قال اللّه تعالى:
(فَأَقِمْ وَجْهَکَ لِلّدِینِ حَنِیفاً فِطْرةَ اللّهِ الَّتِی فَطَرَ النَّاسَ عَلَیْهَا لا تَبْدِیلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذَلِکَ الدِّینُ الْقَیِّمُ وَلَکِنَّ أَکْثَرَ النَّاسِ لا یَعْلَمُونَ)(1)
ففی هذه الآیة لم تجعل مسألة معرفة اللّه والإیمان به فقط أمراً، فطریاً بل وصف الدین بأُصوله 1 . الروم: 30.
_____________________________________ [الصفحة 42] _____________________________________
(والتی تعنی تلک الأُصول والکلیات التی تؤلّف أساس الدین الإلهی) بکونه فطریاً جبلیاً.(1)
ویشهد الواقع على ذلک إذ نرى أنّ کل التعالیم الّتی جاء بها الدین من عقیدة وعمل، تنطبق على مجموع الاحتیاجات الفطریة سواء بسواء.(2)
والإمعان فی الآیة المذکورة یفیدنا أنّ الدین عجن بفطرة البشر عجناً، فإذا هو منها وإذا هی منه، وجزء من کیانه.
وحقیقة الدین لیست سوى الطریق الأفضل الذی یجب أن تسلکه البشریة للوصول إلى السعادة.
وبتعبیر آخر: انّ الهدف والغایة من خلق البشر لیس إلاّ الحصول على السعادة والکمال، وقد هدى اللّه تعالى کل فرد من أفراد البشر بل وکل نوع من أنواع مخلوقاته إلى ذلک إذ جهزه بما یوصله إلى شواطئ السعادة المنشودة والکمال المطلوب بوسیلة مناسبة.
وقد أشار الکتاب العزیز بصراحة إلى هذه الهدایة التکوینیة العامة والتی لا تقتصر على بنی آدم بل تشمل کل الکائنات على الإطلاق.
1 . الاستدلال بالآیة فی المقام موقوف على کون الدین بمعنى مجموع العقیدة والشریعة لا بمعنى الطاعة کما هو الظاهر من قوله تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِیَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِینَ لَهُ الدِّینَ)(البینة: 5) أی مخلصین له الطاعة. فإنّ الدین فی تلک الآیة وأضرابها بمعنى الطاعة. فلو قلنا بکون الدین فی هذه الآیة بمعنى الطاعة، لصارت من شواهد التوحید فی الطاعة. غیر أنّ مشاهیر المفسرین قد فسروا الدین فی الآیة المبحوثة هنا بمجموع العقیدة والشریعة، وجعلوا العقائد الإسلامیة وأُصول الشریعة وکلیّاتها (لا جزئیاتها وتفاصیلها) من الأُمور الفطریة.
2 . هذا بالإضافة إلى أنّنا نجد أغلبیة الناس یمیلون إلیها طوعاً ورغبة إذا عرضت علیهم على النحو الصحیح، وإذا هم تجرّدوا عن العصبیة ـ الهادی ـ .
_____________________________________ [الصفحة 43] _____________________________________
فقد صرح بذلک فی آیات أُخرى مضافاً إلى ما سبق، إذ قال:
(رَبُّنُا الَّذِی أَعْطَى کُلَّ شَیْء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) (1).
(الَّذِی خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِی قَدَّرَ فَهَدَى)(2).
هذه الآیات تفید ـ بوضوح کامل ـ أنّ اللّه زوّد کل کائنات هذا العالم ـ بشراً وغیر بشر ـ بهدایة فطریة تکوینیة تتبین بموجبها طریقها فی الحیاة فتأخذ ما یناسبها وتدع ما لا یناسبها، وتعینها تلک الهدایة الفطریة على معرفة ما هو مفید لها وما هو مضر .
وفی خصوص الهدایة الفطریة التی زود بها البشر خاصة یقول القرآن الکریم :
(وَنَفْس وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا)(3).
(أَلَمْ نَجْعَل لَهُ عَیْنَیْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَیْنِ* وَهَدَیْنَاهُ النَّجْدَیْنِ) (4) .
(مِنْ نُطْفَة خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبیلَ یَسَّرَهُ)(5).
کل هذه الآیات حاکیة عن أنّ جمیع الموجودات ـ أعم من الإنسان وغیر الإنسان ـ تعیش فی ظل هدایة تکوینیة فطریة، هدایة تقودها إلى الکمال المنشود المطلوب.
والهادی للإنسان فی هذا المسیر إنّما هو خلقته وتکوینه. وجمیع البشر سواسیة فی هذه الموهبة الإلهیة المعنویة ونعنی الهدایة الفطریة فلم یفضل اللّه فیها
1 . طه: 50.
2 . الأعلى: 2 ـ 3.
3 . الشمس: 7 ـ 8.
4 . البلد: 8 ـ 10.
5 . عبس: 19 ـ 20.
_____________________________________ [الصفحة 44] _____________________________________
بعضاً على آخر، ولم یعطها لفریق ویحرم منها آخرین. إنّما هی فطرة فطر علیها عامة البشر بلا استثناء إذ یقول:
(فطرة اللّه التی فطر الناس علیها لا تبدیل لخلق اللّه) .
فلم یخلق جماعة على غریزة الإیمان، وجماعة أُخرى على غریزة الإلحاد. جماعة على المیل إلى الخیر ،
وجماعة أُخرى على المیل إلى الشر .
کلاّ ، إنّما هی فطرة واحدة فطر علیها جمیع الناس دون تمییز وتفضیل . إذ لا ریب أنّه لو لم یقم مجتمع ما على أساس مشترک لما أمکن سوقه إلى هدف الخلقة (ونعنی به التکامل).
فإذا کانت التعالیم الدینیة بأُصولها ذات طابع فطری وصفة جبلیة، فمن الأحرى أن تکون مسألة معرفة اللّه والإیمان به التی تعد أساس کل التعالیم الدینیة أمراً فطریاً کذلک.