فی الکون دونما منازع، ففی هذه الصورة یلزم تعدد التدبیر لأنّ المدبِّر متعدّد ومختلف فی الذات، فیلزم تعدد التدبیر، وهذا یستلزم طروء الفساد على العالم وذهاب الانسجام المشهود، وهذا ما یشیر إلیه قوله سبحانه :
(قُلْ لَو کانَ فِیهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا یَصِفُونَ).
2. وأمّا أن یدبِّر کل واحد قسماً من الکون الذی خلقه وعندئذ یجب أن یکون لکل جانب من الجانبین نظام مستقل خاص مغایر لنظام الجانب الآخر وغیر مرتبط به أصلاً، وعندئذ یلزم انقطاع الارتباط وذهاب الانسجام من الکون، فی حین أنّنا لا نرى فی الکون إلاّ نوعاً واحداً من النظام یسود کل جوانب الکون من الذرة إلى المجرة.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الأنبیاء: 22.
2 . المؤمنون: 91.
_____________________________________ [الصفحة 412] _____________________________________
وإلى هذا الشق أشار بقوله: فی الآیة الثانیة: (إذَنْ لَذَهَبْ کُلُّ إِله بِمَا خَلَقَ) .
3. أن یتفضّل أحد هذه الآلهة على البقیة ویکون حاکماً علیهم ویوحّد جهودهم، وأعمالهم ویسبغ علیها الانسجام والاتحاد، وعندئذ یکون الإله الحقیقی هو هذا الحاکم دون الباقی.
وإلى هذا یشیر قوله سبحانه : (وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْض) فتلخّص أنّ الآیتین بمجموعهما تشیران إلى برهان واحد ذی شقوق تتکفل کل واحدة منهما بیان شق خاص.
ثمّ إنّ العلاّمة الطباطبائی اعتبر فی تفسیره القیم ـ المیزان ـ الآیة الثانیة برهاناً مستقلاً عن الآیة الأُولى وجعل کل جملة منها مشیرة إلى برهان خاص، وإلیک توضیح ما أفاده فی کتابه:
توضیح البرهان الأوّل
إذا افترضنا أنّ للکون خالقین وأنّ العالم مخلوق لإلهین، فإنّه لا بد أن نقول ـ وبحکم کونهما اثنین ـ أنّهما یختلفان عن بعض فی جهة أو جهات، وإلاّ لما صحت الاثنینیة والتعدد أی لما صح ـ حینئذ ـ أن یکونا اثنین دون أن یکون بینهما أی نوع من الاختلاف.
ومن المعلوم أنّ الاختلاف فی الذات سبب للاختلاف فی طریقة التدبیر والإرادة بین المختلفین ذاتاً.
فإذا کان تدبیر العالم العلوی ـ مثلاً ـ من تدبیر واحد من الإلهین وتدبیر العالم السفلی من تدبیر إله آخر، فإنّ من الحتمی أن ینفصم الترابط بین نظامی
_____________________________________ [الصفحة 413] _____________________________________
العالمین ویزول الارتباط بینهما، لأنّه من المستحیل أن یکون ارتباط ووحدة بین أجزاء عالم واحد یدار بتدبیرین متنافیین متضادین.
وینتج من ذلک التفکک بین جزئی العالم، وبالتالی فساد الکون بأسره من سماوات وأرض وما بینهما.
لأنّنا جمیعاً نعلم بأنّ بقاء النظام الکونی ـ حسب التحقیقات العلمیة ـ ناشئ من الارتباط الحاکم على أجزاء المنظومة الشمسیة بحیث لو فقد هذا الارتباط على أثر الاختلاف فی التدبیر ـ مثل أن تختل قوتا الجذب والدفع ـ لتعرض الکون بأسره للخلل ولم یبق للکون وجود ولا أثر .
ولقد أشار القرآن الکریم إلى هذا البرهان بالعبارة التی یقول فیها:
(إذاً لَذَهَبَ کُلُّ إله بِمَا خَلَقَ) .
أی أنّ کل إله ـ فی صورة التعدّد ـ یدبِّر مخلوقه حسب طریقته الخاصة، وعلى أثر تعدّد التدبیر یزول الارتباط والترابط الحاکم على أجزاء الکون، ذلک الترابط الذی هو علّة بقاء النظام الکونی وعلّة استمراره واستقامته، وثباته على النمط الذی هو علیه.
توضیح البرهان الثانی
إنّ فی عالم الکون سلسلة من النظم والسنن الکونیة الکلیة والعامة التی یوجد بینها سلسلة من النظم الجزئیة، التی تدار فی خلالها وأثنائها.
فالإنسان والحیوان والنبات وما یعیش على الأرض ذوات أنظمة صغیرة محدودة خاصة بها، وهی جزء من النظام الکلی للکرة الأرضیة.
_____________________________________ [الصفحة 414] _____________________________________
ولکن النظام الکلی للکرة الأرضیة هو بدوره یعد جزءاً من النظام الکلی للعالم، وبهذه النسبة یکون وضع نظام المجموعة الشمسیة إذا ما قورن إلى نظام المجرة.
فإذا کان النظام العالی الکلّی للکون مرتبطاً بأحد الإلهین ومحکوماً لتدبیره دون الآخر، ففی هذه الصورة سیتعالى مدبّر النظام الکلی على مدبِّر النظام الذی یندرج فیه بحیث إذا ذهب وانتفى النظام الکلی لم یبق للنظام الجزئی المندرج فیه أی أثر.
فمثلاً إذا بطل نظام الکرة الأرضیة، فإنّه یبطل ـ بالضرورة ـ نظام الإنسان والحیوان وبقیة الأحیاء ویتعرض أمرهم للزوال والفناء والخطر، بحکم التبعیة والارتباط بینهما.
وإذا تعرض النظام الکلی للمنظومة الشمسیة للخلل فإنّ من القطعی أن یختل کذلک النظام الجزئی للمنظومة مثل نظام الکرة الأرضیة على أثر ذلک، ولا یصح العکس طبعاً(1).
وفی هذه الحالة یصح (بحکم تفوق النظام العالی الکلی على النظام الجزئی السفلی) أن یقال أنّ مدبِّر النظام العلوی یتفضّل ویستعلی ویتفوّق على مدبِّر النظام السفلی الجزئی، وتکون نتیجة هذا الفرض أن یستغنی مدبِّر النظام العلوی الکلی عن مدبِّر النظام السفلی الجزئی، بینما یستلزم أن یکون مدبّر النظام السفلی الجزئی محتاجاً فی إرادته وتدبیره لمخلوقه للمدبِّر الأعلى.
لأنّ الفرض أنّ النظام السفلی مرتبط ـ کمال الارتباط ـ بالنظام العلوی
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . لأنّ فساد الکل یستتبع فساد الجزء.
_____________________________________ [الصفحة 415] _____________________________________
ویستمد من الأخیر دائماً، ومعلوم أنّ نتیجة هذا الاستمداد هو أن لا یکون موجد النظام السفلی، مستقلاً فی تأثیره وتدبیره، بل یکون معتمداً على غیره دائماً وأبداً.
ومن البدیهی أنّ الموجود المحتاج إلى غیره فی التدبیر والإیجاد لا یمکنه أن یکون الإله الغنی.
إنّ القرآن الکریم یشیر إلى هذا النحو من الاستدلال بالجملة التالیة:
(وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْض).
وعلّة هذا العلو والاستعلاء هو اعتماد تدبیر أحدهما على تدبیر الآخر بحیث لو اختل أو انتفى التدبیر الکلی العلوی لانتفى التدبیر السفلی الجزئی ولم یعد له أثر ولا خبر ، ولا ریب أنّ تفوق التدبیر مستلزم لتفوق المدبِّر وعلوه.(1)
سؤال وجواب
نرى فی قوله سبحانه :
(وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ یَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللّهِ وإنْ تُصِبْهُمْ سَیِّئةٌ یَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِکَ قُلْ کُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا یَکَادُونَ یَفْقَهُونَ حَدِیثاً * مَا أَصابَکَ مِنْ حَسَنَة فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَکَ مِنْ سَیِّئَة فَمِنْ نَفْسِکَ وَأَرْسَلْنَاکَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَکَفَى بِاللّهِ شَهِیداً).(2)
إنّ الآیة الأُولى تنسب کلاّ من الحسنة والسیئة إلى اللّه، وفی الوقت نفسه
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 .قد تقدم فی صفحة 403 الاستدلال بمضمون الآیة الأُولى على وحدة المدبر غیر أنّ الاستدلال هنا یکون بنفس هذه الآیة منضمة إلى آیة أُخرى، وجعل الآیتین بمنزلة برهان واحد ذی شقوق تتکفل الآیتان بیان شقوق البرهان.
2 . النساء: 78 ـ 79.
_____________________________________ [الصفحة 416] _____________________________________
تنسب الآیة الثانیة الحسنة إلیه سبحانه والسیئة إلى نفس الإنسان، فکیف تجتمع هاتان النسبتان؟
والخطاب فی الآیة الثانیة وإن کان للنبی إلاّ أنّ الغایة منه أعم، فهو وإن کان قد خوطب بالکلام، ولکن المقصود الناس جمیعاً، وعندئذ ینطرح هذا السؤال: إذا کان المؤثر الحقیقی فی العالم هو اللّه سبحانه وکان تأثیر غیره منوطاً بإذنه ومشیئته وقدرته وأقداره، کما یفیده قوله سبحانه : (قُلْ کُلٌّ مِنْ عِندِ اللّهِ)،لأجل أنّ للحسنة والسیئة عوامل وعللاً تنتهی إلى اللّه سبحانه وتقوم به، فیکون الکلّ مستنداً إلیه، ومعه کیف یستدرک فی الآیة الثانیة ویقرن بین الحسنة والسیئة فینسب الأُولى إلى اللّه والثانیة إلى نفس النبی وبالنتیجة إلى مطلق الإنسان ویقول:
(ومَا أَصَابَکَ مِنْ حَسَنَة فَمِنْ اللّهِ وَمَا أَصَابَکَ مِنْ سَیِئَة فَمِنْ نَفْسِکَ)؟ فهل هذا إلا تفکیک فی الحوادث وجعل بعضها منتهیاً إلى اللّه دون البعض الآخر .
الجواب
إنّ المقصود من الحسنة فی الآیة، الأُمور التی تلائم وتنطبق مع المزاج والمصالح البشریة بینما تکون السیئة عکس ذلک، کما فی قوله سبحانه :
(إِنْ تَمسَسْکُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْکُم سَیِّئَةٌ یَفْرَحُوا بِهَا).(1)
ولیس المراد منها الطاعة والمعصیة ولا الثواب والعقاب بل الحوادث التی تعد خیراً أو شراً للإنسان طیلة حیاته.
إنّ بعض المنضمین إلى صفوف المؤمنین کانت ألسنتهم طویلة وعملهم
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . آل عمران: 120.
_____________________________________ [الصفحة 417] _____________________________________
قلیلاً، فکانوا یتفلسفون، فإنْ حصل نصر قالوا: هو من عند اللّه، وإن کانت هزیمة قالوا إنّ سوء القیادة هو سبب الهزیمة.
وبعبارة أُخرى قد کان المنافقون ـ لجهلهم بمعارف الکتاب العزیز ـ یعدون الظفروالغلبة فی الحروب کحرب بدرـ مثلاًـ من اللّه، والانکسار والهزیمة کحرب أُحد من النبی ـ صلَّى الله علیه وآله وسلَّم ـ .
ولم یکن هذا النوع من التفسیر بجدید، فقد سبقهم فی ذلک أعداء موسى، فقد کان منطقهم، على شکل آخر، فکانوا ینسبون الحسنة إلى أنفسهم والسیئة إلى موسى ومن معه.
فإذا واجهوا نعمة کانوا یرون أنّ ذلک نتیجة صلاحیتهم، وإذا واجهوا نقمة أو بلاء تشاءموا بموسیعلیه السَّلام وتطیّروا به، واعتبروا وجوده ووجود جماعته المؤمنین سبباً لنزول ذلک البلاء، کما یقول سبحانه :
(فَإِذَا جَاءَتْهُمْ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هِذِهِ وِإنْ تُصِبْهُمْ سَیِّئَةٌ یَطَّیَّرُوا بِمُوسَى وَمَن مَعَهُ).(1)
ولکنَّ القرآن الکریم یواجه هذا الزعم الأعوج الذی تنسب فیه الحسنات تارة إلى اللّه و السیئات إلى النبی وأُخرى تنسب الحسنات إلى أنفسهم، والسیئات إلى موسى ـ علیه السَّلام ـ ، فکأنّ هناک مؤثرین مستقلین فی عالم الکون،
لکل واحد منهما خالق خاص ینافی الآخر ویقول فی قبال هذا المنطق: (قُلْ کُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ) .
لأنّه لیس للعالم ـ بحکم التوحید فی الخالقیة ـ إلاّ خالق واحد لا أکثر،
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الأعراف: 131.
_____________________________________ [الصفحة 418] _____________________________________
وکل ما یحدث فی هذا العالم من انتصارات أو هزائم وانکسارات ونزول نعم أو نقم ـ من حیث وجودها فی الخارج ـ تکون من اللّه، ولیس من الصحیح أبداً أن نعتبر بعضها من جانب اللّه، والبعض الآخر من جانب النبی أو غیره،
ولأجل هذا یقول القرآن (قُلْ کُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ) .
إلى هنا اتضح مفاد الآیة الأُولى، وبقی الکلام فی الآیة الثانیة وإنّهکیفتعود فتنسب الحسنة إلى اللّه والسیئة إلى النبی،
والمراد منه مطلق الإنسان؟
غیر انّ الإجابة عنه واضحة، بعد الوقوف على موضوع البحث فیهما فإنّ الآیة الأُولى ترکز على أنّ وجود الحسنة والسیئة من اللّه سبحانه ، ولا خالق ولا مؤثر فی الوجود إلاّ هو ، وأمّا الآیة الثانیة فهی ترکز على مناشئ الحسنة والسیئة ومنابعهما، فتفرّق بین مناشئ الحسنة ومنابع السیئة بأنّ منشأ الأُولى هو اللّه سبحانه، إذ هو مبدأ لکل خیر وإلیه یرجع کل فضل ومنه یفاض إلى الغیر، کما أنّ منابع السیئة هی الإنسان وأفعاله وخصاله التی یمشی علیها فی حیاته. إذا عرفت ذلک فنقول:
السیئة ـ کالزلازل والبلایا والمصائب ـ بما أنّها ظاهرة طبیعیة فوجودها من جانب اللّه سبحانه، ولأجل ذلک نسبها القرآن إلى اللّه فقال: (کُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ)وبما أنّ أعمالنا مؤثرة فی نشوء تلک الظاهرة، وکل إنسان مأخوذ بفعله فأعمالنا مبادئ لهذه الظواهر والطوارئ فنسب السیئة إلى نفس الإنسان فقال: (وما أصابک من سیئة فمن نفسک) .
ویؤید ذلک قوله سبحانه :
_____________________________________ [الصفحة 419] _____________________________________
(قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِی وَإِنِ اهْتَدَیْتُ فَبِمَا یُوحِى إِلَیَّ رَبِّی إِنَّهُ سَمِیعٌ قَرِیبٌ).(1)
إنّه تعالى یأمر نبیه بأن یعترف بأنّ ضلالته من جانب نفسه وهدایته من جانب وحیه سبحانه، ولیس ذلک إلاّ لأنّ الضلالة مما ینشأ من موقف الإنسان نفسه فی حیاته، فلأجل ذلک هی أولى بأن تنتسب إلى نفس الإنسان ، وأمّا الهدایة فهی کالحسنة أولى بأن تنتسب إلى اللّه سبحانه .
ولیس هذا مخصوصاً بالحوادث الطارئة فی عالم الطبیعة، المذکورة، بل کل إنسان رهین بآثار عمله، فإنّ الشاب المدمن على الخمر ـ مثلاً ـ یجب بالبداهة أن ینتظر سلسلة من البلایا والمصائب والمحن، والمدینة التی لا تبنی السدود فی وجه السیول یجب حتماً أن تنتظر الدمار والخراب، والبیوت التی لا تبنى على أساس مقاومة الزلازل یجب حتماً أن تنتظر الخراب والدمار على أثر الزلازل.
إنّ مثل هذه المجتمعات التی تقصر فی هذه الأُمور لابد أن تکون فی معرض المصائب والمحن والم آسی.
ولهذا قال تعالى فی الآیة الثانیة:(مَا أَصابَکَ مِنْ حَسَنَة فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَکَ مِنْ سَیِّئَة فَمِنْ نَفْسِکَ)وهو بذلک یشیرإلى ما قلناه.
لقد کان الأنبیاء ـ علیهم السَّلام ـ یذمّون من یتطیّر بهم ویتشاءم من وجودهم ویقولون:
(قَالُوا (أی الأنبیاء) طَائِرُکُمْ مَعَکُمْ أَئِنْ ذُکِّرْتُم).(2)
وهم بذلک یشیرون إلى أنّ علّة المحن والمصائب کامنة فی نفس العصاة والمنکوبین، وهو أمر ناشئ منهم ونابع من أعمالهم هم، وأنّ داءهم فیهم ومنهم إن
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . سبأ: 50.
2 . یس: 19.
_____________________________________ [الصفحة 420] _____________________________________
کانوا یبصرون ویتذکرون.
ولأجل أن نعرف أنّ أعمال الإنسان هی صانعة مصیره یکفی أن نجد القرآن یخبرنا فی آیات أُخرى بأنّ أعمال البشر وحالاته وسوابقه هی التی تکون علّة للمصائب والمحن والتحوّلات والتغیّرات التی تطرأ على حیاته، إذ یقول:
(وَمَا أَصَابَکُمْ مِنْ مُصِیبَة فَبِمَا کَسَبَتْ أَیْدِیکُمْ وَیَعْفُوا عَنْ کَثِیر).(1)
ویقول فی آیة أُخرى:
(إِنَّ اللّهَ لا یُغَیِّرُ مَا بِقَوْم حَتَّى یُغَیِّرُوا مَا بِأَنْفِسِهِمْ).(2)
ویقول أیضاً:
(ذِلِکَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ یَکُ مُغَیِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْم حَتَّى یُغَیِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ).(3)
وقد أُشیر إلى هذا الجمع الذی ذکرناه فی روایات أئمة أهل البیتـ علیهم السَّلام ـ ، فعن الإمام الرضا ـ علیه السَّلام ـ ناقلاً عن الحدیث القدسی:
ابن آدم ! بمشیئتی کنت أنت الذی تشاء وتقول، وبقوتی أدیت إلی فرائضی، وبنعمتی قویت على معصیتی، ما أصابک من حسنة فمن اللّه، وما أصابک من سیئة فمن نفسک، وذاک أنّی أولى بحسناتک منک، وأنت أولى بسیئاتک منی.(4)
وفی حدیث آخر عنه ـ علیه السَّلام ـ : .فما أصابک من حسنة فمن عندی وبتوفیقی وقوتی، وما أصابک من سیئة فمن سوء اختیارک وغوایة نفسک.(5)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الشورى: 30.
2 . الرعد: 11.
3 . الأنفال: 53.
4 . بحار الأنوار: 5/56 و 5 وقد نقل فی الأخیر بصورة مبسوطة.
5 . بحار الأنوار: 5/56 و 5 وقد نقل فی الأخیر بصورة مبسوطة.
_____________________________________ [الصفحة 421] _____________________________________
وفی ختام هذا المبحث نذکّر بعدة نقاط:
1. انّ الآیات القرآنیة ، والدلائل العقلیة أثبتت بوضوح أنّ التوحید فی الخالقیة والتدبیر لا یمنع من أن یقوم النظام الکونی على أساس العلة والمعلول، لأنّ تأثیر الأسباب لا یکون فی معزل عن إرادة اللّه،بل هو ـ بالتالی ـ فعله بنحو من الأنحاء.
2. قد توجب المصالح بأن یعطّل اللّه سبباً من تأثیره، مثل أن یجرّد من النار خاصیة الإحراق، ویأمر البحر بأن لا یغرق کما فعل لموسى وقومه، إذ یقول عن الأوّل:
(یَا نَارُ کُونِی بَرْداً وَسَلاَماً).(1)
ویقول عن الثانی:
(فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِیقاً فِی الْبَحْرِ یَبَساً لا تَخَافُ دَرَکاً وَلاَ تَخْشَى).(2)
3. کیف یمکن القول بأنّ اللّه خالق الحسنات والسیئات، وأی رابطة بین الکمال المطلق والخیر البحت والجمال المحض وخلق السیئات؟
والجواب: إنّ کون الشیء سیئاً لیس من الصفات الحقیقیة التی یتّصف بها الشیء مطلقاً کالبیاض والسواد حتى یمتنع صدوره من اللّه لکونه کمالاً وخیراً مطلقاً، بل من الصفات النسبیة التی لا یتّصف بها الشیء إلاّ بالمقایسة والنسبة، کما فی الکبر والصغر فإنّ الشیء لا یتّصف به من دون مقایسة.
وعلى ذلک فالسیئات من حیث وجودها لا تتصف بالسوء حتى یمتنع
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الأنبیاء: 69.
2 . طه: 77.
_____________________________________ [الصفحة 422] _____________________________________
انتسابها إلى اللّه، بل هی من تلک الزاویة طوارئ جمیلة، وإنّما یتّصف بها إذا کان هناک نوع من النسبة بینها وبین حیاة الإنسان ، فقدرة العدو مثلاً سیئة ومضرة بالقیاس إلى الطرف الآخر، والمطر مضر وشر بالقیاس إلى تخریبه المنازل، ففی هذه الحالة فقط یمکن أن توصف هذه الظواهر بالشر والسوء وفی هذه الصورة بالذات یقول الناس لقد نزل البلاء.
وعلى الجملة: الهدف من انتساب الحسنة والسیئة کلیهما إلى اللّه سبحانه ، لیس هو انتساب السیئة ـ بوصف کونها سیئة ـ إلى اللّه، فإنّ الشیء إنّما یتّصف بکونه سیئاً إذا کانت هناک مقایسة بالنسبة إلى الإنسان، وإلاّفلا یتصف من حیث وجوده بکونه شرّاً وسیئاً، فالعقرب شرّ إذا قیس بالنسبة إلى الإنسان، والسیل الجارف شر إذا قیس إلى الدور التی هدمها، ومع عدم هذه المقایسة لا یتصف شیء بکونه سیئاً، والآیة بما أنّها فی مقام توحید الخالقیة والربوبیة تنسب وجود کل حادثة إلى اللّه سبحانه بما أنّه المنبع الوحید للخلق والتقدیر(1).
4. قد تبیّن ممّا ذکرناه فی وجه الجمع بین نسبة الحسنات والسیئات إلى اللّه أوّلاً، ونسبة الحسنات إلیه سبحانه والسیئات إلى الإنسان ثانیاً، إنّه لا منافاة بین قوله سبحانه : (أَلاَ إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهِ وَلَکِنَّ أَکْثَرَهُمْ لا یَعْلَمُونَ)(2).(3)
وقوله سبحانه : (قَالُوا طَائِرُکُمْ مَعَکُمْ أَئِن ذُکِّرتُم)(4).
فما یتطیّرون به إنّما یجری فی الکون بأمره سبحانه فلا خالق له إلاّ هو ، غیر
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . راجع ما حققنا فی صفحة 370 من نسبة الشرور والآفات إلى اللّه.
2 . الأعراف: 131.
3 . ونظیر ذلک قوله سبحانه : (قَالُوا اطَّیَّرْنَا بِکَ وَبِمَنْ مَعَکَ قَالَ طَائِرُکُمْ عِنْدَ اللّهِ) (النمل: 47).
4 . یس: 19.
_____________________________________ [الصفحة 423] _____________________________________
أنّ منبع الطائر لیس إلاّ نفس الإنسان وعمله الذی یجری علیه الذی یسمّیه طائراً.
5. إنّ أیّة ظاهرة فی العالم مرتبطة بعلة، وهذا قانون کلّی وعام لا یقبل ـ فی منطق العقل ـ أیَّ تغییر واستثناء، وفی هذه الصورة ینطرح سؤال وهو : کیف إذن تتحقّق معجزات الأنبیاء والرسل ـ علیهم السَّلام ـ ، وفی ظل أی سبب تقع؟
غیر أنّ المحقّقین من الفلاسفة والمتکلّمین قد بحثوا حول هذاالسؤال بحثاً وافیاً، فلیراجع فی محله.
_____________________________________ [الصفحة 424] _____________________________________
_____________________________________ [الصفحة 425] _____________________________________
الفصل التاسع [425-426]الفصل السابع [331-373]
12
13
14
15
16
17
18
19
20
Lotus
Mitra
Nazanin
Titr
Tahoma