الفصل السابع [331-373]

SiteTitle

صفحه کاربران ویژه - خروج
ورود کاربران ورود کاربران

LoginToSite

SecurityWord:

Username:

Password:

LoginComment LoginComment2 LoginComment3 .
SortBy
 
مفاهیم القرآن
الفصل الثامن [375-423]نظریة الأشاعرة فی الصفات [320-330]
اللّه و التوحید فی الأفعال
1. التوحید فی الخالقیة
_____________________________________ [الصفحة 332] _____________________________________
اللّه والتوحید فی الخالقیة
1. عقیدة المعتزلة فی العلل والأسباب.
2. نقد هذه العقیدة.
3. مذهب الإمام الأشعری فی العلل الطبیعیة.
4. نقد هذا المذهب.
5. مذهب أئمة أهل البیت ـ علیهم السَّلام ـ الأمر بین الأمرین.
6. التوحید فی الخالقیة من شعب التوحید الافعالی.
7. ما معنى الخالقیة؟
8. لماذا یؤکد القرآن على التوحید فی الخالقیة؟
9. ما معنى خالقیة المسیح؟
10. التوحید فی الخالقیة یؤکد الاختیار.
11. کیف تعلّقت الإرادة الأزلیة بصدور الفعل عن الفاعل.
12. تحلیل عن الشرور.
13. خلاصة القول فی الشرور.
14. جواب آخر حول الشرور.
15. الشر أمر نسبی.
_____________________________________ [الصفحة 333] _____________________________________
التوحید فی الخالقیة
تشهد النظرة العلمیة والفلسفیة بقیام النظام الکونی على أساس سلسلة الأسباب والمسببات وارتباط کل ظاهرة من الظواهر الطبیعیة بعلّة وسبب مادی، فهذا النظام ـ بمجموعه ـ نظام ممکن، محتاج ـ فی ذاته، وفعله ـ إلى واجب غنی بالذات، وحیث إنّ الإمکان والافتقار لازم ذات الممکن وماهیته، والفقر والاحتیاج لا ینقطع ولا ینفک عنه، فالنظام الذی یتألف من سلسلة العلل والمعلولات یکون قائماً ـ فی وجوده وبقائه وفی تأثیره وفعله ـ باللّه تعالى دون أن یتمتع بأی استقلال ذاتی واستغناء عنه حدوثاً وبقاء ذاتاً وفعلاً.
وبعبارة أُخرى إنّ الظواهر الکونیة کما أنّها غیر مستقلة فی ذاتها وأصل وجودها کذلک هی غیر مستقلة ـ فی مقام علیتها وتأثیرها ـ بمعنى أنّها لا تؤثر أو لا یمکنها التأثیر إلاّ بإرادة اللّه، وحوله وقوته سبحانه ، ویستنتج من ذلک أنّه کما لا شریک له سبحانه فی الفاعلیة والعلیة، لیس هناک فی الواقع إلاّ فاعل مستقل واحد لا غیر، وإلاّ علة واحدة قائمة بنفسها لا بسواها، وذلک هو اللّه عز وجل.
وأمّا الأسباب والعلل الأُخرى فهی تستمد وجودها و فاعلیتها أیضاً من اللّه، وتقوم به، ولذلک فإنّ شعار المؤمن الموحد یکون دائماً هو: لا حول ولا قوة إلاّ باللّه.
_____________________________________ [الصفحة 334] _____________________________________
عقیدة المعتزلة
ذهب المعتزلة إلى أنّ کل ممکن مؤثر، یحتاج فی ذاته إلیه سبحانه لا فی فعله، فوجوده فقط قائم به تعالى، دون إیجاده، وإنّ فعل الممکن یرتبط بنفسه لا بموجده.
فقد فوض تأثیر الفاعل ـ فی نـظر هذه الطائفة ـ إلى نفس الأسباب والعلل بحیث لم تعد هذه الأسباب بحاجة إلى اللّه فی تأثیرها وفاعلیتها بل هی تأتی بکل ذلک على وجه الأصالة والاستقلال دون فرق فی هذه الناحیة بین الإنسان وغیره .
وقد دفع هذه الفرقة إلى اختیار مثل هذه العقیدة، تصور تنزیه اللّه عمّا یفعله العباد من الآثام والقبائح کالظلم والقتل والزنا.
فلو کانت سببیة هذه الأفعال مستندة إلى الإرادة الإلهیة، لاستلزم ذلک أن یکون عقاب العصاة ـ حینئذ ـ مخالفاً للعدل الإلهی، واستلزم نسبة القبیح إلیه سبحانه .
فهم بغیة الحفاظ على العدل الإلهی وتنزیهه سبحانه سلکوا هذا المسلک على خلاف البراهین العلمیة والفلسفیة، وعلى خلاف الآیات والأحادیث الإسلامیة، واعتبروا العلل عللاً مفوضة فوضت إلیها السببیة والتأثیر، بحیث تؤثر دون الاستناد إلى القدرة الإلهیة ، أی بالاستقلال والأصالة.
وفی الحقیقة، جعلوا مکان الفاعل المستقل الواحد ملایین الفاعلین المستقلین، وبذلک اتخذوا للّه ـ بدل شریک واحد ـ شرکاء کثیرین له فی الفعل
_____________________________________ [الصفحة 335] _____________________________________
والتأثیر، فسقطوا بذلک فی ورطة الشرک الخفی(1) بظن المحافظة على العدل الإلهی.
نقد هذا الاعتقاد
ونحن قبل أن نتحدث حول الآیات المرتبطة بـ التوحید فی الخالقیة الذی هو فی الحقیقة بحث فی التوحید الأفعالی سنذکر باختصار ما یرد على هذه النظریة من نقد و إشکال، فنقول:
1. هل یصح أن یستند الموجود الممکن فی وجوده وذاته إلى اللّه، ولکن یکون مستقلاً عنه فی تأثیره فی حین أنّ الارتباط من حیث الذات یستلزم الارتباط من حیث الفعل والتأثیر، لزوماً وحتماً.
وبعبارة أُخرى: إذا کان وجود هذه الموجودات وذاتها مرتبطة باللّه، فإنّ فعلها وتأثیرها یکون أیضاً مرتبطاً به تعالى، فکیف یقول هؤلاء باستقلال هذه الموجودات فی فعلها وتأثیرها مع اعترافهم بارتباطها باللّه سبحانه فی ذاتها، الملازم لارتباطها قهراً به فی الفعل والتأثیر فی حین لو کان الفاعل مستقلاً فی فعله لوجب أن یکون أیضاً مستقلاً فی ذاته وأصل وجوده، والاعتقاد باستقلال الأشیاء فی أصل وجودها وذاتها موجب للاعتقاد بوجوب وجودها ـ لا محالة ـ ومعلوم أنّ مثل هذا الاعتقاد مناف لـ التوحید الذاتی.
2. من الجدیر ـ جداً ـ التعمّق فی الآیة التالیة:
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . انّ اعتقاد المعتزلة باستقلال العلل والأسباب فی الفاعلیة هو نوع من الشرک الخفی الذی لا یدرکه إلاّ العلماء والمحققون دون عامة الناس، ولهذا لا یکون هذا الاعتقاد سبباً للخروج من الإسلام.
_____________________________________ [الصفحة 336] _____________________________________
(وَقُلِ الْحَمْدُ للّهِ الَّذِی لَمْ یَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ یَکُنْ لَهُ شَرِیکٌ فِی الْمُلْکِ وَلَمْ یَکُنْ لَهُ وَلِیٌّ مِنَ الذُّلِّ وَکَبِّرْهُ تَکْبِیراً).(1)
فإنّ قوله سبحانه : (وَلَمْ یَکُنْ لَهُ شَرِیکٌ فِی الْمُلْکِ) أوضح دلیل على عدم استقلال أی فاعل فی فعله، إذ لا شک أنّ أثر الفاعل عاقلاً کان أو غیره جزء من الملک، فلو کان الفاعل مستقلاً فی فعله، لکان بعض الکون وهو ذوات العلل والأشیاء ملکاً للّه سبحانه والبعض الآخر یکون ملکاً لغیره تعالى، أعنی: العلل والأسباب، فإنّ المالکیة متفرعة على الخالقیة فلو کانت الآثار خارجة عن إطار خالقیة اللّه لخرجت عن إطار مالکیته.
إنّ القرآن الکریم یخبر عن مجموعة من المدبرات إلى جانب اللّه حیث یقول:
(فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً).(2)
فمن ترى تکون تلک المدبّرات؟
المراد من تلک المدبّرات أمّا العلل الطبیعیة أو الملائکة التی تدبّر الکون.
فإذا کانت هذه الأشیاء تدبّر شؤون العالم على وجه الاستقلال دون أن تکون أفعالها مستندة إلى إرادة اللّه ومشیئته، فهل یصح قوله تعالى:
(وَلَمْ یَکُنْ لَهُ شَرِیکٌ فِی الْمُلْکِ وَلَمْ یَکُنْ لَهُ وَلِیٌّ مِنَ الذُّلِّ).
فأی شریک أعلى وأبین من هذه الشرکاء المشتغلة بتدبیر العالم دون الاعتماد على اللّه ودون الرجوع إلیه فرضاً.
3. لقد أشار أحد أئمّة أهل البیت فی الرد على عقیدة المعتزلة إلى نکتة
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الإسراء: 111.
2 .النازعات: 4.
_____________________________________ [الصفحة 337] _____________________________________
خاصة وهی:
انّ القدریة أرادوا أن یصفوا اللّه عز وجل بعدله فأخرجوه من قدرته وسلطانه.(1)
فلقد کشف الإمام موسى بن جعفر ـ علیه السَّلام ـ النقاب، منذ بدایة نشوء مذهب الاعتزال(2) عن الدوافع الأوّلیة لمثل هذا الاعتقاد، وأعلن منذئذ عن فساده، وعلة بطلانه، لأنّه یحدّد قدرة اللّه.
ولو أمعنوا النظر فی کیفیة صدور الفعل عن الإنسان ، وکیفیة فاعلیته، مع المحافظة على أصل التوحید الافعالی، لثبت لهم أنّ کل فعل صادر من الإنسان مع أنّه فعل اللّه هو فعل الإنسان نفسه، ومع أنّه (أی الفعل البشری) قائم باللّه تعالى هو صادر من العبد نفسه أیضاً، غایة ما فی الباب أنّ فاعلیته تعالى بالقیومیة وفاعلیة البشر فاعلیة مباشریة.
یقول الإمام موسى بن جعفر ـ علیه السَّلام ـ فی کتاب له إلى أحد أصحابه:
قال اللّه: یابن آدم بمشیئتی کنت، أنت الذی تشاء لنفسک ما تشاء، وبقوتی أدیت إلیَّ فرائضی، وبنعمتی قویت على معصیتی، جعلتک سمیعاً، بصیراً، قویاً.(3)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . بحار الأنوار: 5/54.
2 . نعم أنّ أصحاب الاعتزال قد أخذوا الأصلین الرئیسیین (التوحید والعدل) عن خطب أمیر المؤمنین عن طریق محمد بن الحنفیة وابنه أبی هاشم غیر أنّهم لابتعادهم عن سائر أئمّة أهل البیت لم یوفقوا إلى تفسیر هذین الأصلین على النحو اللائق بهما إلى أن وجد فیهم أقوام لهجوا بأنّ اللّه غیر قادر على أفعال الإنسان إیجاداً واعداماً وهؤلاء هم القدریة الحقیقیة.
3 . بحار الأنوار: 5/57.
_____________________________________ [الصفحة 338] _____________________________________
فالحدیث رغم أنّه یصف الإنسان بأنّه هو الذی یرید لنفسه ما یرید، وبإرادته یؤدی فرائضه ویرتکب جرائمه إلاّ أنّه فی نفس الوقت یقول: بأنّه یفعل ما یفعل بأنعام اللّه وأقداره.
نعم اختارت المعتزلة ما اختارت من استقلال العبد فی فعله بدافع المحافظة على العدل الإلهی متوهّمین بأنّ القول بوجود فاعل مستقل واحد فی العالم یستلزم أن یکون عقاب العصاة على أفعالهم على خلاف العدل، ولکنّهم غفلوا عن أنّ عقاب العصاة على آثامهم إنّما یکون مخالفاً له إذا أنکرنا حریة الإنسان فی الاستفادة من المواهب الإلهیة، واعتبرناه مجبوراً مقهوراً فی أفعاله وأنکرنا وساطة العلل والأسباب وفاعلیتها وعلّیتها.
وأمّا إذا قلنا بمشارکة العلل والأسباب فی وقوع الفعل بحیث لا یتحقق الفعل إلاّ عن هذا الطریق، أعنی: وجود العبد وإرادته واختیاره فلا یکون لذلک التوهم أی مجال، والقول بمشارکة العبد فی فعله على النحو الذی ذکرنا لا ینافی التوحید الافعالی إذ لا یعنی منه إنکار علیة العلل والأسباب الطبیعیة وغیر الطبیعیة وإلغاء دورها وتأثرها، بل یعنی مع احترام علیة العلل وسببیة الأسباب أنّه لیس ثمت سبب مستقل ومؤثر بالذات إلاّ اللّه، وانّه تعالى المؤثر الوحید الذی یؤثر بالأصالة والاستقلال دون غیره، وبهذا الطریق وحده یمکن الاجتناب عن أی نوع من ألوان الشرک فی الذات والفعل.(1)
وبعبارة أُخرى: انّ اللّه قد أعطى القدرة والنعمة لعبده، ولکن جعله حراً فی کیفیة الاستفادة منهما، فهو بإرادته واختیاره یصرف کل نعمة فی أی مورد شاء،
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . للسید الرضی فی المقام کلام فراجع حقائق التأویل: 209 ـ 210.
_____________________________________ [الصفحة 339] _____________________________________
وعندئذ یکون هو المسؤول عن أعماله وأفعاله، وعلى هذا الأساس فالفعل مستند إلى اللّه سبحانه باعتبار أنّه أقدر عبده على الفعل وأنعم علیه، کما أنّه مستند إلى عبده لکونه باختیاره صرف القدرة والنعمة فی أی مورد شاء، وهذا هو مذهب الأمر بین الأمرین الذی تواترت علیه الأخبار عن أئمّة أهل البیت ـ علیهم السَّلام ـ .
مذهب الإمام الأشعری
إنّ هناک مذهباً آخر یعد مقابلاً للمذهب الماضی وهو المنسوب إلى الإمام الأشعری، فهو لا یعترف إلاّ بمؤثر واحد وهو اللّه سبحانه وینکر علّیة أی موجود سواه، بل یقول جرت إرادة اللّه على خلق الحرارة بعد النار وخلق النور بعد الشمس وهذا هو ما أسموه بالعادة الإلهیة.
فالعادة الإلهیة جرت ـ حسب تلک النظریة ـ على ظهور الأثر عقیب وجود المؤثر ، دون مشارکة أو سببیة للمؤثر فی حصول ذلک الأثر مطلقاً.
ولکن هذه النظریة مرفوضة لمخالفتها الصریحة للبراهین العلمیة والفلسفیة ولصریح الآیات القرآنیة حول تأثیر العلل والأسباب الطبیعیة فی عالم الکون، ونحن نرجئ بیان بطلان هذا الرأی من الناحیة العلمیةوالفلسفیة(1) إلى موضع آخر، وإنّما نکتفی هنا ببیان بطلانه من وجهة نظر القرآن .
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . نعم هذه النظریة تقارب ما نقل من الفیلسوف الإنجلیزی المعروف: هیوم ،حیث إنّه أنکر مطلق العلیة ولم یعترف حتى بعلّة واحدة، وعلّل ذلک بأنّ التجربة لا تثبت إلاّ التوالی والتقارن بین النار وحرارتها والشمس وضوئها، وهما غیر العلّیة أی نشوء شیء من شیء. ولکنّه لما حصر أسباب المعرفة بالتجربة والاختبار عجز عن إثبات قانون العلیة الذی تبتنی علیه المعارف البشریة، ولو رجع إلى البراهین الفلسفیة التی أقامها الفلاسفة على أنّ کل ظاهرة ممکنة تحتاج إلى سبب یخرجها من نقطة الاستواء لظهر له الحق بأجلى مظاهره.
_____________________________________ [الصفحة 340] _____________________________________
ففی هذه الآیات یصرح القرآن ـ بوضوح کامل ـ بعلیة وتأثیر العلل الطبیعیة نفسها.
وإلیک هذه الآیات :
(وَفِی الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَاب وَزَرْعٌ وَنَخِیلٌ صِنْوَانٌ وَغَیْرُ صِنْوَان یُسْقَى بِمَاء وَاحِد وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْض فِی الأکُلِ إِنَّ فِی ذَلِکَ لآیات لِقَوْم یَعْقِلُونَ).(1)
وجملة (یُسْقَى بِمَاء وَاحِد) کاشفة عن دور الماء وأثره فی إنبات النباتات ونمو الأشجار، ومع ذلک یفضل بعض الثمار على بعض.
وأوضح دلیل على ذلک قوله تعالى فی الآیتین التالیتین:
(وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَکُمْ)(2).
(أَوَ لَمْ یَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْکُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلاَ یُبْصِرُونَ).(3)
ففی هاتین الآیتین یصرح الکتاب العزیز ـ بجلاء ـ بتأثیر الماء فی الزرع، إذ أنّ الباء تفید السببیة ـ کما نعلم ـ .
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ یُزْجِی سَحَاباً ثُمَّ یُؤَلِّفُ بَیْنَهُ ثُمَّ یَجْعَلُهُ رُکَاماً فَتَرىَ الْوَدْقَ یَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ وَیُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَال فِیهَا مِنْ بَرَد فَیُصِیبُ بِهِ مِنْ یَشَاءُ وَیَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ یَشَاءُ یَکَادُ سَنا بَرْقِهِ یَذْهَبُ بِالأبْصَارِ).(4)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الرعد: 4.
2 . البقرة: 22.
3 . السجدة: 27.
4 . النور: 43.
_____________________________________ [الصفحة 341] _____________________________________
ففی هذه الآیة نرى ـ لو أمعنا النظر ـ کیف بیّـن القرآن الکریم المقدّمات الطبیعیة لنزول المطر والثلج من السماء من قبل أن یعرفها العلم الحدیث ویطّلع علیها بالوسائل التی یستخدمها لدراسة الظواهر الطبیعیة واکتشاف عللها ومقدماتها.
فقبل أن یتوصل العلم الحدیث إلى معرفة ذلک ـ بزمن طویل ـ سبق القرآن إلى بیان تلک المقدمات فی عبارات هی:
1. یزجی (یحرک) سحاباً.
2. ثم یؤلّف (ویرکب) بینه.
3. ثم یجعله رکاماً (أی کتلة متراکمة متکاثفة).
4. فترى الودق (أی المطر) یخرج من خلاله.
5. یکاد سنا برقه یذهب بالأبصار.
وهکذا یصرح اللّه سبحانه فی کل المراحل بتأثیر الأسباب والعلل الطبیعیة، غایة ما هنالک أنّ تأثیر هذه العلل والأسباب بإذن اللّه ومشیئته بحیث إذا لم یشأ هو سبحانه لتعطلت هذه العلل عن التأثیر .
(اللّهُ الَّذِی یُرْسِلُ الرِّیَاحَ فَتُثِیرُ سَحَاباً فَیَبْسُطُهُ فِی السَّمَاءِ کَیْفَ یَشَاءُ وَیَجْعَلُهُ کِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ یَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مِنْ یَشَاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذَا هُمْ یَسْتَبْشِرُونَ).(1)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الروم: 48.
_____________________________________ [الصفحة 342] _____________________________________
وأیة جملة أوضح من قوله: (فَتُثِیرُ سَحَاباً) أی الریاح، فالریاح فی نظر القرآن هی التی تثیر السحاب وتسوقه من جانب إلى جانب آخر .
إنّ الإمعان فی عبارات هذه الآیة یهدینا إلى نظریة القرآن ورأیه الصریح حول تأثیر العلل الطبیعیة بإذن اللّه.
ففی هذه الجمل جاء التصریح:
1. بتأثیر الریاح فی نزول المطر.
2. وتأثیر الریاح فی تحریک السحب.
3. وانبساط السحب فی السماء.
4. وتجمع السحب ـ فیما بعد ـ على شکل قطع متراکمة.
5. ثم نزول المطر بعد هذه التفاعلات والمقدمات.
فإذا ینسب القرآن هذه الأفاعیل إلى اللّه فی هذه الآیات عند تعرضه لذکر مراحل تکون المطر ونزوله بأنّه (هو) یبسط السحاب فی السماء و (هو) الذی یجعله کسفاً، فإنّما یقصد ـ من وراء ذلک ـ التنبیه إلى مسألة التوحید الافعالی الذی سنبحثه من وجهة نظر القرآن فی هذا الفصل وما بعده.
على أنّ الآیات التی تؤکد دور العلل الطبیعیة وتأثیرها المباشر ، وتعتبر العالم مجموعة من الأسباب والمسببات التی تعمل بإرادة اللّه وإذنه وتکون فاعلیتها فرعاً من فاعلیة اللّه، أکثر من أن یمکن إدراجها هنا، ولکننا نرى فی ما ذکرنا الکفایة لمن تدبّر .
هذا وقال أحمد أمین المصری: إنّ من الدائر على ألسنة الأزهریین:
ومن یقل بالطبع أو بالعلّه فذاک کفر عند أهل الملّه
_____________________________________ [الصفحة 343] _____________________________________
وقال الزبیدی فی إتحاف السادة(1) وهو شرح لإحیاء العلوم:
ثبت مما تقدم أنّ الإله هو الذی لا یمانعه شیء وإنّ نسبة الأشیاء إلیه على السویة، وبهذا أبطل قول المجوس وکل من أثبت مؤثراً غیر اللّه من علة أو طبع أو ملک أو أنس أو جن، إذ دلالة التمانع تجری فی الجمیع ولذلک لم یتوقف علماء ما وراء النهر فی تکفیر المعتزلة حیث جعلوا التأثیر للإنسان.
هذا، وقد تقرب الإمام الأشعری إلى أهل السنّة بنسبته فعل الشر إلى اللّه تعالى لمّا تاب عن الاعتزال، فرقى یوم الجمعة کرسیاً فی المسجد الجامع بالبصرة ونادى بأعلى صوته: من عرفنی فقد عرفنی ومن لم یعرفنی فأنا أعرفه بنفسی، أنا فلان بن فلان، کنت أقول بخلق القرآن وانّ اللّه لا یرى بالأبصار وانّ أفعال الشر أنا أفعلها وأنا تائب مقلع معتقد للرد على المعتزلة فخرج بفضائحهم ومعایبهم.(2)
ولا یخفى أنّ التوحید الافعالی بهذا المعنى أی سلب العلیة والتأثیر عن أی موجود سواه استقلالاً وتبعاً وبالمعنى الاسمی والمعنى الحرفی جر الویل بل الویلات على أصحاب هذا الرأی من أهل السنّة فدخلوا فی عداد الجبریة وان کانوا لا یقبلون بإطلاق هذا الاسم علیهم.
غیر انّ هذا الرأی الزائف لا ینتج غیر الجبر والإلجاء فی أفعال الإنسان، ولذا رأینا أنّ الإمام الأشعری قد تاب عن قول: إنّ أفعال الشر أنا أفعلها، وذلک حینما دخل فی عقیدة السنّة ـ حسب رأیه ـ .
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . اتحاف السادة : 2/135.
2 . الفهرست لابن الندیم: 257.
_____________________________________ [الصفحة 344] _____________________________________
ما معنى هذه الجملة التی ذکرها الإمام الأشعری فی جملة عقائد أصحاب الحدیث والسنّة إنّ سیئات العباد یخلقها اللّه عزّ وجلّ، وإنّ العباد لا یقدرون أن یخلقوا منها شیئاً.(1)
أو لیس هذا موجباً للغویة بعث الأنبیاء والرسل، ولغویة الحث على العمل الصالح والزجر عن غیر الصالح.
ونرى إمام الحنابلة یمشی على هذا الضوء فیفسر القضاء والقدر على نحو یساوی الجبر والحتم حیث یقول: القدر خیره وشره، حسنه وسیئه من اللّه قضاء قضاه وقدر قدره لا یعدو واحد منهم مشیئة اللّه عز وجل والعباد صائرون إلى ما خلقهم له واقعون فیما قدر علیهم لأفعاله وهو عدل منه عزّ ربنا وجل والزناء والسرقة وشرب الخمر وقتل النفس وأکل المرء المال الحرام والشرک باللّه والمعاصی کلها بقضاء وقدر.(2)
إنّ تفسیر القضاء والقدر بهذا المعنى تشعب عن الفکرة الخاطئة من إنکار العلیة والمعلولیة فی عالم الطبیعة مطلقاً وانّ الظواهر الطبیعیة لا مصدر ولا منشأ لها إلاّ إرادته سبحانه من دون وساطة علة أو مشارکة سبب، وهو ما عرفت بطلانه فی الصفحات السابقة.
وأمّا کشف النقاب عن حقیقة قضائه وقدره سبحانه مع شمولها لعامة الحوادث والظواهر الطبیعیة والأفعال الإنسانیة، فقد أسهبنا فیه الکلام فی بعض أبحاثنا الفلسفیة.(3)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . مقالات الإسلامیین:1/321.
2 . طبقات الحنابلة: 1/25.
3 . راجع القضاء والقدر فی العلم والفلسفة تألیف شیخنا الأُستاذ وتعریب محمد هادی الغروی طبع فی بیروت 1399هـ.
_____________________________________ [الصفحة 345] _____________________________________
وللعلاّمة الحجة السید مهدی الروحانی مقال مسهب فی المقام فی کتابه بحوث مع أهل السنّة والسلفیة فراجعه.
مذهب أئمة أهل البیت
أقول: من جعل القرآن رائده وإمامه، ونظر فی آیاته مجرّداً عن المیول والأفکار المسبقة، یقف على أنّ کلا المذهبین (مذهب المعتزلة والأشاعرة) على جهتی الإفراط والتفریط، فلا تفویض ولا جبر، لا إشراک ولا ثنویة ولا اضطرار والجاء، لا أنّ الممکن مستقل فی فعله وتأثیره، ولا هو منعزل عن فعله وأثره بتاتاً.
إنّ کلا الرأیین والمذهبین لا یصدقهما القرآن ولا الدلائل العقلیة الواضحة بل انّ هناک مذهباً ثالثاً أسماه أئمّة أهل البیت بالأمر بین الأمرین وهو الذی یرشدنا إلیه التدبر فی القرآن وبه یحافظ على التوحید فی الخالقة والفاعلیة، وانّه لا خالق مستقل إلاّ هو، وعلى مشارکة العلل والأسباب مختارها ومضطرها فی الفعل والأثر فلا جبر ولا تفویض بل أمر بین الأمرین وسیوافیک توضیح الفرق بین المذهبین والأمر بین الأمرین بطرح مثال بدیع.
***
ویمکن تلخیص التوحید الافعالی فی فصلین:
1. انّه لیس فی عالم الوجود إلاّ خالق أصیل ومستقل واحد، وأمّا تأثیر العلل الأُخرى وفاعلیتها فلیست إلاّ فی طول خالقیة اللّه وعلّیته وفاعلیته، ومتحقّقة بإذنه.
_____________________________________ [الصفحة 346] _____________________________________
2. انّه لا مدبر للعالم إلاّ اللّه ولا تدبیر لغیره إلاّ بإذنه سبحانه وأمره.
وأمّا القسم الأوّل فهو التوحید فی الخالقیة .
والقسم الثانی فهو التوحید فی التدبیر والربوبیة.
وسیوافیک انّ الرب لیس بمعنى: الخالق، بل بمعنى المدبر الذی وکل إلیه أمر إصلاح فرد أو جماعة.(1)
التوحید فی الخالقیة
من مراجعة القرآن الکریم یتضح أنّ هذا الکتاب السماوی لا یعرف خالقاً مستقلاً أصیلاً إلاّ اللّه، وأمّا خالقیة ما سواه فهی فی طول خالقیته ولیس له استقلال فی الخلق والإیجاد، وإلیک فیما یلی طائفة من الآیات التی تشهد بهذا الأمر :
(قُلِ اللّهُ خَالِقُ کُلِّ شَیْء وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ).(2)
(اللّهُ خَالِقُ کُلِّ شَیْء وَهُوَ عَلَى کُلِّ شَیء وَکِیلٌ).(3)
(ذَلِکُمُ اللّهُ رَبُّکُمْ خَالُقُ کُلِّ شَیْء لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ ).(4)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . قد فسر الوهابیون الرب بالخالق واعتبروا التوحید فی الربوبیة والتوحید فی الخالقیة قسماً واحداً، فی حین أنّ الربوبیة لا تعنی الخالقیة، بل تعنی إدارة فرد أو جماعة وتدبیر أُمورهم وسیأتی توضیح هذا القسم فی المستقبل.
2 . الرعد: 16.
3 . الزمر: 62.
4 . غافر: 62.
_____________________________________ [الصفحة 347] _____________________________________
(ذَلِکُمُ اللّهُ رَبُّکُمْ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ کُلِّ شَیْء فَاعْبُدُوهُ).(1)
(هُوَ اللّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى).(2)
(أَنَّى یَکُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَکُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ کُلَّ شَیْء).(3)
(یَا أَیُّهَا النَّاسُ اذْکُرُوا نَعْمَةَ اللّهِ عَلَیْکُمْ هَلْ مِنْ خالِق غَیْرُ اللّهِ).(4)
(أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَکَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِینَ).(5)
ولا یمکن أن تکون هناک عبارات أوضح من هذه العبارات فی إفادة المقصود وهو: أنّ کل الأشیاء ـ بذاتها وآثارها ـ معلولة للّه ومخلوقة له سبحانه .
فهو الذی خلق الشمس والقمر والنار، وهو الذی أعطاها النور والضوء والحرارة، وأقام ارتباطاً وثیقاً بین هذه الآثار وتلک الأشیاء.
وبالتالی فهو الذی أعطى للأسباب سببیّتها وللعلل علّیتها.
إنّ القرآن یرى ـ بحکم نظرته الواقعیة ـ بأنّ کل ما فی هذه الحیاة من سماء وکواکب وأرض وجبال وصحراء وبحر ، وعناصر ومعادن، وسحاب ورعد وبرق وصاعقة، ومطر وبرد، ونبات وشجر، وحجر وحیوان وإنسان، وغیرها من الموجودات غیر مستقلة فی التأثیر، وإنّ کل ما ینتسب إلیها من الآثار لیست لذوات هذه الأسباب، وانّما ینتهی تأثیر هذه المؤثرات إلى اللّه سبحانه .
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الأنعام: 102.
2 . الحشر: 24.
3 . الأنعام: 101.
4 . فاطر: 3.
5 . الأعراف: 54.
_____________________________________ [الصفحة 348] _____________________________________
فجمیع هذه الأسباب والمسببات رغم ارتباطها بعضها ببعض ـ بحکم العلیة ـ فهی مخلوقة للّه جمیعاً، فإلیه تنتهی العلیة وإلیه تؤول السببیة وهو معطیها للأشیاء.
ولا شک أنّ البشر هو أیضاً ذو آثار وأفعال، کالأکل والشرب والقیام والقعود وغیرها من الأفعال، وکلّها مرتبطة بالإنسان نفسه، فهی أفعاله الاختیاریة التی یتعلّق بها الأمر والنهی.
ولکنّه لیس مستقلاً فی فعله وأثره، فکما أنّ فعله یعد فعلاً له ومرتبطاً به، فهکذا یعد فعله فعلاً للّه سبحانه ومرتبطاً به بحکم کون وجوده وما أُعطی من القوى والطاقات مستندة إلى اللّه سبحانه، وعلى ذلک فلا یمکن أن یکون فعل العبد مرتبطاً بالعبد ومنقطعاً عن اللّه، إذ کیف یکون ذات الشیء مرتبطاً ویکون فعله منقطعاً، فإنّ غیر المستقل بالذات غیر مستقل فی الفعل، والمستقل فی الذات مستقل فی الفعل أیضاً.
وبعبارة أُخرى: انّ المراد من کون أفعال العباد مخلوقة للّه لیس هو کونها فعلاً له سبحانه بلا مشارکة العبد، بل المراد هو عدم استقلال العبد والعلل کلها فی مقام الإنشاء والإیجاد وإلاّ لزم أن یکون فی صفحة الوجود فاعلون مستقلون فی الفعل والإیجاد وهو بمنزلة الشرک.
وبذلک یرتفع الاستیحاش عن القول بأنّ أفعال العباد مخلوقة للّه، إذ لیس المراد انّه سبحانه فاعل دونهم کما لیس المراد أنّها أفعال لهم دونه سبحانه ، بل هی أفعال له تعالى من جهة وأفعال لهم من جانب آخر .
وقد أوضحه بعض المحقّقین بالمثال التالی الذی یوضح موقف کل من مذهبی الجبر والتفویض وما هو الحق من الأمر بین الأمرین، فلنفرض أنّ إنساناً
_____________________________________ [الصفحة 349] _____________________________________
أعطى لأحد سیفاً مع علمه بأنّه یقتل به نفساً، فالقتل إذا صدر منه لا یکون مستنداً إلى المعطی بوجه، فإنّه حین صدوره یکون أجنبیاً عنه بالکلیة غایة الأمر أنّه هیّأ بإعطائه السیف مقدمة إعدادیة من مقدمات القتل، وهذا واقع التفویض.
کما أنّه لو شد آلة جارحة بید الإنسان المرتعش بغیر اختیار، فأصابت الآلة من جهة الارتعاش نفساً فجرحته، فالجرح لا یکون صادراً من ذاک الإنسان المرتعش، بإرادته واختیاره، بل هو مقهور علیه فی صدوره منه، وهذا واقع الجبر وحقیقته.
وإذا فرضنا أنّ ید الإنسان مشلولة لا یتمکّن من تحریکها إلاّ مع إیصال الحرارة إلیها بالقوة الکهربائیة، فأوصل رجل القوة إلیها بواسطة سلک یکون أحد طرفیه بید المولى، فاختار ذلک الإنسان قتل نفس والموصل یعلم بذلک، فالفعل بما انّه صادر من الإنسان المشلول باختیاره یعد فعلاً له، وبما أنّ السلک بید الموصل وهو الذی یعطی القوة للعبد آناً ف آناً فالفعل مستند إلیه، وکل من الإسنادین حقیقی من دون أن یکون هناک تکلّف أو عنایة، وهذا هو واقع الأمر بین الأمرین، فالأفعال الصادرة من المخلوقین بما أنَّها تصدر منهم بالإرادة والاختیار، فهم مختارون فی أفعالهم; وبما أنّ فیض الوجود والقدرة والشعور من مبادئ الفعل یجری علیهم من قبل اللّه تعالى آناً ف آناً، فأفعالهم منتسبة إلى خالقهم.(1)
إنّ هناک طائفة من الآیات القرآنیة تبیّـن هذه الحقیقة بنحو آخر وهو أنّه لیس اللّه تعالى خلق الأشیاء فقط، بل هو الذی قدر تأثیر کل شیء وخلق له
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . أجود التقریرات: 1/90.
_____________________________________ [الصفحة 350] _____________________________________
حدوداً خاصة، وغایات معینة مثل قوله تعالى:
(وَخَلَقَ کُلَّ شَیْء فَقَدَّرَهُ تَقْدِیراً).(1)
(رَبُّنَا الَّذِی أَعْطَى کُلَّ شَیْء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى).(2)
(الَّذِی خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِی قَدَّرَ فَهَدَى).(3)
هذه الآیات وما قبلها تبیّـن التوحید الخالقی بوضوح ولا تعترف بخالق أصیل ومستقل إلاّ اللّه،کما أنّها لا تعترف بمقدّر أصیل للأشیاء وهاد واقعی لها غیره سبحانه .
ما هو معنى الخالقیة؟
ماذا یراد من أنّ اللّه سبحانه هو الخالق الوحید وانّ الذوات والأشیاء وما یتبعها من الأفعال والآثار حتى الإنسان وما یصدر منه، مخلوقات للّه سبحانه بلا مجاز ولا شائبة عنایة؟
إنّ الوقوف على تلک الحقیقة القرآنیة یتوقف على تحلیل معنى الخلق لغة واستعمالاً.
إنّ لفظة الخلق تارة یراد منها التقدیر وأُخرى الإبداع والإیجاد، والمیزان فی ذلک هو إنّه إذا قیل: خلق هذا من ذاک وذکرت معه المادة القابلة للصیاغة والتصویر و النحت و التکوین یراد منه التقدیر، قال سبحانه حاکیاً عن سیدناالمسیح ـ
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الفرقان: 2.
2 . طه: 50.
3 . الأعلى: 2 ـ 3.
_____________________________________ [الصفحة 351] _____________________________________
علیه السَّلام ـ : (أَنِّی أخْلُقُ لَکُمْ مِنَ الطِّینِ کَهِیْئَةِ الطَّیْرِ فَأَنْفُخُ فِیهِ فَیَکُونُ طَیْراً بِإِذْنِاللّهِ).(1)
یقال: خلقت الأدیم للسقاء، إذا قدرته، ویقال أیضاً: خلق العود: سوّاه.(2)
وأمّا إذا تعلّق الخلق بالشیء ونسب إلیه من دون أن تقترن بمادة خاصة، فیراد منه الإبداع والإیجاد من کتم العدم، کقوله سبحانه :
(وَخَلَقَ کُلَّ شَیْء فَقَدَّرَهُ تَقْدِیراً).(3)
نعم دلت البراهین الفلسفیة على أنّ الخلق لا ینفک عن الإیجاد والإبداع حتى فی القسم الأوّل، فإنّ المادة وإن کانت موجودة لکن الصورة ـ لا شک ـ إنّها أبداعیة قطعاً، کقوله سبحانه :
(هُوَ الَّذِی خَلَقَکُمْ مِنْ تُرَاب ثُمَّ مِنْ نُطْفَة ثُمَّ مِنْ عَلَقَة ثُمَّ یُخْرِجُکُمْ طِفْلاً).(4)
ولعلّه لذلک اکتفى ابن فارس فی مقاییسه فی توضیح معنى الخلق بالمورد الأوّل أی التقدیر ولم یذکر المورد الثانی اعتماداً بأنّ التقدیرلا ینفک عن الإیجاد والإبداع کماأنّ الإیجاد لاینفک عن التقدیر،کما صرح بقوله:(وَخَلَقَ کُلَّ شَیْء فَقَدَّرَهُ تَقْدِیراً)(5)
***
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . آل عمران: 49.
2 . المقاییس لابن فارس: 2/214، والقاموس المحیط: مادة خلق.
3 . الفرقان: 2.
4 . غافر: 67.
5 . الفرقان: 2.
_____________________________________ [الصفحة 352] _____________________________________
ثم إنّه وقع النزاع فی صحة استعمال لفظ الخلق فی الأفعال، لغة، وانّه هل یتعلّق الخلق بالأفعال کتعلّقه بالذوات، أو أنّه لا یتعلّق إلاّ بالذوات، وأمّا الأفعال والأحداث فیتعلّق بها الإیجاد، والإنسان موجد لفعله لا خالق له، فیقال: أوجد فعله ولا یقال: خلقه.
وربما یستدل على صحة تعلّقه بالفعل والعمل بقوله تعالى:
(فَرَاغَ عَلَیْهِمْ ضَرْباً بِالْیَمِینِ * فَأَقْبَلُوا إِلَیْهِ یَزفُّونَ * قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَ اللّهُ خَلَقَکُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ).(1)
والشاهد هو قوله: (خَلَقَکُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) غیر انّه یمکن أن یقال: انّ المراد من الموصول فی قوله: (وَمَا تَعْمَلُونَ)هو الأصنام التی کانوا یعملونها وینحتونها بقرینة ما سبقها من الآیات، أعنی قوله: (فَرَاغَ عَلَیْهِمْ ضَرْباً بِالْیَمِینِ)والمقصود انّ اللّه خلقکم وخلق الأصنام التی تصنعونها، ویکون وزان الآیة وزان قوله سبحانه:
(یَعمَلُونَ لَهُ مَا یَشَاءُ مِنْ مَحَارِیبَ وَتَمَاثِیلَ وَجِفَان کَالْجَوَابِ).(2)
وبذلک یسقط الاستدلال بالآیة.
وربما یستدل على نفی صحة اسناد الخلق إلى غیره سبحانه بقوله تعالى:
(أَیُشْرِکُونَ مَالاَ یَخْلُقُ شَیْئاً وَهُمْ یُخْلَقُونَ).(3).(4)
فإنّ الظاهر من قوله (لا یَخْلُقُ شَیْئاً) انّ کل معبود سواه لا یخلق شیئاً ولا
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الصافات: 93 ـ 96.
2 . سبأ: 13.
3 . الأعراف: 191.
4 . ومثله الآیة 20 من سورة النحل والآیة 3 من سورة الفرقان.
_____________________________________ [الصفحة 353] _____________________________________
یقال لفعله انّه مخلوق ولا لنفسه انّه خالق.
غیر انّ الإجابة عن هذا الاستدلال أیضاً واضحة، فإنّ المراد بعد الغض عن احتمال کون المراد الأصنام المنحوتة لا کل موجود سواه، نفی الخالقیة اللائقة لساحته سبحانه ، وهی الخالقیة المستقلة غیر المعتمدة على شیء ومن المعلوم أنّ الخالقیة بهذا المعنى لا یقدر علیها أحد.
إذا وقفت على استدلال الطرفین من حیث صدق الخلق على الفعل وعدم صدقه، فهلمّ معنا نوقفک على الحقیقة وانّه هل یجوز استعمال لفظ الخلق فی مورد الأعمال وعدمه؟
فنقول: أمّا أوّلاً: لا شک أنّ الخلق یتعلّق بالفعل کما یتعلّق بالذات، کما فی قوله سبحانه :
(إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْکاً إِنَّ الَّذِینَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لا یَمْلِکُونَ لَکُمْ رِزْقاً).(1)
فإنّ قوله سبحانه : (وَتَخْلُقُونَ إِفْکاً) بمعنى تقولون: کذباً ، فلیس الکذب والصدق إلاّ من أفعال البشر .
وفی الحدیث:
خلقت الخیر وأجریته على یدی من أحب وخلقت الشر وأجریته على یدی من أُرید.
قال الطریحی فی تفسیر الحدیث: المراد بخلق الخیر والشر خلق تقدیر لا خلق تکوین، ومعنى التقدیر نقوش فی اللوح المحفوظ، ومعنى خلق التکوین
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . العنکبوت: 17.
_____________________________________ [الصفحة 354] _____________________________________
وجود الخیر والشر فی الخارج، وهو من أفعالنا وقد ورد فی الحدیث یا خالق الخیر والشر.(1)
وثانیاً: سلمنا أنّ الخلق لا یتعلّق بالفعل غیر أنّ عمومیة المتعلّق فی الآیات الواردة فی هذا الفصل التی تخص الخالقیة باللّه سبحانه کقوله: (خَلَقَ کُلَّ شَیْء)وقوله: (قُلِ اللّهُ خَالِقُ کُلَّ شَیْء)أو قوله: (هَلْ مِنْ خَالِق غَیرِ اللّه)تکون قرینة على أنّ المراد من الخلق فی الآیات هو مطلق الإیجاد والإبداع، سواء تعلّق بالذات أو بالفعل، فیستدل بعموم المتعلّق (کل شیء) مثلاً على إلغاء الخصوصیة المتوهمة فی لفظ الخلق من أنّه لا یتعلّق إلاّ بالذوات دون الأفعال.
إنّ عنایة القرآن بطرح متعلّق الخلق بشکل عام عنایة لا یرى مثلها فی غیره تکون قرینة على أنّ المراد هو نفی وجود أی مؤثر أو موجود مستقل فی صفحة الوجود دون اللّه، وقد ذکر علماء المعانی، انّ خصوصیة الفعل ربّما یسری إلى المتعلّق فیخرجه عن السعة، فإذا قال القائل: لا تضرب أحداً، ینصرف لفظ الأحد بقرینة لا تضرب إلى الحی وإن کانت تلک اللفظة عامة تشمل الحی المیت.
وقد یعکس فتکون سعة المتعلّق قرینة على شمول الفعل وعمومیته، کما لا یخفى مثلاً أنّ قوله سبحانه :
(إِنَّ الَّذِینَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ) (2) وإن کان خاصاً من جهة الموصول والصلة بالعاقل فلا یشمل إلاّ دعوة العقلاء، إلاّ أنّ قوله من دون اللّه قرینة على أنّ الممنوع هو دعوة مطلق غیر اللّه عاقلاً کان أو غیره،
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . مجمع البحرین مادة خلق، ولا یخفى أنّه کما تکون ذوات الأشیاء خیراً وشراً کذلک تکون الأفعال خیراً وشراً، بل نسبة الخیر والشر إلى الذوات کصحة البدن والمال إنّما هی باعتبار کونها مبدأ للخیر والشر .
2 . الحج: 73.
_____________________________________ [الصفحة 355] _____________________________________
وبذلک یظهر أنّ للعموم الحاکم على المتعلّق فی الآیات، أعنی قوله تعالى: (کُلَّ شَیْء) ، وإضرابه دلیلاً على أنّ المقصود حصر مطلق الخلق المتعلّق بالذوات والأفعال باللّه سبحانه .
ثالثاً: انّ المقصود من التوحید فی الخالقیة هو التوحید فی التأثیر والإیجاد سواء أصح إطلاق الخلق علیه أم لا.(1) والمراد أنّ کل موجود ممکن غیر مستقل فی ذاته غیر مستقل فی فعله وتأثیره أیضاً، لأنّ غیر المستقل فی الذات والقوى والطاقات غیر مستقل فی أعمال هذه القوى والاستفادة من هذه الطاقات، إلاّ أنّ کون الفاعل غیر مستقل لیس بمعنى کونه مجبوراً ومضطراً فی أعمال هذه القوى والطاقات، بل هو مخیر فی أعمالها على أی نحو شاء.
وتظهر حقیقة هذا المعنى بالتدبّر فی الآیات التی تصف اللّه تبارک وتعالى بالقیومیة کما فی قوله سبحانه :
(اللّهُ لاَ إِله إِلاَّ هُوَ الْحَیُّ الْقَیُّومُ)(2).(3)
فإنّ معنى القیومیة لیس إلاّ قیام ما سواه ـ من ذات وفعل ومؤثر وأثر ـ به سبحانه ومعه کیف یمکن أن نصف الموجودات الإمکانیة بالاستقلال فی الفاعلیة والتأثیر .
سؤال فی المقام
إذا کان المشرکون لا یشکّون فی موضوع التوحید فی الخالقیة، فلماذا نجد
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . نعم عند ذاک لا تصلح الآیات الحاصرة للخلق باللّه سبحانه للاستدلال فی المقام إلاّ بضرب من التأویل، ولابد من الاستدلال بالآیات التی تحصر القیومیة باللّه سبحانه وغیرها من الآیات.
2 .البقرة: 255، وآل عمران: 2.
3 . وقوله سبحانه : (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَىِّ الْقَیُّومِ) (طه: 111).
_____________________________________ [الصفحة 356] _____________________________________
القرآن ینهض لذم المشرکین، ویذکرهم بأنّ معبوداتهم لم تخلق شیئاً؟ کقوله:
(هَذَا خَلْقُ اللّهِ فَأَرُونِی مَاذَا خَلَقَ الَّذِینَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِی ضَلاَل مُبِین).(1)
(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لاَ یَخْلُقُونَ شَیْئاً وَهُمْ یُخْلَقُونَ وَلا یَمْلِکُونَ لإنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلاَ یَمْلِکُونَ مَوْتاً وَلا حَیَاةً وَلا نُشُوراً).(2)
(أَمْ جَعَلُوا للّهِ شُرَکَاءَ خَلَقُوا کَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَیْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ کُلِّ شَیْء وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ).(3)
(إِنَّ الَّذِینَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لَنْ یَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَو اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ یَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَیْئاً لاَ یَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ).(4)
(اللّهُ الَّذِی خَلَقَکُمْ ثُمَّ رَزَقَکُمْ ثُمَّ یُمِیتُکُمْ ثُمَّ یُحْیِیکُمْ هَلْ مِنْ شُرَکَائِکُمْ مَنْ یَفْعَلُ مِنْ ذَلِکُمْ مِنْ شَیْء سُبْحَانَهُ وَتَعَالى عَمَّا یُشْرِکُونَ).(5)
(قُلْ أَرَأَیْتُمْ شُرَکَاءَکُمْ الَّذِینَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أَرُونِی ماذا خَلَقُوا مِنَ الأرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْکٌ فِی السَّمواتِ).(6)
الجواب: انّ الهدف من التذکیر بخالقیة اللّه وحده وسلب الخالقیة من غیره لیس لأنّ المشرکین کانوا یعتبرون الأوثان خالقة، إنّما الهدف من طرح حصر الخالقیة باللّه ونفیها من الأصنام هو فی الحقیقة ردع المشرکین من عبادة غیر اللّه
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . لقمان: 11.
2 . الفرقان: 3.
3 . الرعد: 16.
4 . الحج: 73.
5 . الروم: 40.
6 . فاطر: 40.
_____________________________________ [الصفحة 357] _____________________________________
تعالى، ذلک لأنّ العبادة إنّما یستحقها من یکون متصفاً بالکمال ومنزّهاً عن أیة نقیصة أو عائبة، وأی کمال أعلى من الاتصاف بالخالقیة التی أسبغ صاحبها لباس الوجود على کل شیء مما سواه؟
وبعبارة أُخرى فإنّ العبادة من مقتضیات المالکیة والمملوکیة، الناشئتین من الخالقیة والمخلوقیة، وإذ یعترف المشرکون بأنّ اللّه هو الخالق دون سواه، فلماذا یعبدون غیره؟ ولماذا لا یجتنبون عن عبادة من سواه؟
وعلى هذا الأساس فإنّ إصرار القرآن الکریم لیس لأنّ المشرکین کانوا یشکون فی التوحید الخالقی وغافلین عن هذه الحقیقة الساطعة الثابتة، بل لأنّهم کانوا غافلین عن لوازم التوحید الخالقی، وهو: التوحید فی العبادة، فأراد اللّه بالتذکیر بهذه الحقیقة أنّ یلفت نظرهم إلى لازمه وهو التوحید فی العبادة.
هذا وقد نقلنا لک فیما مضى بعض هذه الآیات.(1)
وقد ذکرت هذه الحقیقة (أی حصر الخالقیة فی اللّه تعالى) فی آیات أُخرى بعبارة (الْخَلاَّقُ الْعَلِیمُ) ، مثل قوله:
(إِنَّ رَبَّکَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِیمُ).(2)
(أَوَ لَیْسَ الَّذِی خَلَقَ السَّمواتِ وَالأرْضَ بِقَادِر عَلَى أَنْ یَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِیمُ).(3)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . راجع الآیات التالیة: الأنعام: 102، فاطر: 3، الزمر: 62، غافر: 62، الحشر: 24 وغیرها.
2 . الحجر: 86.
3 . یس: 81.
_____________________________________ [الصفحة 358] _____________________________________
وصفوة القول: إنّ السبب وراء طرح حصر الخالقیة فی اللّه ونفیها عمّـا سواه، وکذا التندید بالأوثان والأصنام بأنّها لا تقدر على خلق ذبابة،(1) وغیر ذلک هو تنبیه الضمائر الغافلة عن عبادة اللّه وحده، لأنّه مع اعتراف المشرکین بانحصار الخالقیة فی اللّه ونفیها عن المعبودات الأُخرى (المصطنعة) ینبغی أن یعبدوا اللّه وحده، الذی خلق کل شیء وأخرج جمیع الموجودات من العدم إلى حیز الوجود والتحقّق لا أن یعبدوا ما سواه، من الأوثان والأصنام العاجزة عن فعل أو خلق شیء حتى ذبابة أو دفعها عن نفسها، وهذا هو ما ترید هذه الآیات التنبیه إلیه.
سؤال
إذا لم یکن فی الوجود من خالق غیر اللّه، فکیف یصف القرآن عیسى المسیح ـ علیه السَّلام ـ بأنّه یخلق أیضاً حیث یقول حاکیاً عنه:
(أَنِّی أَخْلُقُ لَکُمْ مِنَ الطِّینِ کَهَیْئَةِ الطَّیْرِ)(2)؟
ثم کیف یصف اللّه نفسه ـ بعد أن یذکر مراحل خلقه للإنسان ـ بأنّه (أَحْسَنُ الْخَالِقِینَ) ، وفی ذلک اعتراف ضمنی بوجود خالقین آخرین إلى جانب اللّه، إذ یقول:
(فَتَبَارَکَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِینَ)(3)؟
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الحج: 73 (إِنَّ الَّذِینَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لَنْ یَخْلُقُوا ذُبَاباً) .
2 . آل عمران: 49.
3 . المؤمنون: 14.
_____________________________________ [الصفحة 359] _____________________________________
انّ الجواب: یتضح من التوجه إلى استقلال اللّه فی التأثیر والفعل، وعدم استقلال غیره فی مقام الذات والفعل.
فالخالقیة المنحصرة فی اللّه غیر قابلة لاتصاف الغیر بها، ولا قابلة لإثباتها للغیر، إذ هو مستقل أصیل فی خلقه بمعنى أنّه لا یعتمد على شیء ولا یستعین بأحد ولا یحتاج لأذن آذن، ومن المعلوم أنّ القرآن الکریم لم یصف أحداً بمثل هذه الخالقیة دون اللّه تعالى.
أمّا الخلق والخالقیة التی یکون المتصف بها معتمداً على اللّه، ومحتاجاً إلى قدرته وإرادته وعونه، فهی یمکن أن تثبت للمخلوقین، إذ لا مشارکة حینئذ مع اللّه فی الصفة الثابتة له المذکورة سابقاً.
فکل شیء من أشیاء هذا الوجود یکون خالقاً فی حد نفسه عندما یکون مؤثراً لأثر وسبباً لمسبب، ولا ریب أنّ إثبات هذا النوع من الخالقیة لغیر اللّه لا ینافی التوحید الخالقی على النحو الذی مر تفسیره وبیانه.
وربما یجاب عن هذا السؤال بأنّ لفظة الخلق تطلق ویراد منها الإیجاد من العدم تارة وأُخرى التقدیر، والمراد من قوله سبحانه : (أَخْلُقُ لَکُمْ مِنَ الطِّینِ کَهَیْئَةِ الطَّیْرِ) هو المعنى الثانی، أی أقدر لکم من الطین کهیئة الطیر.
غیر انّ هذا الجواب لا یخالف مع ما اخترناه فی هذا الفصل، فانّ التقدیر وإن کان فعلاً للمسیح، إلاّ أنّه بما هو ظاهرة کونیة یحتاج إلى فاعل، ولیس الفاعل القریب إلاّ المسیح ـ علیه السَّلام ـ ، ولکنه لیس مستقلاً فی فعله هذا، کما هو لیس مستقلاً فی ذاته وإلاّ تلزم الثنویة فی الفاعلیة المستقلة، على ما أوضحنا برهانه فالتقدیر مع کونه فعلاً له، فعل للّه سبحانه ، ونعم ما قاله الحکیم السبزواری فی منظومته
_____________________________________ [الصفحة 360] _____________________________________
الفلسفیة:
و کیف فعلنا إلینا فوضـــا وإنّ ذا تفویض ذاتنـا اقتضى
لکن کما الوجود منسوب لنـا فالفعل فعل اللّه وهو فعلنا(1)
سؤال آخر
إنّ حصر الخالقیة فی اللّه سبحانه ربما یستشم منه القول بالجبر ویکون المسؤول عن فعل العبد هو خالق الفعل والمفروض إنّه لا خالق سوى اللّه؟
الجواب
إنّ هذا الإشکال ـ فی الحقیقة ـ إنّما یتجه ویصح إذا قلنا بأحد الأصلین التالیین، وهما:
1. إنکار علّیة أیة ظاهرة من الظواهر الطبیعیة، وإحلال خالقیته سبحانه مکان العلل الطبیعیة، کما هو الظاهر من کل من أنکر قانون العلیة فی الأشیاء وأراح نفسه بعادة اللّه.
2. أن نعترف بعلیة الموجودات الأُخرى ومشارکتها المباشرة فی الآثار والأفعال، ولکن نعتقد بوجود نوع واحد من العلة فی العالم فقط وهو العلة المضطرة المسیرة، لا أکثر.
فمع قبول أحد هذین الأصلین یتوجه الإشکال المذکور على ما قلناه ویتجه ولکن إذا أنکرنا کلا الأصلین المذکورین اتضح جواب الإشکال.
فبالنسبة للأصل الأوّل بحثنا فیما سبق وأوضحنا کیف أنّ البراهین الفلسفیة
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . شرح المنظومة : 175.
_____________________________________ [الصفحة 361] _____________________________________
والقرآنیة تعترف وتؤکد رابطة العلیة والمعلولیة بین الموجودات وآثارها واتضح من خلالها أنّ اللّه تعالى علّة العلل وموجد الأسباب، لا أنّه یقوم مقام الأسباب والعلل بحیث تتعطل الأسباب والعلل ولا تعود لها أیة مشارکة وفاعلیة.
وعلینا الآن أن نبحث حول الأصل الثانی ونتحدث حول تقسیم العلة إلى اضطراریة وأُخرى اختیاریة.
فنقول: هناک نوعان من العلل والأسباب:
1. علل ذات إدراک وشعور واختیار وإرادة.
وبعبارة أُخرى، هناک فاعل مختار بمعنى أنّه إذا واجه مفترق طریقین اختار أحدهما على الآخر بإرادة واختیار منه، وبکامل حریته دونما قهر أو جبر .
2. وهو ما یقابل النوع الأوّل وتلک هی العلل الفاقدة للإدراک والشعور بنفسها وبأفعالها، أو تکون مدرکة وشاعرة ولکنها لا تکون مختارة ومریدة لأفعالها.
وهذا النوع من العلل سواء أکانت فاقدة للشعور أم فاقدة للاختیار والإرادة تسمّى فاعلاً مضطراً.
فمثلاً الشمس هی من العلل التی لا تشعر هی بآثارها (کالإشعاع والإنبات والإنماء) وتکون لذلک مجبورة ومضطرة فی فعلها، والنحل والنمل وما شابههما من الدواب والحیوانات والحشرات ـ وإن کانت تشعر وتدرک ما تفعل ـ إلاّ أنّـها تعمل ما تعمل بالوحی أو بالغریزة مائة بالمائة بمعنى أنّ هذه الأحیاء لا تفعل ما تفعله بعد مراجعة العقل، بل تأتی بأفعالها تحت وطأة الغریزة، ودون إرادة منها ولا اختیار، ومثل ذلک حرکة ید المشلول وأضرابه.
ومع الالتفات إلى هذا النوع من التقسیم یتضح جواب السؤال، لأنّه وان صحّ أن یقال إنّ أفعال البشر مخلوقة للّه ومتعلّقة لإرادته، وإنّ اللّه أراد من الأزل
_____________________________________ [الصفحة 362] _____________________________________
أن تقع هذه الحوادث فی عالم الطبیعة، ولکنه یجب أن نعرف مغزى خالقیة اللّه لکل شیء، ویتعرف على ذلک من الوقوف على کیفیة تعلّق إرادته سبحانه بکل شیء، وبکل العلل والأسباب مختارها ومضطرها.
کیف تعلّقت إرادته سبحانه بأفعالنا؟
إذا عرفنا کیفیة تعلّق إرادته تعالى، فسنعرف کیفیة خالقیته بالنسبة لأفعالنا، ولذلک یجب علینا هنا أن نرکّز البحث على معرفة کیفیة تعلّق الإرادة الإلهیة .
لقد تعلّقت الإرادة الإلهیة منذ الأزل بأن یصدر کل معلول من علّته الخاصة به، وأن تصدر کل ظاهرة من سببها المخصوص بها، بمعنى أنّ الإرادة الإلهیة قد تعلّقت منذ الأزل بأن تلقی الشمس أشعتها ـ دون شعور منها ـ على الأرض، وأن یمتص النحل رحیق الأشجار والأزهار بفعل الغریزة أو بدافع الشعور، ولکن بلا اختیار ولا إرادة ولا حریة، وأن تبنی بیوتها کذلک مسدسة، وکذلک تعلّقت إرادته تعالى بأن یأتی الإنسان بأفعاله باختیار منه وحریة.
وبعبارة أُخرى قد تعلّقت إرادة اللّه سبحانه بوجود الإنسان وفعله، وصدور فعله منه بالاختیار، فاللّه سبحانه کما شاء وجود الإنسان شاء صدور فعله منه بلا جبر ولا اضطرار، فلو فرضنا صدور فعله منه بالاضطرار لزم تفریق إرادته سبحانه من مراده وهو أمر محال.
وعلى الجملة انّ اللّه سبحانه لم یشأ من الإنسان أن یصدر منه الفعل على وجه الإطلاق مختاراً أو مضطراً، وإنّما شاء أن یصدر منه الفعل بإرادته واختیاره، ولو صدر بغیر هذا الوجه لزم تخلّف إرادته عن مراده.
_____________________________________ [الصفحة 363] _____________________________________
ومعلوم أنّ مثل هذه الإرادة الأزلیة التی تعلّقت بأفعال الإنسان مضافاً إلى أنّها لا تخالف حریة الإنسان تکون مؤکدة لحریته واختیاره، فکما أنّ إرادة اللّه نافذة وماضیة إذا تعلّقت بوجود الشیء، فهکذا نافذة إذا تعلّقت بصدور شیء على نحو خاص، فلو صدرت والحال هذه ـ على غیر هذا النحو ـ لزم صدور الشیء على خلاف إرادته تعالى.
وحیث إنّ اللّه أراد أن یکون الإنسان حراً مختاراً آتیاً بفعله باختیاره فلابد أن تتنفذ إرادة اللّه بأن یأتی الإنسان بأفعاله حسب اختیاره وحریته، وإذا أتى بأفعاله باختیار منه وحریة، تحققت حینئذ مشیئة اللّه فی شأنه، تلک المشیئة التی شاءت أن یکون الإنسان مختاراً فی أفعاله.
وإذا فرضنا أنّه یصدر منه الفعل بنحو الجبر ودون اختیاره یلزم أن لا یکون فعل الإنسان حینئذ مطابقاً للمشیئة الإلهیة وأن لا تتحقّق هذه المشیئة الربانیة مع أنّ من الضروری أنّ إرادة اللّه لابد أن تتحقّق ولابد أن تتنفذ.
وخلاصة القول: إنّ أصل وجود الإرادة الأزلیة للّه لا یکون ـ بتاتاً ـ موجباً للجبر ولا یکون رافعاً للاختیار، بل یجب علینا أن ننظر إلى کیفیة تعلّق تلک الإرادة أوّلاً ثم نصدر أحکامنا فی هذا المجال.(1)
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . هذا الجواب یرجع إلى ما ربما یقال أنّ اللّه خلق الإنسان وخلق فیه (جبراً) قوة الاختیار فی الأفعال بمعنى أنّه لا یجبره شیء فی کل فعل یصدر منه. نعم أنّ العبد وإن کان مجبولاً على الاختیار وخُلق على الحریة التامة لکن حریته وکونه مختاراً لا یخرج عن حیطة إرادة اللّه ومشیئته إذ لا یمکن أن یوجد شیء فی صفحة الوجود ویکون خارجاً عن مشیئته وإرادته بتاتاً، فصدور الفعل عن العبد عن اختیار، غیر خارج عن حیطة إرداته. وعلى القارئ الکریم أن یرجع للمزید من التوضیح إلى المثال الذی ذکرناه فی صفحة 349 فإنّه یصور کیفیة إرادته سبحانه وإرادة العبد.
_____________________________________ [الصفحة 364] _____________________________________
إنّ جمیع الظواهر الکونیة ومنها أفعال البشر وإن کانت داخلة فی إطار الإرادة الإلهیة ولیس شیء منها یتحقّق بلا إذنه وإرادته، ولکن یجب علینا أن نعرف کیفیة تعلّق إرادته سبحانه بالظواهر الکونیة عامة وأفعال البشر خاصة، فنقول: إنّ إرادته سبحانه تعلّقت بصدور کل شیء عن مبادیه الخاصة، فلو کان الفاعل مضطراً ومجبوراً، فقد تعلّقت إرادته بصدور فعله عنه بالجبر والاضطرار وان کان الفاعل مریداً مختاراً تعلّقت إرادته بصدور فعله عنه بالإرادة والاختیار.
إنّ الإرادة الإلهیة الأزلیة إنّما تکون موجبة للجبر ومستلزمة له فی صورة واحدة بینما لا تکون مستلزمة للجبر فی صورة أُخرى، فإن قلنا بأنّ الإرادة الإلهیة تعلّقت بصدور کل ظاهرة من علّتها لا عن اختیار، ففی هذه الصورة تکون الإرادة الإلهیة موجبة للجبر، ولکنّنا إذا اعتبرنا العالم هذا عالم الأسباب والمسببات وتصوّرنا لکلّ معلول علّة خاصة به واعتبرنا الإنسان ـ من بین هذه الأسباب والعلل ـ فاعلاً مختاراً وقلنا بأنّ الإرادة الإلهیة تعلّقت منذ الأزل بأن یصدر الفعل البشری منه بکامل اختیاره وحریته، ففی هذه الصورة بین هذا وبین الجبر مئات الفراسخ والأمیال.
جواب على سؤال
لو قال أحد: إذا کان عالم الممکنات بکل خصائصه وآثاره مخلوقاً للّه، ومنبعثاً عن إرادته ومشیئته، فقدرته وسعت کل شیء وشملت کل الوجود بلا استثناء إذن، فکیف یمکن أن تنسب أفعال البشر القبیحة إلى اللّه سبحانه؟
هل یمکن أن نسند الظلم والأفعال القبیحة إلى اللّه ونعتبرها مرادة ومخلوقة له، وهو القائل:
_____________________________________ [الصفحة 365] _____________________________________
(قُلْ إِنَّ اللّهَ لا یَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ).(1)
والقائل:
(وَمَا رَبُّکَ بِظَلاَّم لِلْعَبِیدِ).(2)
فهل من الصحیح أن نعتبره خالق المفاسد والمعاصی والرذائل؟ وماذا یعنی من کونه: (خَالِقُ کُلِّ شَیْء) ؟
أفلیس یفید قوله تعالى: (لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ کُلّ شَیْء)(3) أنّ خالقیته تشمل کل ما فی الوجود وکل ما یکون مصداقاً للشیء؟
وبعبارة أُخرى: أفلا یستفاد من الآیة التی تقول: (الَّذِی أَحْسَنَ کُلَّ شَیْء خَلَقَهُ)کما فی سورة السجدة الآیة 7، أنّ کل ما هو مخلوق للّه فهو متصف بالحسن والجمال، وبعید عن القبح بحیث یمکن أن یقال أنّ الخلق والحسن متلازمان فی خلق اللّه لا ینفکان ولا ینفصلان؟ فإذا کان اللّه خالق کل شیء، فکیف یمکن أن یوصف الظلم ـ مثلاً ـ بالحسن وهو کما نعلم من القبائح المسلمة؟
على أنّ المشکلة لا تنحصر فی مسألة الأفعال القبیحة التی یفعلها الناس بل تصدق على مسألة الآفات والبلایا والشرور، فکیف تصدر من اللّه هذه الحوادث المستقبحة التی تصیب البشر، وتشقیه؟
ولنوضح الإشکال بصورة أکثر جلاء فنقول:
إنّ الإشکال یرد ـ على القائلین بأنّ (اللّهُ خَالِقُ کُلِّ شَیْء) على الإطلاق ـ
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . الأعراف: 28.
2 . فصلت: 46.
3 . الأنعام: 102.
_____________________________________ [الصفحة 366] _____________________________________
فی موردین:
1. الأعمال القبیحة التی تصدر من العباد، فکیف یمکن أن تکون مخلوقة للّه؟ وهذا هو ما دفع بعض أهل الکلام إلى أن ینسبوا کل أفکار البشر وأفعاله خیرها وشرها بنحو مطلق إلى البشر نفسه، وأن یقطعوا وینکروا أی ارتباط وصلة بین هذه الأفکار والأفعال وبین المقام الربوبی، وقد دفعهم إلى هذا الاعتقاد تصور أنّ اسناد أفعال البشر إلى اللّه یستلزم أن یکون الظلم مخلوقاً للّه سبحانه .
2. انّ هناک فی عالم الکون أُموراً تدعى بالشرور والبلایا، فکیف یصح أن نعتبر اللّه الحکیم خالقاً لهذه الشرور والآفات؟! وهذا هو ما تسبب فی أن یظهر فریق باسم المجوس یعتقدون بخالقین للکون:
أ. خالق للخیر یدعى یزدان.
ب. خالق للشر یدعى اهریمن.
فکیف یواجه القرآن هذین الفریقین وهو یؤکد على وحدة الخالق، وما هو جوابه علیهما؟
الجواب
أمّا الأفعال القبیحة فإنّ لها جانبین: وبتعبیر آخر: انّ هذه الأفعال یمکن أن تطالع من جانبین:
1. الجانب الوجودی، الإثباتی.
2. الجانب العدمی، السلبی.
فالفعل على وجه الإطلاق لا یکون قبیحاً إذا طالعناه من الجانب
_____________________________________ [الصفحة 367] _____________________________________
الوجودی ویکون قبیحاً إذا طالعناه من الجانب الثانی (أی الجانب العدمی السلبی).
خذ مثلاً: اللقاء الجنسی الذی یتم بین الرجل المرأة بصورة غیر مشروعة، فإنّ مثل هذا اللقاء غیر المشروع لا یختلف عن اللقاء المشروع فی الجوانب الوجودیة، فکلاهما سواء من حیث إنّ العملین نتیجة الفعالیة الجنسیة غایته انّ التفاوت بین هذین اللقاءین هو أنّ العمل الأوّل غیر مأذون به من قبل اللّه أو السلطة التشریعیة فی حین أنّ العمل الثانی مأذون به من قبل اللّه أو موافق لرأی السلطة التشریعیة.
وعلى هذا فإنّ عامل القبح فی الزنا هو صفة اللامشروعیة التی هی أمر عدمی وسلبی مائة بالمائة، والذی تتعلّق به القدرة إنّما هو الجانب الوجودی، للشیء ولیس الجانب العدمی السلبی متعلّقاً بها، لأنّ الأُمور العدمیة والجوانب السلبیة أقل من أن تتعلّق بها القدرة الإلهیة بل یستحیل تعلّق عملیة الخلق بها.
وانّک ـ بالإمعان فی هذا المثال ـ بإمکانک أن تتناول بالتحلیل غیر عمل الزنا من القبائح کالظلم والخدعة والخیانة والجنایة، فالظلم ـ مثلاً ـ إنّما یکون قبیحاً، لأنّه یؤدی إلى ذهاب حق المظلوم ویوقف نمو المجتمع وتقدّمه، وهذا بما أنّه أمر عدمی لیس متعلّقاً للقدرة والإرادة الإلهیة.
تحلیل عن الشرور
إنّ السؤال السابق بعینه ینطرح بالنسبة إلى الآفات والبلایا کالزلازل والسیول وغیرها، وقد بحثه المسلمون فی کتبهم الکلامیة والفلسفیة، ولکنّنا بغیة إکمال هذا القسم نعمد إلى بحثه بصورة مختصرة.
_____________________________________ [الصفحة 368] _____________________________________
لو تناولنا بالتحقیق کل ما یسمّى شراً، لتبیّـن لنا أنّ تلک الصفة ناشئة من کون الشیء مصحوباً بالعدم، فالمرض ـ على سبیل المثال ـ إنّما یکون شراً وغیر مطلوب، لأنّ المریض ـ حال مرضه ـ یکون فاقداً للصحة والعافیة، وهکذا بالنسبة إلى الأعمى والأصم، فحیث إنّ السمع والبصر من لوازم الحیاة عند البشر لکونهما موجبین لکماله، لذلک یکون فقدانهما شراً وأمراً غیر مطلوب، ولکن العمى أو الصمم لیس شیئاً وجودیاً فی الإنسان الأعمى والأصم، إنّما هو فقدان وصفی السمع والبصر وعدمهما لیس غیر .
فما العمى أو الصمم ـ فی الواقع ـ سوى حالة الفقدان والعدمیة؟
من ملاحظة هذه النقطة ومقارنة کل الأُمور والموارد المعدودة من الشرور مع المثال المذکور، یتبین أنّ الشر ملازم لنوع من العدم الذی لا یحتاج إلى موجد وفاعل، بل هو عین ذلک الفقدان، فکل البلایا والشرور والقبائح إنّما تکون إذن شروراً وأُموراً غیر مطلوبة لکونها فاقدة لنوع من الوجود أو مستلزمة ومصحوبة بنوع من العدم.
وقس على ذلک الحیوانات المفترسة والضارة والآفات فکلّها إنّما تکون شراً لأنّها تجر إلى فقدان سلسلة من الأُمور والجهات الوجودیة، لأنّ کل هذه الأشیاء (الحیوانات المفترسة والمضرة والآفات) توجب الموت وفقدان الحیاة أو فقدان عضو من الأعضاء، أو قوة من القوى، أو تتسبب فی منع نمو القابلیات والاستعدادات وتحوّلها إلى مرحلة الفعلیة، فلو کانت هذه الشرور کالزلازل والآفات الحیوانیة والنباتیة لا تنطوی على مثل هذه النتائج لما عدت شروراً، ولما کانت أُموراً قبیحة غیر مطلوبة.
_____________________________________ [الصفحة 369] _____________________________________
وعلى هذا فإنّ الموت والجهل والفقر إنّما تکون شروراً لکونها ترافق أنواعاً من العدم، فالعلم کمال وواقعیة یفقدها الجاهل، والحیاة حقیقة وکمال یفقدها المیت، والفقیر هو ـ بالتالی ـ من یفقد المال الذی یعیش بسببه.
خلاصة القول
إنّه لیس فی هذا الوجود إلاّ نوع واحد من الموجودات، وهو ما یکون خیراً وجمیلاً وحسناً.
أمّا الشرور فهی من نوع العدم ، و العدم لیس مخلوقاً ، بل هو من باب عدم الخلق ولیس من باب خلق العدم.
ولهذا (أی الوجود الخیر فقط) لا یمکن أن یقال أنّ للعالم خالقین: أحدهما خالق الخیر، والآخر خالق الشر، إنّ مثل الوجود والعدم مثل الشمس والظل، فعندما نقیم فی الشمس شاخصاً یحدث على الأرض ظل بسبب ذلک الشاخص الذی منع من وصول النور .
وما الظل فی الحقیقة إلاّ عدم النور، لأنّ الظل هو الظلمة، والظلمة لیست إلاّ عدم النور، فلا یصح أن نتساءل ـ هنا ـ : ما هی حقیقة الظل؟ إذ لیست للظل واقعیة خارجیة وحقیقة عینیة تقابل حقیقة النور وجوهره، إنّما الظل هو : عدم النور ومعنى هذا أنّه لیس للظل أو الظلمة منبع ینبعان، ومنشأ ینش آن منه.
هذا ولصدور الآفات والشرور من جانب اللّه توجیهات أُخرى نذکرها فیما یأتی.
_____________________________________ [الصفحة 370] _____________________________________
جواب آخر حول الشرور
فی التحلیل ـ المذکور فیما سبق ـ بیّنا بوجه مبسوط أوّل الأجوبة التی یجیب بها العلماء على الثنویین، واتضح أنّ الشر أمر عدمی، والأمر العدمی الذی هو نوع من الفقدان لا یحتاج إلى خالق وفاعل وموجد، وفیما یلی نعمد إلى توضیح ثانی أجوبتهم.
الشر أمر نسبی
إنّ لفظة الحقیقی و النسبی من الألفاظ الرائجة فی اصطلاح العلماء کما هی تستعمل فی کثیر من العلوم الإنسانیة والتجریبیة، وإلیک توضیحها:
کل موجود نصفه بصفة أمّا أنّه موصوف بتلک الصفة فی کل حال مع قطع النظر عن أی شیء وهذه ما نسمّیها بـ الصفة الحقیقیة، مثلاً صفة الحیاة ثابتة للموجود الحی على وجه الحقیقة، ولا حاجة إلى توصیفه بصفة الحیاة إلى أی نوع من المقارنة والمقایسة ولأجل ذاک تکون الحیاة بالنسبة للحی صفة حقیقیة، ووصفه بالحیاة توصیفاً حقیقیاً وواقعیاً.
فکون المتر یتألف من (100) سنتیمتر واقعیة ثابتة للمتر فی جمیع الحالات، ولا حاجة لتوصیف المتر بهذه الکمیة إلى أی نوع من المقایسة بشیء.
ویقابل الوصف الحقیقی الوصف النسبی، بمعنى أنّ الشیء ما لم یقس ویقارن بشیء آخر، وما لم یکن هناک موجود آخر لا یمکن توصیف الشیء بصفة.
فالصغر والکبر ـ مثلاً ـ من الأوصاف التی لا یمکن أن یوصف بهما شیء من الأشیاء إلاّ إذا کان هناک شیء ثان یقاس به هذا الشیء، حتى یمکن أن یقال
_____________________________________ [الصفحة 371] _____________________________________
فی شأنه هذا أصغر وهذا أکبر أو هذا صغیر وذاک کبیر، فإنّ الصغر والکبر وصفان لا یصدقان على شیء إلاّ بعد مقارنته بشیء آخر،فالکرة الأرضیة ـ مثلاً ـ إنّما یمکن وصفها بالصغر والکبر ویقال الکرة الأرضیة صغیرة أو کبیرة إذا ما قیست بکرة الشمس والقمر فحینئذ یصح قولنا: الکرة الأرضیة أصغر من الشمس وأکبر من القمر،فالصغر والکبر لیسا وصفین حقیقیین بالنسبة إلى الأرض بحیث یدخلان فی حقیقة الأرض وإلاّ لما أمکن وصفها بوصفین متضادین، بل هما وصفان نسبیان وحالتان للأرض یعرضان لها کلّما قیست إلى الکرتین الشمس و القمر ویمکن وصف الأرض بهما فی تلک الحالة، وبذلک لا یکون هذان الوصفان حقیقیین.
من هذه المقارنة والبیان یمکن استنباط نتیجة فلسفیة هامة، وهی: انّ الصفات الحقیقیة على غرار موصوفاتها التی تتمتع بواقعیة لا تنکر على صعید الخارج، إنّما تحتاج إلى جاعل وخالق.
وأمّا الصفات النسبیة حیث إنّـها لیست بذات واقعیة خارجیة، بل هی ولیدة الذهن، ونتیجة أفکارنا لدى المقایسة لا تکون محتاجة إلى الخالق والموجد، إذ لا واقعیة خارجیة لها حتى تکون محتاجة إلى موجد.
إنّ حیاة الخلیة أو وصف المتر بکونه مائة سنتیمتر من الأُمور التی تتمتع بالواقعیة الخارجیة، فما لم یکن وراؤهما واقعیة أُخرى (ونعنی الخالق)، لما تحقّقا على صعید الخارج، ولما کان لهما حظ من الوجود خارج عالم الذهن حسب قانون العلیة.
ولکن الصغر والکبر فی المقابل بالنسبة إلى الأرض لیسا لهما واقعیة خارج الذهن لکی یحتاجان إلى الخالق والموجد.
_____________________________________ [الصفحة 372] _____________________________________
إنّ المحتاج إلى الموجد والخالق إنّما هو وجود نفس الکرة الأرضیة، وأمّا صغرها وکبرها فهو ولید الذهن والفکر الذی ینشأ من مقارنة جسمین ببعضهما.
من هذا البیان یمکن معرفة حقیقة الشرور والآفات وأنّها من أی نوع من هذین النوعین من الصفات.
هل هی من الصفات الحقیقیة؟
أو هی من الصفات النسبیة؟
بمراجعة سریعة وتحقیق عاجل یمکن معرفة أنّ الشرور أُمور نسبیة لا حقیقیة بمعنى أنّ صفة الشر لیست جزءاً من ذوات وحقائق الأشیاء الموصوفة بالشر ، بل الشر حالة تنسب إلى شیء من الأشیاء عندما یقاس إلى شیء آخر، فسم الحیة والعقرب وغزارة المطر لا تکون شراً إذا ما قیست بنفس الأشیاء، بل هی مبعث کمالها وموجب لبقائها واستمرار حیاتها ووجودها، إنّما هی شر إذا ما قیست إلى الإنسان وتضرر البشر بها فالمطر الغزیر مثلاً لا یکون شراً فی حد ذاته بل عندما یقاس بشیء آخر اتصف حینئذ بهذا الوصف، فلو نزل المطر الغزیر فی فصل مناسب أحیا الزرع والنبات واخضرت بسببه المزارع والحدائق وکان خیراً، ولکنّه یکون شراً من جهة کونه موجباً لانهدام الأکواخ فی الصحارى والبراری، وعلى هذا فإنّ الخیر والشر لو کانا من الأوصاف الحقیقیة وکان لهما حظ من الوجود لأمکن وصح حینئذ أن نسأل عن موجدها وخالقها ونقول: إنّ المبدأ الذی یتصف بالخیر المطلق لا یمکن أن یکون خالق الشرور، ولذلک نضطر إلى افتراض خالق آخر (غیر خالق الخیر) یکون خالق الشرور وموجودها.
ولکنّ الحق أنّه لیس للشرور واقعیة خارجیة لیتعلّق بها جعل وخلق،
_____________________________________ [الصفحة 373] _____________________________________
وعلى هذا فإنّ ما یکون له حظ من الوجود الخارجی کسم العقرب لا یکون مستغنیاً عن الخالق، ولکن شرّیة هذا السم لیست لها واقعیة لتنضم إلى وجود السم فتکون ردیفة للسم فی عالم الوجود والکون، ولأجل هذا لا تحتاج شرّیة السم إلى خالق، ویکون البحث عن خالقها لغواً لا معنى له، لأنّ الشر ـ بالمعنى الذی ذکرناه ـ لیس بذات واقعیة خارجیة کیما یفتقر إلى الفاعل.
وبعبارة أُخرى انّه لیس من الصحیح أن یقال أنّ اللّه بخلقه للعقرب خلق شیئین وفعل أمرین: خلق ذات العقرب مع شرها، بل فعل اللّه سبحانه شیئاً واحداً، وهو أنّه تعالى ألبس هذا الموجود لباس الوجود، وإنّما الإنسان هو الذی یصف هذا العقرب بالشرّیة والقبح عندما یقیسه إلى شیء آخر.
من هنا یمکن إدراک حقیقة الجملة التی یرددها الفلاسفة عند بیان نسبة الشرور إلى اللّه إذ یقولون:
جمیع الموجودات من حیث کونها تتحلّـى بالوجود فهی مخلوقة للّه بالذات، وأمّا من حیث اتصافها بالشرّیة فلیست موضع إرادته سبحانه بل هی ذات نسبة عرضیة ومجازیة إذا قیست إلى مبدأ الخلق(1).
وهناک أجوبة أُخرى عن وجود الشر فی صفحة الوجود نترکها رعایة للاختصار.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 . هذا هو تفصیل قولهم: الشرور لیست مجعولة بالذات بل هی مجعولة بالتبع والعرض.
_____________________________________ [الصفحة 375] _____________________________________
الفصل الثامن [375-423]نظریة الأشاعرة فی الصفات [320-330]
12
13
14
15
16
17
18
19
20
Lotus
Mitra
Nazanin
Titr
Tahoma